يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل ، وخفض ما بالإضافة البتة.
(غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة ، واختلف في الغيب هنا ، فقيل : غيب السموات : أكل آدم وحواء من الشجرة ، لأنها أول معصية وقعت في السماء ، وغيب الأرض : قتل قابيل هابيل ، لأنها أول معصية كانت في الأرض. وقيل : غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه ، وغيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء. وقيل : غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى ، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى.
(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال علي وابن مسعود وابن عباس ، رضوان الله عليهم أجمعين : ما تبدون : الضمير للملائكة ، وما كنتم تكتمون : يعني إبليس. فيكون من خطاب الجمع ، ويراد به الواحد نحو : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) (١). وروي أن إبليس مرّ على جسد آدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال : لأمر ما خلق هذا ، ثم دخل من فيه وخرج من دبره وقال : إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف ، ثم قال للملائكة الذين معه : أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ما تصنعون؟ قالوا : نطيع الله ، فقال إبليس في نفسه : والله لئن سلّطت عليه لأهلكنه ، ولئن سلّط عليّ لأعصينه ، فهذا قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) الآية ، يعني : من قول الملائكة وكتم إبليس. وقال الحسن وقتادة : ما أبدوه هو قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) ، وما كتموه قولهم : لن يخلق الله أكرم عليه منا ، وقيل : ما أبدوه قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) ، وما كتموه أضمروه من الطاعة لله والسجود لآدم. وقيل : ما أبدوه هو الإقرار بالعجز ، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليهالسلام. وقيل : هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم ، وهذا هو الظاهر. وأبرز الفعل في قوله : (وَأَعْلَمُ) ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل ، فلا يكون معمولها مندرجا تحت الجملة الأولى ، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار ، إذ جعل مفردا بعامل غير العامل ، وعطف قوله (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) هو من باب الترقي في الإخبار ، لأن علم الله تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته ، جهرا كان أو سرا ، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما
__________________
(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٤.