بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين جملتين ، إحداهما قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فهذه هى الصغرى ، والكبرى محذوفة تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول. وذلك سند المقدمة الأولى ، وهو أيضا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف : ١٢) المقدمة الثانية كلها معلومة ، أي ومن خلق من نار خير ممن خلق من طين. فهما قياسان متداخلان ، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة ، فالقياس الأول هكذا : أنا خير منه ، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه. وهذا من الشكل الأول. والقياس الثاني هكذا : خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين. فنتيجة هذا القياس العقلي : أنا خير منه. ونتيجة الأول : فلا ينبغي أن أسجد له. وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم التي عارضوا بها الوحى والكل باطل.
وقد اعتذر أتباع الشيخ أبي مرة بأعذار (منها) أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل. (ومنها) أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله : (اسْجُدُوا) ولا عموم له فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. (ومنها) أنه وإن كان اللفظ عاما فإنه خصه بالقياس المذكور. (ومنها) أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب بل حمله على الاستحباب لأنه المتيقن ، أو على الرجحان دفعا للاشتراك والمجاز (ومنها) أنه حمله على التراخي ولم يحمله على الفور. (ومنها) أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه.
وبالله تأمل هذه التأويلات. وقابل بينها وبين كثير من التأويلات التي يذكرها كثير من الناس. وفي بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه ، ولهم في ذلك تصانيف ، وكان بشار بن برد الشاعر الأعمى على هذا المذهب ، ولهذا يقول في قصيدته :
الأرض مظلمة سوداء معتمة |
|
والنار معبودة مذ كانت النار |
ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل ، وعلم أنه لا شيء