ثم يتأكد من وجه أدائه ، أو حالة أدائه ، أيؤديه عن علم ، أم يؤديه بجهل أو ظن ، ثم يتأكد أيضا من توافر الاخلاص في أدائه ، وأنه لا يريد به المراءاة للعباد ، ولذلك روى أبو نعيم في كتابه «الحلية» أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات». وكذلك قال : «ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل إيمانه : لا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يرائي بشيء من عمله ، وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا».
والمراقبة السويّة قد تبلغ عند المؤمن رتبة تجعله يتذكر على الدوام أن الله تعالى مراقب له ، فيراقب المؤمن مراقبة الله له ، حتى يتجرد من الشهوات فتتابع إرادته إرادة ربه في كل صغيرة وكبيرة ، فلا يكون منه اعتراض على شيء مما شرعه الله أو دعا إليه أو أمر به ، ولا يكون منه في الدين رأي أو خاطر يستحسن شيئا حراما ، أو يستقبح شيئا شرعه الله عزوجل ، فهو لا يحكّم شهوته ولا عقله ولا مصلحته ولا تأويله فيما شرع الله ، بل يتلقى كل ذلك بالرضى والقبول ، ومن هنا قال ابن عطاء الله : أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات. وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله ، وتعظيم ما عظّم الله ، وتصغير ما صغّر الله.
ومتى تحققت عند الانسان فضيلة المراقبة فقد حرص على أداء حقوق الله وحقوق العباد وحقوق الأشياء كلّها بإتقان وإحسان.
وما أحوج مجتمعاتنا إلى وجود هذه الفضيلة بين الأفراد واجماعات ، لأن انعدام وازع المراقبة في نفس الانسان يجعله شبيها بالحيوان ، يرتع ليتمتع ، ويجمع لينتفع ، ويسطو على حقوق غيره ، وينتهك حرمات سواه ، ويسيء استخدام حقوق نفسه ، وبذلك تفشو الرذائل ، وتضمر الفضائل ، ويتعامل الناس بشرعة الغاب دون ارعواء أو حساب. ولو وجدت فضيلة المراقبة عند الانسان لجعلته أمينا على الأعراض لا يدنو منها ، ولو كان السبيل إليها ميسّرة