إنكار العقل للأول القبول وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول ولا يمكن العقل الصريح أن يقبل الأول ويرد الثاني أبدا.
(فصل) ثم أنه سبحانه لو لم تقبل الإشارة الحسية إليه كما أشار إليه النبي صلىاللهعليهوسلم حسا بإصبعه بمشهد الجمع الأعظم (١) وقبل ممن شهد لها بالإيمان الإشارة الحسية إليه (٢) فإما أن يقال : إنه يقبل الإشارة المعنوية فقط أو لا يقبلها أيضا كما لا يقبل الحسية. فإن لم يقبل لا هذه ولا هذه ، فهو عدم محض ، بل العدم المقيد المضاف يقبل الإشارة المعنوية دون الحسية ، وإن قبل الإشارة الحسية لزم أن يكون معني المعاني ، لا ذاتا خارجية. وهذا مما لا حيلة في دفعه. فمن أنكر جواز الإشارة الحسية إليه فلا بد له من أحد أمرين : إما أن يجعله معدوما أو معنى من المعانى. لا ذاتا قائمة بنفسها.
الوجه الثامن والأربعون : إن من أعجب العجب أن هؤلاء الذين فروا من القول بعلو الله واستوائه على عرشه خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنه لا يمكنهم إثبات الصانع إلا بنوع من التشبيه والتمثيل ، كما قال الآمدي في مسألة حدوث الأجسام ، لما ذكر شبه القائلين بالقدم ، قال : الوجه العاشر : لو كان حدثا ، فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه ؛ أو مخالفا له من كل وجه ، أو مماثلا له من وجه مخالفا له من وجه ، فإن كان الأول فهو حادث ، والكلام فيه كالكلام في الأول ، ويلزم التسلسل الممتنع. وإن كان الثاني ، فالمحدث له ليس بموجود ، وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه ، وهو خلاف الفرض ، وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون مفيدا للوجود ، وإن كان الثالث ، فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا. والكلام فيه كالأول ، وهو التسلسل المحال ، وهذه المحالات إنما نشأت من القول بكونه محدثا للعالم.
__________________
(١) يشير إلى الحديث في خطبة الوداع وفيه أنه صلىاللهعليهوسلم قال : اللهم فاشهد ـ رافعا إصبعه إلى السماء وقد تقدم تخريجه.
(٢) يشير إلى حديث الجارية التي سألها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أين الله؟ فأشارت إلى السماء وأقرها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد تقدم تخريجه.