أقول : هذا السبب الذي تخيّله ابن كثير نحته ولفّقه بذهنه الفاسد الكاسد ، كما يومئ إلى ذلك قوله : «فلذلك والله أعلم لمّا رجع رسول الله صلىاللهعليهوآله من حجّته ...» الخ. والله تعالى هو العالم أنّ السبب الذي ذكره ابن كثير هو كذب محض لا مسحة له من الواقع ، وإنّما تخيّله تأييدا لما يدّعيه أكثر الجمهور من أهل السنة أنّ مقصود رسول اللهصلىاللهعليهوآله من خطبة الغدير كان إبلاغ لزوم محبّة أمير المؤمنين عليهالسلام إلى الناس ، لا النصّ عليه بالإمامة والوصاية والخلافة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ومعلوم أنّ ما ذهب إليه أكثر الجمهور فقد تحقّق بطلانه ووضح خلافه.
وما تخيّله ابن كثير من السبب لم يقل به أحد من الصحابة والتابعين ، وهو نفسه نقل حديث الغدير في تاريخه متواترا ، كما اعترف به وإن ناقش في بعض أسناده وخصوصياته ، ودحض شبهاته علّامتنا الأكبر والمتضلّع الأعظم شيخنا الأميني قدسسره في كتابه الخالد الممتع الغدير. فهو سبب منحوت من ابن كثير وأمثاله. وهب فرضا أنّا سلّمنا أنّه كان السبب في خطبة الغدير هو الذي ذكره ابن كثير ، مع ذلك فقد نصّ رسول الله صلىاللهعليهوآله فيها لأمير المؤمنين عليهالسلام بالولاية والإمامة والخلافة ، كما هو واضح مكشوف لمن راجع قصة الغدير والخطبة التي خطبها رسول الله صلىاللهعليهوآله في ذلك الحشد العظيم كما في رواية الطبري وغيره فراجع.
ومن المضحك قول الآلوسي في مختصر التحفة : وقد أورد هذه القصة محمد بن إسحاق وغيره من أهل السير مفصّلة (١).
فأراد المسكين أن يلتبس الأمر على الأذهان الساذجة ، فإنّ قصة الجيش نقلها محمد بن إسحاق ، ولكن لم يشر أصلا إلى أنّها السبب لخطبة الغدير ، ولم يتفوّه به أحد من الصحابة والتابعين ممّن روى حديث الغدير.
فالذي نقله محمد بن إسحاق فقد هذّبه ونقله ابن هشام في السيرة ، ويظهر من ابن إسحاق أنّ الخطبة التي خطبها رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد شكوى الجيش إنّما كانت في مكّة
__________________
(١) مختصر التحفة ، ص ١٦٢.