والمعنى : إن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. قد قالوا منكرا وزورا ، إذ ليس الألوهية إلا لله وحده وليس المسيح عيسى ابن مريم سوى بشر من البشر ورسول مثل الرسل الذين سبقوه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل الذين مضوا دون أن يدعى واحد منهم الألوهية. وأما أم عيسى مريم فما هي إلا أمة من إماء الله كسائر النساء ديدنها الصدق مع خالقها ـ عزوجل ـ أو التصديق له في سائر أمورها. وهما ـ أى عيسى وأمه مريم ـ عبدان من عباد الله كانا يأكلان الطعام ، ويشربان الشراب ويتصرفان كما يتصرف سائر البشر فكيف ساغ لكم ـ يا معشر النصارى ـ أن تصفوهما بأنهما إلهين مع أن طبيعتهما الظاهرة أمامكم تتنافى تنافيا تاما مع صفات الألوهية : إن وصفكم لهما بالألوهية لدليل واضح على فساد عقولكم وضلال تفكيركم ، وعظيم جهلكم.
وقوله (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) جملة مشتملة على قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافى ، أى أن المسيح مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها وهي الألوهية فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في عيسى أنه الله ، أو أنه جزء من الله أو أنه أحد آلهة ثلاثة.
وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة للرسول وهو عيسى أريد بها بيان أنه مساو للرسل الكرام الذين سبقوه في تبليغ رسالة الله إلى الناس ؛ وأنه ليس بدعا في هذا الوصف وإذا فلا شبهة للذين زعموا انه إله لأنه لم يجيء بشيء زائد على ما جاء به الرسل.
وقوله. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) معطوف على قوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) والقصد من وصف مريم بذلك مدحها والثناء عليها ، ونفى أن يكون لها وصف أعلى من ذلك ، فهي ليست إلها. كما أنها ليست رسولا.
ولذا قال ابن كثير : دلت الآية على أن مريم ليست بنبية ـ كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم عيسى ونبوة أم موسى ـ استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ـ قال تعالى ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١).
وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) جملة مستأنفة لبيان خواصهما الآدمية بعد بيان منزلتهما السامية عند الله ـ تعالى ـ وقد اختيرت هذه الصفة لهما من بين صفات كثيرة كالمشرب والملبس. لأنها صفة واضحة
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨١