فكان هو يقصد الاحتجاج عليهم في حدوثها بتغيرها وتبدّل أحوالها ، فخرج مع أهل الرّصد ليلا لينبّههم على حدوثها بتغيّرها مع تسليم مذهبهم الفاسد لهم جدلا ، وقصده : مقابلة الفاسد بالفاسد فإنّه من وجوه النظر. والأظهر في طريقة التّنبيه على الحدوث الاستدلال بالأكوان ، فإنّ الحركة يعلم حدوثها ضرورة لكونها تقطع الحيّز بعد الحيّز بحركة بعد حركة. فمن رأى ساكنا يتحرّك علم تغيّره ضرورة ، فنظر عليهالسلام فرأى كوكبا فقال لقومه : (هذا رَبِّي) يعني على ظنّكم وحسابكم ، ففرحوا بقوله وظنوا أنّه رجع إلى مذهبهم ، فلمّا أفل رجع لهم عن قوله الأول بقوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)!.
فعلموا إذ ذاك أنّه رجع عن مذهبهم بحجّة بالغة ، والدّليل على صحة ما رمناه من أنّه قال (هذا رَبِّي) على جهة التّعنيت (١) لهم ، وإقامته الحجّة عليهم لعلهم يتفطّنون ويتعلمون منه وجوه الاستدلال.
ويتصوّر الردّ فيه على القائلين بأنّه استدلّ وغلط وتحيّر من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه لو قال : (هذا رَبِّي) على جهة الاعتقاد والتّصميم لكان كافرا في تلك الليلة إلى حين غروب الكوكب (٢). وكذلك يلزم في قوله في القمر والشّمس ، ومن اعتقد هذا فقد أعظم عليه الفرية ، وردّ ما علم من دين الأمّة في أنّ نبيا ما كفر قطّ عقدا ولا لفظا كما تقدّم. وغايته أن لو كان ما زعموه لتوقف على دءوب النّظر حتى يعلم الحقّ حقا لكون الناظر في حال نظره ، لا يحكم له بكفر ولا بإيمان كما تقدّم.
الثاني : أنّه لو كان يثبت إلهيّة الكوكب عند الطّلوع من أجل ظهوره وينفيها عند الغروب من أجل غروبه لقامت عليه حجّة الخصم بأن يقول له : إذا أثبتّ إلهيّة
__________________
(١) عنّته : أي شدّد عليه وألزمه بما يصعب عليه أداؤه.
(٢) ينظر ما قاله المفسّرون من وجوه ، لخّص أكثرها القرطبي في الجزء السّابع ، وممّا رواه أن إبراهيم عليهالسلام قال ما قال في حال الطفولية ، وأنّه غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو موحّد لله تعالى وبه عارف.