وكان لزرياب جارية اسمها متعة (١) ، أدّبها وعلّمها أحسن أغانيه حتى شبّت ، وكانت رائعة الجمال ، وتصرّفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنّيه مرّة وتسقيه أخرى ، فلمّا فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة ، فأبى إلّا التستّر ، فغنّته بهذه الأبيات ، وهي لها في ظنّ بعض الحفّاظ : [بحر المجتث]
يا من يغطّي هواه |
|
من ذا يغطّي النهارا |
قد كنت أملك قلبي |
|
حتى علقت فطارا (٢) |
يا ويلتا أتراه |
|
لي كان ، أو مستعارا |
يا بأبي قرشيّ |
|
خلعت فيه العذارا |
فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إليه ، فحظيت عنده (٣).
وكانت حمدونة بنت زرياب متقدّمة في أهل بيتها ، محسنة لصناعتها ، متقدّمة على أختها علية ، وهي زوجة الوزير هاشم (٤) بن عبد العزيز كما مرّ ، وطال عمر علية بعد أختها حمدونة ، ولم يبق من أهل بيتها غيرها ، فافتقر الناس إليها ، وحملوا عنها.
وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء ، وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت ، وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد ، وكتب به إلى مولاها : [بحر البسيط]
يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد |
|
ما كنت أحسب هذا الضّنّ من أحد (٥) |
لو أنّ أسماع أهل الأرض قاطبة |
|
أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد |
من أبيات ، فخرج حافيا لمّا وقف على ذلك ، وأدخله إلى مجلسه ، وتمتّع من سماعها ، رحم الله تعالى الجميع!.
وقال علويه : كنت مع المأمون لمّا قدم الشام ، فدخلنا دمشق ، وجعلنا نطوف فيها على أماكن (٦) بني أمية ، فدخلنا قصرا مفروشا بالرخام الأخضر ، وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها
__________________
(١) في ب : «اسمها منفعة».
(٢) علقت : أحببت حبا شديدا.
(٣) حظيت عنده : أصبحت ذات حظوة ، والحظوة : المكانة والمنزلة.
(٤) في ب ، ه «هاشم بن عبد العزيز».
(٥) يضن : يبخل. والغرد : الطائر الذي يرفع صوته في غنائه ويطرب به.
(٦) في ب : «قصور بني أمية».