مشتبهات القرآن

أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي

مشتبهات القرآن

المؤلف:

أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي


المحقق: الدكتور محمّد محمّد داود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

١

٢

٣
٤

٥
٦

مقدمة

مقدّمة المحقّق

بسم الله الرّحمن الرّحيم بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبي الله ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :

فلم تشهد الدنيا كتابا نال اهتمام أهله مثل القرآن الكريم ، فقد توجّهت جهود القدماء ـ أثابهم الله خيرا ـ لخدمة هذا الكتاب الكريم في مجالات شتّى ونواح متعددة. ومن بين هذه المجالات التي نالت اهتمام القدماء العناية بالمتشابه لفظا ، ومعنى.

والكتاب الذي بين أيدينا يمثّل بداية مبكّرة لنشأة التأليف في المتشابه اللفظي في القرن الثاني الهجري.

لقد اهتمّ القدماء بالتأليف في هذا المجال بدافع العون على حفظ كتاب الله ، وتثبيت الحفظ ، والبعد عن الوقوع في اللبس والخطأ فيما اشتبه من ألفاظه.

ويتميز هذا الكتاب عن غيره من الكتب المناظرة له في نفس الموضوع ببساطة الأسلوب ، وسهولة البحث فيه ، حيث إنه مقسّم إلى أبواب ، وكل باب له موضوع محدّد ، وكما أن الكتاب يجمع متشابه القرآن من الألفاظ ، فقد فاق الكتاب غيره ، بجمع المتشابه من التراكيب ، مما يعين حفّاظ القرآن على معرفة المتشابه من الألفاظ ، والتراكيب ، كما يحصر عدد الأحرف

٧

( المواضع ) ، ثم يعرضها بعد ذلك ، موضّحا اسم السورة ورقم الآية ؛ ليرجع القارئ إليها في سهولة ويسر.

وكم يسرّني أن أقدّم هذا الكتاب لطلبة معهد معلّمي القرآن الكريم بالمركز الإسلامي بمسجد العمرانية ؛ ليكون عونا لهم على ضبط حفظ المتشابه من الآيات من ناحية ، ومن ناحية أخرى ؛ لننال جميعا شرف التلمذة على إمام عظيم من أئمة القرآن الكريم في القرن الثاني الهجري قريب العهد بالعصر الذهبي للإسلام ، عصر الرسالة ، الذي نزل فيه القرآن على قلب سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأضرع إلى الله تعالى أن يتقبّل مني هذا الجهد المتواضع ؛ محبّة للقرآن وأهله ؛ عسى أن ننال شفاعتهم ومنزلتهم يوم يرتّلون ... ويرقون المنازل في جنات النعيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله ربّ العالمين.

خادم القرآن الكريم

د. محمد محمد داود

معهد معلمي القرآن الكريم

بمسجد العمرانية ـ جيزة

ت : ٥٦٨٥١٢٢

٨

الكسائي

اسمه : علي بن حمزة بن عبد الله الأسديّ الكوفيّ.

كنيته : أبو الحسن.

لقبه : الكسائيّ. وأصح الأقوال وأشهرها في سبب تسميته بالكسائيّ القول الذي روي عنه حين سئل عن سبب هذه التسمية ؛ فقال : لأني أحرمت في كساء (٢).

__________________

(١) التاريخ الصغير ٢ / ٢٤٧ ، والتاريخ الكبير ٦ / ٢٨٦ ، والجرح والتعديل ٦ / ١٨٢ ، ومراتب النحويين ١٢٠ ـ ١٢٢ ، وطبقات النحويين ١٢٧ ـ ١٣٠ ، والفهرست لابن النديم ٢٩ ، وتاريخ بغداد ١١ / ٤٠٣ ـ ٤١٥ ، والأنساب ٤٨٢ ، ونزهة الألباء ٥٨ ـ ٦٤ ، واللباب ٣ / ٤٠ ، وإرشاد الأريب ١٣ / ١٦٧ ـ ٢٠٣ ، ومعجم البلدان ٢ / ٢٨ ، ووفيات الأعيان ٣ / ٢٩٥ ـ ٢٩٧ ، وسير أعلام النبلاء ٩ / ١٣١ ـ ١٣٤ ، ومرآة الجنان ١ / ٤٢١ ـ ٤٢٢ ، والبداية والنهاية ١١ / ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، وغاية النهاية ١ / ٥٣٥ ـ ٥٤٠ ، وتهذيب التهذيب ٧ / ٣١٣ ـ ٣١٤ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ١٣٠ ، وبغية الوعاة ٢ / ١٦٢ ـ ١٦٤ ، والمزهر ٢ / ٤٠٧ ، وطبقات المفسرين للداودي ١ / ٣٩٩ ، وشذرات الذهب ١ / ٣٢١.

(٢) طبقات الزبيدي ١٣٩ ، وتاريخ بغداد ١١ / ٤٠٤ ، ونزهة الألباء ٦٩ ، وغاية النهاية ١ / ٥٣٩ ، وبغية الوعاة ٢ / ١٦٢ ، وشذرات الذهب ١ / ٣٢١.

