الفصل الثانى
فى
بيان أن كنه حقيقة الله تعالى ، وان لم يكن
الآن معلوما. فهل يصح أن يصير معلوما للبشر؟
اعلم : أنا اذا رأينا الاحتراق حاصلا فى الجسم ، علمنا : أنه لا بد لذلك الاحتراق من محرق. وذلك المحرق معلوم ، لكن علمنا (يكون) بالتبع والعرض. فانا لا نعلم فى هذا الوقت أن ذلك المحرق ما هو؟ بل أنه شيء ما ، معين فى نفسه ، مجهول التعين عند العقل. ومن لوازمه : حصول هذا الاحتراق. وأيضا : اذا وجدنا فى أنفسنا ألما ولذة وغما وفرحا. فهذه الماهيات معلومة علما لا بالتبع والعرض ، بل بالذات والحقيقة. وهذه المرتبة أقوى وأجلى من المرتبة الأولى. وأيضا : اذا أدركنا بالعين لونا وضوءا ، ثم غمضنا العين ، فانا ندرك تفرقة بديهية بين الحالتين ، مع أن العلم بذلك اللون المخصوص حاصل فى الحالتين. وتلك التفرقة هى المسماة بالرؤية.
اذا عرفت هذا فنقول : انا اذا استدللنا بوجود الممكنات على وجود الصانع ، فقد حصل النوع الأول من العلم والمعرفة. أما النوع الثانى والثالث فهل هو ممكن الحصول؟ قال بعضهم : هذا غير ممكن. لأنه غير متناه ، والعقل متناه ، وادراك غير المتناهى بالمتناهى محال.
ومن المحققين من توقف فى جوازه وامتناعه. وقال : لا سبيل للعقل الى معرفة هذه المضايق ، بل السمع لما دل على أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة ، دل ذلك على كون هاتين المرتبتين ممكنتين. ولا شك أنه لا حال للبشر أشرف من هاتين الحالتين. فنسأل الله أن يجعلنا بفضله أهلا لها. والله الموفق والمعين.