وأعجب شيء منعهم من القتل ، وهذا عون منهم على بقاء المزاج ، وعلى منع الخلاص وتأخره ، وكان القتل أبلغ شيء في تمام مرادهم وبغيتهم من تعجيل الخلاص واستنقاذ النور وقطع المزاج. وهذا تناقض ظاهر منهم لا خفاء به ، وبالله تعالى نتأيد.
وكل ما قدمنا من البراهين على حدوث العالم ، وإيجاب النهاية في جرمه وأشخاصه وأزمانه فهو لازم للأصلين النور والظلمة على أصول المانية ، وعلى كل من يقول بأن الفاعل أكثر من واحد ، وأنه لم يزل مع الفاعل غيره لزوم ضرورة. وبالله تعالى التوفيق.
وأما الاستدلال الثاني الذي عوّلوا فيه على أقسام من يفعل أفعالا مختلفة فهو استدلال فاسد أيضا ، لأنهم إنما عوّلوا فيه على الأقسام الموجودة في العالم.
وقد قدمنا البراهين الضرورية على حدوث العالم ، وعلى أنّ محدثه لا يشبهه في شيء من الأشياء ، فلا سبيل إلى أن يدخل تحت شيء من أقسام العالم ، لكنه تعالى يفعل الأشياء المختلفة والأشياء المتفقة مختارا لكل ذلك كما شاء وحين شاء ، لا علة لشيء من ذلك ، إذ قدّمنا أنّ كل ما حصرته الطبيعة فهو متناه ، والمتناهي محدث على ما قدّمنا ، وكل من فعل فعلا واحدا لا يفعل غيره فإنما يفعل بطباعه كالنار التي لا تفعل إلا فعلا واحدا وهو الإحراق ، وتصعيد الرطوبات ، وسائر ما يفعل بطباعه. فلو كان الباري تعالى لا يفعل إلا فعلا واحدا لوجب أن يكون ذا طبيعة ، وإذ ليس ذا طبيعة فواجب في العقل ألا يكون يفعل فعلا واحدا بل أفعالا مختلفة ، وبطلت الأقسام الأربعة التي قدمنا من أن يكون ذا قوة مختلفة أو فاعلا بآلات ، أو فاعلا باستحالة ، أو فاعلا في أشياء ، لأن هذا كله يقتضي أن يكون محدثا تعالى الله عن ذلك ، وهو لم يزل ، فقد وجب ضرورة أن يكون الباري تعالى يفعل ما يشاء من مختلف ومتفق ، مختارا دون علة موجبة عليه شيئا من ذلك ، ولا بقوة هي غيره. وبالله تعالى التوفيق.
وكلّ ما ألزمناه من يقول إنّ العالم لم يزل من البراهين الضرورية فهو لازم للمانية ، والدّيصانية ، والمرقونية ، والقائلين بأزلية الطبائع والهيولى ، لأن العالم عند هؤلاء ليس هو شيئا غير تلك الأصول التي لم تزل عندهم ، وإنما حدثت فيهم عندهم الصورة فقط.
ويدخل أيضا عليهم القول بتناهي الأصلين لأنهما عندهم جسمان ، والجسم متناه ضرورة لبرهانين نوردهما إن شاء الله تعالى. وذلك أننا نقول :
لا يخلو كل جرم من الأجرام من أن يكون متحركا أو ساكنا.