٩

حياته العلمية :

كانت البداية بالكوفة ؛ حيث حفظ القرآن الكريم مشافهة بالتلقي عن قرّاء الكوفة في عصره وأشهرهم حمزة بن حبيب الزيات (١).

ويظهر أن حفظه للقرآن لم يصاحبه علم وفقه ؛ حيث تشير المصادر التي وردت بها ترجمة الكسائيّ إلى أنّه تعلم النحو على كبر ، وسببه أنه جاء إلى قوم وقد ناله التعب فقال : قد عييت. فقالوا له : تجالسنا وأنت تلحن! قال : وكيف لحنت؟ قالوا : إن كنت أردت من انقطاع الحيلة ، فقل : عييت ، وإن أردت من التعب ، فقل : أعييت.

فأنف من هذه الكلمة ، وقام من فوره وسأل عمّن يعلّم النحو ، فأرشدوه إلى معاذ الهراء ، فلزمه حتى أنفذ ما عنده ، ثم خرج إلى البصرة ، فلقي الخليل وجلس في حلقته (٢).

الدأب والمثابرة والتّفاني في طلب اللّغة من مصادرها :

لما جلس الكسائيّ في حلقة الخليل ، قال له رجل من الأعراب : تركت أسدا وتميما ، وعندها الفصاحة ، وجئت إلى البصرة؟ فقال للخليل : من أين أخذت علمك هذا؟ فقال : من بوادي الحجاز ، ونجد ، وتهامة .. فخرج الكسائيّ إلى البادية ، وأخذ يسأل عن لغتهم ، ويكتب عنهم ما يروونه.

__________________

(١) تاريخ بغداد ١١ / ٤٠٨ ، وغاية النهاية ١ / ٥٣٨.

(٢) تاريخ بغداد ١١ / ٤٠٤ ، مفتاح السعادة ١ / ١٣٠.

١٠

وبعد ما دون الكسائيّ عن العرب وحفظ عنهم ، عاد إلى مجلس الخليل بالبصرة فوجده قد مات ، وجلس في موضعه يونس بن حبيب ، فجرت بينهما مسائل ومناظرات ، ظهر فيها علم الكسائيّ ، فأقر له يونس فيها وصدّره موضعه (١).

وكان هذا سببا في رقيّ جديد للكسائيّ حيث انتقل إلى بغداد ، واتصل بالخلفاء العباسيين ، وأصبح من طائفة المؤدّبين لأبناء الخلفاء. وكان إلى جانب عمله هذا ، يقرئ الناس القرآن الكريم ، ويعلمهم النحو واللغة في بغداد.

الكسائيّ وإقراء القرآن الكريم :

عرف الكسائيّ مؤدّبا ومعلّما ، لكن صيته ذاع وملأ الآفاق ؛ بسبب إقراء القرآن الكريم ، فهو أحد القرّاء السبعة المشهورين ، وقد قرأ عليه خلق كثير ، ببغداد ، وبالرقة ، وغيرهما ، وتفيد المصادر أن الكسائيّ حين انتقل إلى بغداد ، أقرأ بها زمانا بقراءة حمزة ، ثم اختار لنفسه قراءة ، حتى انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة ، وحسبنا هنا قول الخطيب البغدادي : « كان الكسائيّ واحد الناس في القرآن ، يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم ، فيجمعهم ويجلس على كرسي ، ويتلو القرآن من أوله إلى آخره ، وهم يستمعون ، حتى

__________________

(١) تاريخ بغداد ١١ / ٤٠٤ ، نزهة الألباء ٦٨ ، إنباه الرواة ٢ / ٢٥٧.

١١

كان بعضهم ينقط المصاحف على قراءته ، وآخرون يتبعون مقاطعه ومباديه ، فيرسمونها في ألواحهم وكتبهم (١).

شيوخ الكسائيّ

: تربى الكسائيّ في حجر أكابر العلم في النحو واللغة ، وعلوم القرآن وقراءاته في زمنه ، فأفاد منهم ، وكان لذلك عظيم الأثر في تكوين شخصيته العلمية ، ونكتفي هنا بذكر أهم وأشهر من أخذ عنهم ، فقد سمع الكسائيّ من :

( جعفر الصادق (٢) ، والأعمش (٣) ، وزائدة (٤) ، وسليمان بن أرقم (٥) ) (٦) ،

__________________

(١) تاريخ بغداد ١١ / ٤٠٩ ، وإنباه الرواة ٢ / ٢٦٤.

(٢) جعفر الصادق بن محمد الباقر علي زين العابدين بن الحسين سبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ت ١٤٨ ه‍ ، انظر وفيات الأعيان ( ١ / ٣٢٧ ).

(٣) الأعمش : سليمان بن مهران الأسدي ولاء ( مولى بني أسد ) أبو محمد الأعمش ، ت ١٤٨ ه‍ ، تاريخ بغداد ( ٩ / ٣ ).

(٤) زائدة بن قدامة أبو الصلت الثقفي ، ت ١٦١ ه‍ ، انظر غاية النهاية ( ١ / ٢٨٨ ).

