فاسِقُونَ). ولقد قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت حينما نال المسلمون رزقا ونعمة ، ففتر بعضهم عما كان عليه ، ويروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال : «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين». ويا لها من تربية سامية عالية صارمة ، تقوم على أساس القول المأثور : «حسنات الأبرار سيئات المقربين». وكذلك يروى أن عبد الله بن عباس قال في شأن هذه الآية : «إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن».
وحينما أمر الله عباده بأمرين جليلين عظيمين هما الصبر والصلاة ، أتبع أمره بالإشارة إلى أن التخلق بهما منزلة عالية ومهمة شاقة ، لا تتيسر إلا للمتخلقين بخلق الخشوع الصادقين فيه ، فقال في سورة البقرة : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).
والمراد بالخاشعين هنا ـ والله أعلم بمراده ـ هم المتواضعون لله الخائفون منه ، فإنهم ـ كما في «مجمع البيان» للمفسّر الطبرسي ـ قد وطّنوا أنفسهم على الصبر وإقام الصلاة ، وقال مجاهد : أراد بالخاشعين المؤمنين ، فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعل الصبر والصلاة لم يثقل عليهم ذلك ، كما أن الإنسان يتحمل مرارة الدواء لما يرجو به من نيل الشفاء.
وهذا هو «تفسير المنار» يتعرض للجملة القرآنية الكريمة : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) فيقول : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي لثقيلة شديدة الوقع ، كقوله : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) إلا على المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى ، فهؤلاء هم الذين يستفيدون بالصلاة والصبر كلّ الخلائق الحسنة ، لما تعطيه الصلاة من مراقبة الله تعالى ، كما قال عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ). فمن خواص الصلاة الصبر ونفي الجزع ، ومن خواصها النهي عن الفحشاء والمنكر ، ومن خواصها الجود والسخاء ، فالمصلّي الحقيقي