(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)
(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وتلك هي المعجزة الإلهية الثانية في خلق يحيى ، فقد ألهمه الله الوعي الكامل للحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه ، في كل المواقع التي يبحثون فيها عن الحاكم العادل الذي يعرف الشريعة مصادر وموارد ، ويميز بين مواقعها ، لتتحرك به النظرية في خطوة التطبيق. وهكذا ملأ الحكم كيانه ، وتحرك في كل حياته وهو لا يزال صبيا ، لم يبلغ الحلم ، ولم يصل إلى السن التي تؤهله لتبوّءوا المواقع المتقدمة للحكم في نظر الناس باعتبار أن الحكم هو عنوان كبير لنضج العقل واكتماله ، وسعة المعرفة واتزان المشاعر ، وهي أمور لا تتحقق لصبي في عقله وحركته ، وبالتالي فإنه لا يكون موضعا للثقة ، لأن ذلك يحتاج إلى قطع مراحل طويلة من النمو الطبيعي ومن معايشة التجارب. ولكنها إرادة الله التي تتصل بالحياة ، فتمنحها كل عناصر القوة وكل عوامل السرعة في النمو ، لأن إرادته لا تتخلف عن مراده في قضايا التكوين في ما يجده من أسرار الحكمة في حركة الإنسان في الحياة.
وهذا ما يريده الله لعباده ، في ما يعدّه لهم من مواقع الكرامة ، ومنطلقات الهداية بالأسباب المألوفة أو غير المألوفة. ولم تكن معرفة يحيى للحكم هي كل ما كان يملكه هذا العبد الصالح الداعية ، بل كانت شخصيته جامعة لكل صفات الكمال ، (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) بما أفاضه الله عليه من روحية الحنان الإلهي الذي يغمر قلبه بالخير والرحمة ، فينسكب على حياة الناس رأفة ، وعطفا ، ورحمة ، ومحبة ، فلا يعنف بهم ، ولا يقسو عليهم ، ولا يحملهم ما لا يطيقون ، في ما يحملهم من مسئوليات ، ويدعوهم إليه من قضايا ، ويقودهم إليه من مواقف ... ولعل هذا أقرب إلى الفهم في موقعه الرسالي الذي تلتقي فيه الرسالة بالحكم. وربما فسره بعضهم بأنه نوع عطف وانجذاب خاصّ إلهي