قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عوّل عليه القائلون بالدّهر قد تقصيناها لهم. ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحدا واحدا.
إفساد الاعتراض الأول
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئا حدث إلّا من شيء أو في شيء :
هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة ، أو لا يدرك شيء من الحقائق إلّا من طريق الرؤية فقط؟
فإن قالوا : إنه قد تدرك حقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه ، إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة ، وقد نفوا ذلك قبل هذا.
فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلّا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى.
فإن قالوا : لا يدرك شيء إلّا من طريق الرؤية والمشاهدة.
قيل لهم : فهل شاهدتم شيئا قط لم يزل؟
فلا بدّ من نعم أو لا. فإن قالوا لا ، صدقوا وأبطلوا استدلالهم. وإن قالوا : نعم ، كابروا وادّعوا ما لا سبيل إلى مشاهدته ، إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أوّل بلا شك ، وذو الأول هو غير الذي لم يزل ، لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ، ولا سبيل إلى أن يشاهد ما له أوّل ما لا أوّل له مشاهدة متصلة. فبطل هذا الاستدلال على كل وجه. والحمد لله رب العالمين.
إفساد الاعتراض الثاني
قال «أبو محمد» : (رضي الله عنه) : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنّه ، أو لعلّة : هذه قسمة ناقصة. وينقص منها القسم الثالث وهو الصحيح وهو أنه فعل لا لأنّه ، ولا لعلّة أصلا ، لكن كما شاء.
لأن كلا القسمين المذكورين أوّلا ، وهما : أنّه فعل لأنّه ، أو لعلّة ، فقد بطلا بما قدّمنا هنالك ، لأن العلّة توجب إما الفعل وإمّا الترك ، وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصحّ بذلك أنّه لا علّة لفعله أصلا ، ولا لتركه البتة.