وبالجملة عفوه سبحانه عن الذنب في نفسه أمر ممكن ، وقد أخبر في نصّ الكتاب بوقوعه ، فلا مناص عن الأخذ به ، بلا حاجة إلى تأويل ، وليس في هذا أيّ شائبة للظلم والتسبّب في الوقوع في المعصية ؛ فإنّ ذلك ليس إلّا إخبارا عن العفو عن بعض المذنبين وهو من يشاء الله العفو عنه ، ويكفي في الارتداع عن المعصية الجزم باستحقاق العقاب مع احتمال عدم العفو ، لشكّه في كونه ممّن يشاء الحقّ العفو عنه (١).
قال سيدنا المجتهد الكبير السيد محمد الجواد الطباطبائي التبريزي قدسسره : إنّ الأمر كما ذكره الأعلام من مشايخنا العظام قدّس الله أسرارهم من جواز العفو عن المذنب من غير توبة ولا محذور فيه ، والدليل عليه من وجهين : عقلي ونقلي ، وتوضيح ذلك بعد بيان مقدمتين:
الأولى : أنّ أفعال الله تعالى مبتنية على أساس متين ونظام صحيح لا مجازفة ولا عبث في فعله ، فكل ما يصدر عنه هو مقتضى العلم بالنظام الأصلح ، فشمول عفوه ورحمته لمورد دون مورد إنّما هو لاختلاف في القوابل وتفاوت في الاستعدادات ، وإليه يشير في الدعاء «وأعلم أنّك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة» وفي التنزيل : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) فلا بخل في المفيض وإنّما النقص في المستفيض.
الثانية : أنّ استحالة الترجيح بلا مرجّح إنّما هو فيما إذا لم يكن مرجّح في البين أصلا ، وأمّا إذا كان المرجّح ، وهو الفائدة المخرجة للفعل عن العبثية موجودة في نوعه دون شخصه ، فلا استحالة فيه كما هو المشاهد في قدحي العطشان ورغيفي الجوعان وطريقي الهارب من السبع ، وإنكار ذلك مكابرة واضحة.
وقد استدل الفخر الرازي لما ذكرنا من ناحية الفلكيات حيث قال ما محصّله : إنّ كلّ كرة تدور على قطبين معيّنين ، فإذا كان الفلك متشابه الأجزاء ومتساوي النسبة من
__________________
(١) كتبه دام ظلّه في رسالة خاصة بعث بها سماحته دام وارف ظلّه إلى السيد الفاضل الجليل طاهر السيد عبد الله أبي رغيف ـ وأدرجها هو في كتابه النفيس اللطيف التوبة والعفو الإلهي وأخذنا من أبحاث كتابه ونقلناها في هذه التعاليق التي كتبناها في بحث العفو الإلهي.