أى : لقد كفر أولئك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة كفرا شديدا بينا والحق أنه ليس في الوجود سوى إله واحد مستحق للعبادة ، وإن لم يرجع هؤلاء الذين قالوا بالتثليث عن عقائدهم الزائفة وأقوالهم الفاسدة ويعتصموا بعروة التوحيد (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أى : ليصيبن الذين استمروا على الكفر منهم عذاب أليم.
فالجملة الكريمة تحذير من الله ـ تعالى ـ لهم عن الاستمرار في هذا القول الكاذب. والاعتقاد الفاسد الذي يتنافى مع العقول السليمة ، والأفكار القويمة.
وقوله : (لَيَمَسَّنَ) جواب لقسم محذوف ، وهو ساد مسد جواب الشرط المحذوف في قوله (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) والتقدير : والله إن لم ينتهوا ليمسن.
وأكد ـ سبحانه ـ وعيدهم بلام القسم في قوله (لَيَمَسَّنَ) ردا على اعتقادهم أنهم لا تمسهم النار ، لأن صلب عيسى ـ في زعمهم ـ كان كفارة عن خطايا البشر.
وعبر بالمس للإشارة إلى شدة ما يصيبهم من آلام : لأن المراد أن هذا العذاب الأليم يصيب جلدهم وهو موضع الإحساس فيهم إصابة مستمرة ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١).
وقال ـ سبحانه ـ (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالتعبير بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم ؛ لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.
ومن في قوله (مِنْهُمْ) يصح أن تكون تبعيضية أى : ليمسن الذين استمروا على الكفر من هؤلاء النصارى عذاب أليم ، لأن كثيرا منهم لم يستمروا على الكفر بل رجعوا عنه ودخلوا في دين الإسلام.
ويصح أن تكون بيانية ، وقد وضح ذلك صاحب الكشاف بقوله : ومن في قوله : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) للبيان كالتي في قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).
والمعنى : ليمسن الذين كفروا من النصارى خاصة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أى نوع شديد الألم من العذاب .. كما تقول : أعطنى عشرين من الثياب. تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون» (٢).
وبعد هذا الترهيب الشديد للكافرين من العذاب الأليم ، فتح لهم ـ سبحانه ـ باب رحمته ، حيث رغبهم في الإيمان ، وأنكر عليهم تقاعسهم عنه بعد أن ثبت بطلان ما هم عليه من عقائد فقال ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
__________________
(١) سورة النساء : الآية ٥٦
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٤