والعبودية حين تتحقق لصاحبها على حقيقتها ووجهها السليم الكريم تجعله من حزب الأتقياء الأوفياء المسارعين الى المغفرة والطاعة ، والذين يصفهم الإمام علي في «نهج البلاغة» فيقول عنهم فيما يقول :
«قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة ، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسّرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها ، أما الليل فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن ، يرتلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم.
فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم اليها شوقا ، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطّلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم.
وأما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح (السهام) ، ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول قد خولطوا (جنّوا) ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكّي أحدهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي مني بنفسي ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون» الخ.
* *
ثم يأتي حديث الصوفية عن فضيلة «العبودية» ، فإذا هو حديث الذين يريدون أن نفهم عنهم أن العبودية ليست مجرد القيام بالشعائر والعبادات ، ولا مجرد الترديد للأوراد والأحزاب ، ولا مجرد الظهور بالخشوع والهدوء ، وإنما