بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال ، متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال ، إلا أنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو من المراقبة ، وإن غلب عليهم الحياء من الله تعالى ، فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت والتدبر ، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة ، فإنهم يرون الله في الدنيا مطّلعا عليهم ، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة.
ومن فضل الله العميم على صاحب فضيلة المراقبة أنه إذا صدق في مراقبة الله جل جلاله في باطنه وخواطره ، عصمه الله من الاثم والانحراف في جوارحه وظاهره ، ولذلك أجمع الصوفية ـ كما يذكر ابن القيم ـ على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر ، فمن راقب الله في سرّه حفظه في حركاته وعلانيته. وهذا الحفظ الالهي يجعل العبد المؤمن في حال الرضى والأمن والاطمئنان ، فالمراقبة لا تستلزم الخوف الفازع ، أو الرعب الهالع ، بل إن المراقب الصادق يجد لذة روحية ونفسية في بلوغه هذه المرتبة السامية ، التي تجعله مستغنيا بالله عن سواه ، راضيا به عما عداه ، ولذلك قال أحد الصوفية : «إذا كان سيدي قريبا مني فلا أبالي بغيره».
ومن أعظم ثمرات المراقبة أنها تجعل المؤمن مشتغلا بحاضره ليملأه بأفضل ما تملأ به الأوقات ، ولقد جاء في الأثر الاسلامي الكريم أن المؤمن ابن وقته ، أي يشغل نفسه بما هو فيه ، لا يتحسر على ما فات ، ولا ينشغل بمستقبل لم يتحقق بعد ، بل ينتهز ما بين يديه من وقت ، فيتفرغ له ، ويحصر جهده فيه ، فإن قدر الله تعالى له مزيدا من الوقت تابع خطواته على طريق الاتقان المستمر وإن لم يتح له وقت لقي الله ربّه وهو على خير ، وما أروع عبارة «الاحياء» حين تقول في ذلك :
«الساعات ثلاث : ساعة مضت لا تعب فيها على العبد ، كيفما انقضت : في مشقة أو رفاهية ، وساعة مستقبلة لم تأت بعد ، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ، ولا يدري ما يقضي الله فيها ، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها