لا يستحي في بلد غربته كما يستحي إذا كان بين أهله ومعارفه ، وهو حينئذ مملوك ، والمملوك لا يكون له في العادة ما للحر من وازع ، والتي تغريه بالفاحشة امرأة ذات جمال وإغراء ، وهي سيدته التي تأمره ، وعليه في عرف الناس أن يطيع ، وهي التي تدعوه وتحرّضه في حرص وشغف ، وهي تتوعده وتنذره بالعذاب إن لم يستجب لهواها ، ومع ذلك أبى وأعرض ، وصبر اختيارا وإيثارا لما عند الله : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ، كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
* *
وكثير من الناس يظنون أو يزعمون أن الصبر خلق سلبي ، وأن معناه الاستسلام والرضى بالواقع والكف عن معالجة الأمور والاحتيال للخروج من الشدائد والأزمات ، وهذا فهم خاطىء ووهم فاسد ، فالصبر كما يكون جهدا نفسيا للتأبي على المعاصي والابتعاد عن السيئات ، يكون في كثير من الأحيان جهدا عمليا إيجابيا ، فيه حركة ، وفيه سعي ، وفيه انتاج ، وفيه تحمل للتبعات وتعرض لجلائل الأعمال ومواقف الأبطال ، وقد فهم ذلك البصراء من أعلام هذه الأمة ، حتى في المجال الصوفي الذي يقال عنه إنه يميل الى السلبية والرضى بالواقع ، ففي الأدب الصوفي جاء قولهم : «الصبر تعويد النفس الهجوم على المكاره». وجاء فيه أيضا قولهم : «تجرّع الصبر (احتمله) فإن قتلك قتلك شهيدا ، وإن أحياك أحياك عزيزا». وكذلك قال عمرو بن عثمان : «الصبر الثبات مع الله ، وتلقّي بلانه بالرحب والدعه».
والصبر لا يناقض الإحساس بالألم ، لأن هذا الاحساس أمر طبيعي ليس معيبا ، وإنما المعيب هو الخضوع لهذا الإحساس والرضا به ، أو الاستجابة