أردتم الأول فهو مسلم. لكن لا نسلم أن فعل من كان مطابقا للمصلحة من بعض الوجوه ، يدل على كون الفاعل عالما. لأن الأفعال الصادرة عن النائم والساهى ، قد تكون مطابقة للمصلحة من بعض الوجوه ، مع انها لا تدل على علم فاعلها البتة. وان أردتم الثانى ، فلا نسلم أن هذه الحوادث والتركيبات مطابقة للمصلحة من كل الوجوه. وظاهر أن الأمر ليس كذلك. فانه لا شيء من مفردات هذا العالم ومركباته. الا وهو مصلحة من وجه ومفسدة من وجه آخر.
نزلنا عن مقام الاستفسار ، لكن لا نسلم أن الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما. والدليل عليه وجوه :
الأول : وهو أن البيوت المسدسة التى بنتها النحل من غير مسطرة ولا بركار ، لا يقدر عليها الانسان. والبيت الّذي يتخذه العنكبوت من تلك الخيوط من غير شيء من الآلات والأدوات لا يقدر عليه الانسان. فلو دل ذلك على علم الفاعل ، لزم أن تكون هذه الحيوانات أكثر علما من الانسان. ومعلوم أن ذلك باطل.
الثانى : وهو أن الفعل المحكم المتقن قد يصدر مرة واحدة من الجاهل. وهذا مشاهد. واذا جاز صدوره مرة واحدة ، جاز صدوره ثانيا وثالثا. لأن الأشياء المتماثلة حكمها حكم واحد. واذا كان كذلك ، بطلت دلالة الفعل المحكم على علم الفاعل.
سلمنا : أن فاعل الفعل المحكم لا بد له من ادراك وشعور ، لكن لم لا يكفى فيه الظن؟ ولم قلتم : انه لا بد له من العلم؟ والدليل عليه : هو أن أكثر هذه الأفاعيل العجيبة الصادرة من الناس ، انما تصدر عنهم حال كونهم ظانين ، لا حال كونهم قاطعين. أقصى ما فى الباب : أن يقال : أن الظان قد يخطئ كثيرا ، الا أنا نقول : المصالح الحاصلة فى تركيبات هذا العالم غير خالية عن المفاسد. ولعل هذه المفاسد انما وقعت لأجل أن فاعلها ظان لا عالم.