بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (١).
والتقريب من وجوه :
الأوّل : سبب النزول ، فإنَّ سبب نزولها كما عن العيّاشي عن أحدهما عليهماالسلام ـ : « أنَّه صلىاللهعليهوآله إذا كان بمكّة يجهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون ، فكانوا يؤذونه (٢).
ولا يخفى دلالته على مداومته على الجهر واستمراره عليه ، فيكون هو الأصل ، لكنّه صلىاللهعليهوآله أمر بالقراءة بالجهر الوسط دون الذي كان يجهر به أوّلاً ؛ صوناً لنفسه وعرضه عن الأذى ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى ) (٣).
وليس هذا نسخاً ، بل دفاعاً عنه ؛ إذ الضرورة تتقدّر بقدرها ، إلّا إنَّ في دلالة الاستمرار على الأصالة نظراً متّجهاً.
الثاني : أنَّ الجهر والإخفات حقيقتان متضادّتان لا يجتمعان ؛ لعدم إمكان اجتماع الضدّين ، ولا يرتفعان ؛ لعدم انفكاك الكلام عنهما ، ولا بدّ من إرادة أحدهما ؛ لكونهما من مقولة الكيف الذي هو من الأعراض ، وليس لنا سواهما.
ولا يجوز إرادة الإخفات الوسط ؛ لعدم تصوّره ، أو ندرته وشيوع مقابله ، فليس المراد والله العالم إلّا الجهر الوسط ؛ لمعقوليّة الجهر بالتشكيك على أفراد كثيرة ، لتفاوته قوّة وضعفاً ، دون الإخفات. فالمراد حينئذٍ والله العالم ـ : وابتغ بين أدنى الجهر وأعلاه سبيلاً. وهو المطلوب.
ولو أراد البينيّة بين الجهر والإخفات لقال : وابتغ بين ذينك سبيلاً. إلّا أنْ يقال بلزوم مثله على الأوّل أيضاً ، وبإمكان القول بارتفاع الضدّين ووجود فرد آخر في البين ، فليتأمّل.
وما يقال من إمكان إرادة الإخفات الوسط ؛ لكونه مشكّكاً كالجهر ، مردودٌ :
بأنَّ ( ذلك ) مشار به للجهر ؛ لأنَّه لا يشار به إلَّا للبعيد ، أوّلاً.
وبمنع كونه ذا أفرادٍ ؛ لأنّه ليس له طرفان أدنى وأعلى ، ثانياً.
وبمنع كونه ذا وسطٍ بين القوّة والضعف ، إذ حدّه إسماع النفس ، فإذا تجاوز إسماع
__________________
(١) الإسراء : ١١٠.
(٢) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٤١ / ١٧٥ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.
(٣) النجم : ٣ ، ٤.