الثاني بعد رفع عيسى صلوات الله عليه ، وتفرّق اليهود من حينئذ في أقطار الدنيا وصاروا ذمّة ، والنصارى تقتلهم حيثما ظفرت بهم إلى أن جاء الله بالملة الإسلامية ، وهم في تفرّقهم ثلاث فرق ، الربانيون والقرّاء والسمرة.
فأما الربانية : فيقالهم بنو مشنو ، ومعنى مشنو الثاني ، وقيل لهم ذلك لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيا بعد عودهم من الجلاية وخرّبه طيطش وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأوّل الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهماالسلام ، وخرّبه بخت نصر. فصار كأنه يقال لهم أصحاب الدعوة الثانية ، وهذه الفرقة هي التي كانت تعمل بما في المشنا الذي كتب بطبرية بعد تخريب طيطش القدس ، وتعوّل في أحكام الشريعة على ما في التلمود إلى هذا الوقت الذي نحن فيه ، وهي بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية متبعة لآراء من تقدّمها من الأحبار ، ومن اطلع على حقيقة دينها ، تبين له أن الذي ذمّهم الله به في القرآن الكريم حق لا مرية فيه ، وأنه لا يصح لهم من اسم اليهودية إلّا مجرّد الانتماء فقط ، لا إنهم في الإتباع على الملة الموسوية ، لا سيما منذ ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ بعد الخمسمائة من سني الهجرة المحمدية ، فإنه ردّهم مع ذلك معطلة ، فصاروا في أصول دينهم وفروعه أبعد الناس عما جاء به أنبياء الله تعالى من الشرائع الإلهية.
وأما القرّاء : فإنهم بنو مقرا ، ومعنى مقرا الدعوة ، وهم لا يعوّلون على البيت الثاني جملة ، ودعوتهم إنما هي لما كان عليه العمل مدّة البيت الأوّل ، وكان يقال لهم أصحاب الدعوة الأولى ، وهم يحكمون نصوص التوراة ولا يلتفتون إلى قول من خالفها ، ويقفون مع النص دون تقليد من سلف ، وهم مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون ولا يتجاورون ولا يدخل بعضهم كنيسة بعض ، ويقال للقرّائين أيضا المبادية ، لأنهم كانوا يعملون مبادي الشهور من الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر ، ويقال لهم أيضا الأسمعية ، لأنهم يراعون العمل بنصوص التوراة دون العمل بالقياس والتقليد.
وأما العانانية : فإنهم ينسبون إلى عانان رأس الجالوت الذي قدم من المشرق في أيام الخليفة أبي جعفر المنصور ، ومعه نسخ المشنا الذي كتب من الخط الذي كتب من خط النبيّ موسى ، وأنه رأى ما عليه اليهود من الربانيين والقرّائين يخالف ما معه ، فتجرّد لخلافهم وطعن عليهم في دينهم ، وازدرى بهم ، وكان عظيما عندهم يرون أنه من ولد داود عليهالسلام ، وعلى طريق فاضلة من النسك على مقتضى ملتهم ، بحيث يرون أنه لو ظهر في أيام عمارة البيت لكان نبيا ، فلم يقدروا على مناظرته ، لما أوتي مع ما ذكرنا من تقريب الخليفة له وإكرامه ، وكان مما خالف فيه اليهود استعمال الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الملة الإسلامية ، ولم يبال في أيّ يوم وقع من الأسبوع ، وترك حساب الربانيين