الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر ، والمجبول على الثبات والبقاء ، لا من جواهر هذا العالم الفاني الكثير الأدناس والأوساخ والأقذار.
ولما كان هذا الحجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقوله (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (الأنبياء : ١٨).
ونظير هذا قوله تعالى (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الزمر : ٤) وقال تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ، انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة : ٧٥) : وقد تضمنت هذه الحجة دليلين يبطلان إلهية المسيح وأمه.
(أحدهما) حاجتهما إلى الطعام والشراب وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما ، بل هي محتاجة فيما يعينهما إلى الغذاء والشراب ، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلها إذ من لوازم الإله أن يكون غنيا.
(الثاني) أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحى من التصريح بذكرها. ولهذا ـ والله أعلم ـ عبر الله سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة ، فكيف يليق بالرب سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدا من هذا الجنس ، ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأولى به أن يكون من جنس لا يأكل ولا شرب ، ولا يكون منه الفضلات المستقذرة.
من ذلك قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف : ١٧ ـ ١٨) احتج سبحانه على هؤلاء الذين جعلوا له البنات بأن أحدهم لا يرضى بالبنات ، وإذا بشر أحدهم بالأنثى حصل له من الحزن والكآبة ما ظهر منه السواد على وجهه ، فإذا كان أحدكم لا يرضى بالإناث بناتا فكيف تجعلونها لي كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) (النحل : ٦٢).