لفاتت الحكمة المطلوبة منها ، كما اقتضت الحكمة أن يظهر بعضها ويحتجب بعضها ، فلا تظهر كلها دفعة واحدة ، ولا تحتجب دفعة واحدة ، بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة ، وجعل بعضها ظاهرا لا يحتجب أصلا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر ؛ فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاءوا.
ثم تأمل حال النجوم واختلاف مسيرها ، ففرقة منها لا تريم مراكزها من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة كالجيش الواحد ، وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتتفرق في مسيرها ، وكل واحد منها يسير سيرين مختلفين. أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب ، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق ، وذلك من أعظم الدلالات على الفاعل المختار العليم الحكيم وعلى كمال علمه وحكمته.
وتأمل كيف صار هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع المستمر بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص ولا يختل نظامه ، بل هو تقدير العزيز العليم ، كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه ، قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام : ٩٦).
وتأمل الحكمة في تعاقب الحر والبرد على هذا العالم وتعاورهما عليهما في الزيادة والنقصان والاعتدال ، وما فيهما من المصالح والحكم للأبدان والشجر والحيوان والنبات ولو لا تعاقبهما لفسدت الأبدان والأشجار وانتكست.
ثم تأمل دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسل ، فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء ، والآخر يزيد مثل ذلك ؛ حتى ينتهي كل واحد منتهاه في الزيادة والنقصان ولو دخل أحدهما على الآخر فجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها ؛ كما لو خرج الرجل من مكان شديد الحر إلى مكان مفرط في البرد وهلة ؛ فإن ذلك يضر به جدا ، ولو لا الحر لما نضجت هذه الثمار المرة العفة القاسية ، ولا كانت تلين وتطيب وتحسن وتصلح لأن يتفكه بها الناس رطبة ويابسة.