جاء في بعض الأحاديث أن الحلم من سنن المرسلين ، ولما كان سيدنا رسول الله محمد هو إمام النبيين وخاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، كان من الطبيعي أن يوضع في يده زمان الامامة الخلقية بين هؤلاء الكرام ، فلم يكن غريبا أن يوجهه ربه تعالى الى قمة هذه الزعامة حين يقول له : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ثم يمن عليه بما يسر له من أسباب هذه الزعامة الخلقية فيقول له : «فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».
ولقد بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حلمه الغاية المثالية ، والدلائل على ذلك كثيرة وفيرة ، منها أن أعرابيا جاءه يوما يسأله شيئا من المعونة ، فأعطاه ، ثم قال له : هل أحسنت اليك يا أعرابي؟ فاندفع الأعرابي بجهالة يقول : لا أحسنت ولا أجملت. فهمّ الصحابة يريدون البطش بالأعرابي ، فمنعهم الرسول ، وأخذ الأعرابيّ الى بيته ، وزاده في العطاء ، ثم قال له : هل أحسنت اليك؟. قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النبي : إنك قلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. قال : نعم.
فلما كان الغداة ـ أو العشي ـ جاء الأعرابي فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه ، فزعم أنه رضي ، أكذلك؟. فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال النبي : «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلّوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض (١) فردها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها ،
__________________
(١) أي من حشائشها.