على قدم فمنعهم وأنكر ذلك عليهم ، وأعلمهم أن القيام لله تعالى لا لخلقه ، ورضوا بالسجود له فاستعظم ذلك وأنكره إلّا لله وحده ، ولا شكّ في أنّ هذه ليست صفة طالب دنيا أصلا ، ولا صفة راغب في غلبة ، أو بعد صيت ، بل هذه حقيقة النبوة الخالصة لمن كان له أدنى فهم ، فهذا هو الحق لا ما تدّعيه النصارى من الكذب البحت ، في أن الملوك دخلوا دينهم طوعا ، وقد كذبوا في ذلك لأنّ أول ملك تنصّر «قسطنطين» باني القسطنطينية بعد نحو ثلاثمائة عام من رفع المسيح عليهالسلام ، فأيّ معجزة صحّت عنده بعد هذه المدّة ، وإنما نصّرته أمّه لأنها كانت نصرانية بنت نصراني تعشّقها أبوه فتزوجها ، هذا أمر لا تناكر بين النّصارى فيه ، والنشأة لا خفاء بما تؤثّره في الإنسان ، وأمّا من اتّبع النبيّ صلىاللهعليهوسلم فإنهم اتبعوه إذ بلغهم خبره في حياته عليهالسلام للآيات التي كانت له بحضرة جميع أصحابه كإعجاز القرآن ، وانشقاق القمر ، ودعاء اليهود إلى تمنّي الموت وإخبارهم بعجزهم عن ذلك ، وأنّهم لا يتمنونه أصلا ، والإنذار بالغيوب ، ونبعان عين تبوك ، فهي كذلك إلى اليوم ، ونبعان الماء من بين أصابعه بحضرة العسكر ، وإطعامه النفر الكثير من طعام يسير مرارا جمّة بحضرة الجموع وإخباره بأكل الأرضة (١) كل ما في الصحيفة على بني هاشم وبني المطلب حاشا أسماء الله تعالى فقط ، وإنذاره بمصارع أهل بدر بحضرة الجيش ، موضعا موضعا ، وبالنور الواقع في سوط الطفيل بن عمرو الدّوسي ، وحنين الجذع بحضرة جميعهم ، ودفع أربد عنه ، وقضاء غرماء جابر ، وتزويد عمر أربعمائة راكب من تمر يسير بقي بجنبه ، ورميه هوازن بتراب عمّ عيونهم ، وخروجه بحضرة مائة من قريش ، وهم لا يرونه ، ودخول الغار ، وهم لا يرونه ، وفتح الباب في حجر صلد في جنب الغار لم يكن قط فيه ، ولو كان هنالك يومئذ لما أمكنه الاختفاء فيه لأنه ليس بين البابين إلا أقل من ثمانية أذرع ، وهو ظاهر إلى اليوم ، كل عام وكل حين يزوره أهل الأرض من المسلمين ، ولو رام فتح الباب الثاني في ذلك الحجر أهل الأرض ما قدروا على إزاحته سالما عن مكانه ، ولو كان ذلك الباب هنالك حينئذ لرآه الطالبون له بلا مئونة ، ولأنهم لم يكونوا إلّا جمع قريش لعلهم مؤن كثيرة ، وآثار رأسه المقدس في ذلك الحجر ، وآثار كتفه ومعصمه وظاهر يده باق إلى اليوم ، فعل الله تعالى ، نقل الكواف جيلا عن جيل.
ورمي الجمار الذي رميه ما لا يحصيه إلّا تعالى كل عام ثم لا يزيد حجمه في ذلك المكان.
__________________
(١) الأرضة : دويبة بيضاء تشبه النملة تظهر في أيام الربيع. والأرضة أيضا : دودة أو دويبة تأكل الخشب ونحوه (المعجم الوسيط : ص ١٤).