ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال».
* *
ومن السهل علينا بعد ذلك أن ندرك أن فضيلة الحمد صفة نفسية قلبية عقلية ، تظهر آثارها على اللسان أو الجوارح بالأقوال والأعمال ، وإذا كان من طبيعة الفضيلة الأخلاقية أن تستقر وتستمر وتدوم ، فإن فضيلة الحمد إذا تحققت في الإنسان كان لها هذا الاستمرار والاستقرار. لأن نعم الله تعالى كثيرة موصولة ، لا يستطيع عقل الإنسان أن يحيط بها : «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» والإنسان منا إذا حمد ربه جل جلاله ، فإنما يحمده بتوفيق من الله وإعانة ، وهذا التوفيق والإعانة نعمتان من الله تستحقان أيضا الحمد ، فكأن الإنسان لا يستطيع القيام بشكر ربه إلا عن طريق نعمة أخرى ، وهذه النعمة الأخرى تستحق الحمد ، وهكذا تتوالى النعم فيستمر الحمد.
والإنسان المتحلي بفضيلة الحمد لا يحمد ربّه على النعم التي تصله فقط ، بل هو يحمد الله تعالى لأنه المنعم ، سواء أكان إنعامه عليه أم على سواه ، فالحمد فيه معنى التقدير للنعمة ، سواء أكانت هذه النعمة قد وصلت الحامد نفسه أو وصلت غيره ، ونعم الله موصولة عامة شاملة لهذا وذاك وذلك ، وهي من قديم كانت ، وفي الحاضر تكون ، وفي المستقبل ستكون ، ولذلك عاد الرازي يقول : «الحمد لله له تعلق بالماضي ، وتعلق بالمستقبل ، أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة ، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل ، لقوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). والعقل أيضا يدل عليه ، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى وأبواب معرفته ومحبته ، وذلك من أعظم النعم ، فلهذا كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران ، وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان ؛