قال ابن رجب : والمعنى المقتضى لتحريم الغناء : أن النفوس مجبولة على حب الشهوات كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ) (١) الآية. فجعل النساء أول الشهوات المزنية والغناء المشتمل على وصف ما جبلت النفوس على حبه والشغف به ، من الصور الجميلة يثير ما كمن فى النفوس من تلك المحبة ويشوق إليها ويحرك الطبع ويزعجه ويخرجه عن الاعتدال ويؤزه إلى المعاصى أزا ... وقد افتتن بسماع الغناء خلق كثير فأخرجهم استماعه إلى العشق وفتنوا فى دينهم فلو لم يرد نص صريح فى تحريم الغناء بالشعر الّذي توصف فيه الصور الجميلة لكان محرما بالقياس على النظر إلى الصور الجميلة التى يحرم النظر إليها بالشهوة بالكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من علماء الأمة فإن الفتنة كما تحصل بالنظر والمشاهدة فكذلك تحصل بسماع الأوصاف واجتلائها من الشعر الموزون المحرك للشهوات ولهذا نهى النبي صلىاللهعليهوسلم أن تصف المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها (٢) لما يخشى من ذلك من الفتنة وقد جعل النبي صلىاللهعليهوسلم «زنا العينين النظر وزنا الأذنين الاستماع» (٣) (٤). اه
تنبيه : الإمام أحمد ـ كما هو واضح من مجموع الروايات عنه ـ وكما بينه آنفا ابن رجب ـ كغيره من العلماء يمنع من الغناء ولا يرخص فيه البتة ومن حكى عنه الرخصة ـ فإنما أراد بذلك سماع القصائد الزهدية المجردة ففى ذلك عنه روايتان. فليتنبه لهذا.
يقول ابن الجوزى : وقد ذكر أصحابنا عن أبى بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء وإنما أشار إلى ما كان فى زمانهما من القصائد الزهديات (٥) وعلى هذا يحمل ما لا يكرهه أحمد ويدل على ما قلت أن أحمد بن حنبل سئل عن
__________________
(١) سورة آل عمران / ١٤.
(٢) رواه البخارى ٩ / ٣٣٨ وغيره.
(٣) رواه مسلم ٤ / ٢٠٤٧ ونحوه عند البخارى ١١ / ٢٦.
(٤) نزهة الأسماع ص : ٥٧ ـ ٦٧.
(٥) قال ابن رجب : وإنما أرادوا سماع هذه القصائد الزهدية المرققة لم يرخصوا فى أكثر من ذلك. نزهة الأسماع ص : ٧٢.