لقد سكنت من بعدهم تلك المساكن ولكن قليلا ، لأنّها كانت لا تزال منحوسة ، مما جعل ساكنيها الجدد يرحلون عنها سريعا ، ولعل الآية تشير الى سنّة إلهية هي : ان البلاد المدمّرة بالعذاب لا تبقى فيها مقومات الحضارة ، وهكذا لا نجد الحضارة قد تجددت في ذات المواقع التي دمّرت ، مما تجعل نتائج البطر بالمعيشة تمتد الى المستقبل البعيد.
[٥٩] ثم يبين الله ـ وخلافا لنظرية الحتمية التاريخية التي تتصور الدورات الحضارية مرهونة بالزمن ذاته ـ ان العامل الاول في الدورات الحضارية بعد ارادة الله هي ارادة الإنسان ، فلو بقيت أمة تسير في الخط السليم ، فستبقى تتقدم وتتطور أكثر فأكثر ، ولن يؤثر فيها الزمن بذاته ، والله لا يسلب حضارة قوم أو يهلكهم هلاكا ماديّا ، إلا بعد تحقق أمرين :
الاول : اقامة الحجة :
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا)
وقال في آية أخرى : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» ويعلل الله عز وجل هذا الأمر في الآية (٤٧) من نفس السورة إذ يقول : «وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وبعث الله رسولا في أم القرى يتناسب مع هدف اقامة الحجة ، وقد لا يقصد القرآن من كلمة الام المدينة الأكثر سكانا ، بل الأنسب حيث تصل أصداء الرسالة منها الى أوسع رقعة من الأرض.