أنه لما كانت كلمة «إنّ» لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ، ثم اتصلت بها «ما» المؤكدة ـ لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ـ ناسب أن يضمن معنى القصر ؛ لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد ؛ فإن قولك : «زيد جاء لا عمر» ـ لمن يردّد المجيء الواقع بينهما ـ يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحا ، وفي الآخر ضمنا.
ومنها : التقديم ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «شاعر هو» لمن يعتقده شاعرا وكاتبا ، وقلبا «قائم هو» لمن يعتقده قاعدا ، وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا «أنا كفيت مهمّك» ـ بمعنى وحدي ـ لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتما مهمّه ، وقلبا : «أنا كفيت مهمّك» ـ بمعنى لا غيري ـ لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمة دونك ، كما تقدم.
وهذه الطرق تختلف من وجوه :
الأول : أن دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع.
الثاني : أن الأصل في الأول أن يدل على المثبت والمنفيّ جميعا بالنص ؛ فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار ، كما إذا قيل : «زيد يعلم النحو ، والتصريف ، والعروض ، والقوافي» أو «زيد يعلم النحو ، وعمرو ، وبكر ، وخالد» فتقول فيهما : «زيد يعلم النحو لا غير» وفي معناه «ليس إلا» أي لا غير النحو ، ولا غير زيد ، وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفيّ.
الثالث : أن النفي لا يجامع الثاني ؛ لأن شرط المنفي بـ «لا» أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ، ويجامع الآخرين ، فيقال : «إنما زيد كاتب لا شاعر» و «هو يأتيني لا عمرو» ولأن النفي فيهما غير مصرّح به ، كما يقال : «امتنع زيد عن المجيء لا عمرو».
قال السكاكي : شرط مجامعته للثالث أن لا يكون الوصف مختصا بالموصوف كقوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : الآية ٣٦] فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع ، وكذا قولهم : «إنما يعجّل من يخشى الفوت».
قال الشيخ عبد القاهر : لا تحسن مجامعته له في المختص كما تحسن في غير المختص ، وهذا أقرب.
قيل : ومجامعته له إما مع التقديم ، كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) [الغاشية : الآيتان ٢١ ، ٢٢] ، وإما مع التأخير كقولك : «ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو» وفي كون نحو هذين مما نحن فيه نظر.
الرابع : أن أصل الثاني أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره ، كقولك