زكريا يناجي ربه
(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) هذا ما تريد السورة أن تذكر المؤمنين به ليعرفوا كيف يرحم الله عباده الصالحين الذين يبتهلون إليه في ما أهمّهم من أمر دنياهم وآخرتهم ، من خلال نموذج مميّز هو عبد الله الصالح زكريا الذي كان يعيش المحبّة لله ، كأعمق ما يعيشه الإنسان المؤمن الصالح أمام ربه ، وكان موضعا لرحمة الله في تفاصيل قصته المثيرة للتفكير وللإيمان ، (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) فقد كان يعيش الإحساس بحضور الله في حياته وهيمنته على وجدانه ، بحيث ينادى بشكل طبيعي ، كما ينادي أي موجود حيّ في عالم الحس والشهود ، لأن غياب الله عن العيان لا يحجب رؤيته في عالم الوجدان. وهكذا وقف زكريا لينادي ربه ، ليسمعه حاجته ، ولكنه لم يطلق صوته عاليا ، بل تحدث بما يشبه الهمس الخفيّ ، لشعوره بالخشوع عند الحديث معه ، وإدراكه بأن الله لا يحتاج إلى الجهر بالصوت ، ليسمع نداء عبده ، لأنه يعلم السرّ وأخفى ، ويسمع وساوس الصدور ، فكيف لا يسمع تمتمات الشفاه؟!
(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) فقد ضعف جسدي ، واختلّت قواه ، ولم يعد هذا العظم الذي يعتمد عليه البدن في حركته وسكونه قادرا على حملي ، لأنه فقد القوة والصلابة اللتين يتوقف عليهما نشاطه ، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فقد انتشر الشيب في رأسي ، تمام كما ينتشر اللهب في الهشيم عند ما تشتعل فيه النار. فقد بلغت سن الشيخوخة التي تعطّل فيّ كل حيوية وقوّة ونشاط في ما أريد القيام به من حركة الحياة ، (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) فقد عودتني أن تستجيب لي كلما دعوتك فأنت الرب العظيم القادر الذي لا يضيق بأي دعاء مهما كان صعبا أو سهلا. ولذلك لم يضعف الأمل في قلبي ولم يهتز ، أمام كل هذا الضعف ، ولم يجد اليأس طريقه إلى وجداني المنفتح على