وقد بلغني أن هذا المسجد كان كنيسة لليهود القرّايين تعرف بسام بن نوح ، وأن الحاكم بأمر الله أخذ هذه الكنيسة لما هدم الكنائس وجعلها مسجدا ، وتزعم اليهود القرّايون الآن بمصر أن سام بن نوح مدفون هنا ، وهم إلى الآن يحلفون من أسلم منهم بهذا المسجد. أخبرني به قاضي اليهود إبراهيم بن فرج الله بن عبد الكافي الداوديّ العانانيّ ، وليس هذا بأوّل شيء اختلقته العامّة.
وابن البناء : هذا هو محمد بن عمر بن أحمد بن جامع بن البناء أبو عبد الله الشافعيّ المقرئ ، سمع من القاضي مجلي ، وأبي عبد الله الكيزانيّ وغيره ، وحدّث وأقرأ القرآن ، وانتفع به جماعة. وهو منقطع بهذا المسجد ، وكان يعرف خطه بخط بين البابين ، ثم عرف بخط الأقفاليين ، ثم هو الآن يعرف بخط الضبيين وباب القوس. ومات ابن البناء هذا في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، واتفق لي عند هذا المسجد أمر عجيب ، وهو أني مررت من هناك يوما أعوام بضع وثمانين وسبعمائة ، والقاهرة يومئذ لا يمرّ الإنسان بشارعها حتى يلقى عناء من شدّة ازدحام الناس لكثرة مرورهم ركبانا ومشاة ، فعند ما حاذيت أوّل هذا المسجد إذا برجل يمشي أمامي وهو يقول لرفيقه : والله يا أخي ما مررت بهذا المكان قط إلّا وانقطع نعلي ، فو الله ما فرغ من كلامه حتى وطئ شخص من كثرة الزحام على مؤخر نعله وقد مدّ رجله ليخطو فانقطع تجاه باب المسجد ، فكان هذا من عجائب الأمور وغرائب الاتفاق.
مسجد الحلبيين
هذا المسجد فيما بين باب الزهومة ودرب شمس الدولة ، على يسرة من سلك من حمّام خشيبة طالبا البندقانيين. بني على المكان الذي قتل فيه الخليفة الظاهر نصر بن عباس الوزير ودفنه تحت الأرض ، فلما قدم طلائع بن رزيك من الأشمونين إلى القاهرة باستدعاء أهل القصر له ليأخذ بثار الخليفة ، وغلب على الوزارة ، استخرج الظافر من هذا الموضع ونقله إلى تربة الصر وبنى موضعه هذا المسجد وسماه المشهد ، وعمل له بابين أحدهما هذا الباب الموجود ، والباب الثاني كان يتوصل منه إلى دار المأمون البطائحيّ التي هي اليوم مدرسة تعرف بالسيوفية. وقد سدّ هذا الباب ، وما برح هذا المسجد يعرف بالمشهد إلى أن انقطع فيه محمد بن أبي الفضل بن سلطان بن عمار بن تمام أبو عبد الله الحلبيّ الجعبريّ المعروف بالخطيب ، وكان صالحا كثير العبادة زاهدا منقطعا عن الناس ، ورعا وسمع الحديث وحدّث ، وكان مولده في شهر رجب سنة أربع وعشرين وستمائة بقلعة جعبر ، ووفاته بهذا المسجد ، وقد طالت إقامته فيه يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ، ودفن بمقابر باب النصر رحمهالله ، وهذا المسجد من أحسن مساجد القاهرة وأبهجها.