وجهها ويخشع فيها ، وعند الحاجة إلى العون يغيث الملهوف وينجد المكروب ويساعد المحتاج ، وعند تلاوة القرآن يقبل عليه ويتدبره ويخشع له ، وهكذا.
ويرى ابن القيم أن هذا هو التعبد المطلق ، وهو شغل كل وقت بما يناسبه من طاعة وعبادة. ويقول : «وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت ، فمداره تعبده عليها ، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية ، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره اليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى.
فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره ، فان رأيت العلماء رأيته معهم ، وإن رأيت العبّاد رأيته معهم ، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم ، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلوب على الله رأيته معهم ، فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه ، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات ، بل هو على مراد ربّه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه».
ومعنى هذا أن الذي تتحقق له فضيلة «العبودية» يكون دائما مع الله ، ساعيا في سبيل الله ، خادما لعباد الله ، مظهرا السكينة والتذلل لجلال الله ، نائيا عن الفساد والافساد في أرض الله ، مسخرا كلّ طاقاته في العمل بطاعة الله ، ففيه عبودية اللسان الذي ينطق بذكر الله ، ويرتل كلام الله ، ويتعود الكلمة الطيبة ، فيدعو الى الخير ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وفيه عبودية السمع ، فيصغي الى ما يجب استماعه من توجيه أو نصح أو إرشاد ، وهو يتذكر قول ربه عز من قائل : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقوله عن خيار عباده : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، وفيه عبودية النظر ، فلا ينظر إلا ما يحسن به النظر اليه ، وهو لا ينسى قول خالقه : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).
* *