(٥) سليمان بن أرقم أبو معاذ البصري ، انظر تاريخ بغداد ( ٩ / ١٣ ).

(٦) معرفة القراء الكبار على الطبقات والأمصار ص ١٢١.

١٢

والأخفش (١) ، والخليل بن أحمد (٢).

وقرأ الكسائيّ القرآن وجوّده على حمزة الزيات (٣) ، وعيسى بن عمر الهمداني (٤).

تلامذة الكسائيّ :

تأتي أهمية تلامذة العالم من حيث إنهم امتداد لعلمه وفكره في الأجيال المقبلة ، وكم من العلماء لاح ذكرهم وضاء بسبب النشاط الملحوظ والجهد المثمر الذي بذله تلامذتهم في نشر علوم شيخهم.

__________________

(١) الأخفش : سعيد بن مسعدة أبو الحسن الأخفش ، ت ٢١٥ ه‍ ، انظر : طبقات الزبيدي.

(٧٤) ، وقد ورد ذكر ذلك في أخبار النحويين البصريين ، وإنباه الرواة ( ٢ / ٢٧٣ ).

(٢) الخليل بن أحمد الفراهيدي أبو عبد الرحمن الأزدي البصري ، ت ١٧٥ ه‍. انظر : إنباه الرواة ( ١ / ٣٤١ ) ، وقد ورد ذكر ذلك في غاية النهاية ( ١ / ٢٧٥ ) ، ومفتاح السعادة ( ١ / ١٣٠ ).

(٣) حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل أبو عمارة الزيات الكوفي ، ت ١٥٦ ه‍ ، انظر : وفيات الأعيان ( ٢ / ٢١٦ ) ، وقد ورد ذكر ذلك في غاية النهاية ( ١ / ٢٦١ ) وبغية الوعاة ( ٢ / ١٦٢ ) ، وطبقات المفسرين (٣٩٩) ، ومفتاح السعادة ( ١ / ١٣٠ ).

(٤) عيسى بن عمر الأسدي أبو عمرو الهمداني الكوفي الضرير ت ١٥٦ ه‍ ، انظر :تهذيب الكمال (٢٥٧) ، وقد ورد ذلك في غاية النهاية ( ١ / ٦١٢ ).

١٣

ـ في حين نجد أن هناك من العلماء الأفذاذ ـ كالليث بن سعد (١) ـ من اندثر علمه بسبب تقصير تلامذته في تدوين مذهبه ونشره.

ـ ونحن نغبط الكسائيّ على هذه الكثرة الوافرة من التلامذة ، لدرجة أنهم كانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم ، فيجمعهم ويجلس على كرسي يتلو القرآن من أوله إلى آخره وهم يستمعون.

ولعله من المناسب أن يأتي ذكر راوييه في الصدارة ؛ وذلك لأن قراءة الكسائيّ انتشرت عن طريقهما ؛ وهما :

(١) الليث : أبو الحارث ، الليث بن خالد البغداديّ ، ت (٢٤٠) هـ (٢).

(٢) الدوري : وهو أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز البغدادي النحوي الضرير ت (٢٤٦) هـ (٣).

وفيما يلي ذكر لأهم تلامذته ـ بعد هذين الراويين ـ حسبما أشارت إليه المصادر :

أحمد بن حسن ، مقرئ الشام (٤).

__________________

(١) الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث الفقيه المصري ، ت ( ١٧٥ ه‍ ) ، انظر : غاية النهاية ( ٢ / ٣٤ ).

(٢) انظر : غاية النهاية ( ٢ / ٣٤ ).

(٣) انظر : غاية النهاية ( ١ / ٢٥٥ ، ١ / ٢٦٦ ، ١ / ٥٣٦ ).

(٤) الفهرست : (٤٥).

١٤

إسحاق البغويّ (١).

إسحاق بن إسرائيل (٢).

خلف بن هشام بن ثعلب بن هشام ، أبو محمد الأسدي البزار البغدادي (٣).

صالح بن عاصم الناقط الكوفي (٤).

علي بن حازم أبو الحسن اللحياني (٥).

علي بن المبارك أبو الحسن الأحمر المروزي (٦).

الفضل بن إبراهيم بن عبد الله أبو العباس النحوي الكوفي (٧).

القاسم بن سلام أبو عبيد الخراساني الهروي البغدادي (٨).

__________________

(١) طبقات الزبيدي (١٤٨).

(٢) غاية النهاية ( ١ / ٥٣٦ ) ، طبقات المفسرين للداودي (٤٠٢).

(٣) غاية النهاية ( ١ / ٢٧٢ ).

(٤) غاية النهاية ( ١ / ٣٣٣ ).

(٥) الفهرست (٧١).

(٦) إنباه الرواة (٣١٧).

(٧) غاية النهاية ( ١ / ٥٣٦ ).

(٨) غاية النهاية ( ١ / ٥٣٦ ).

١٥

وغيرهم كثير ، لكن ما ينبغي الإشارة إليه هنا ، هو ما انفرد به ابن الجزري في غاية النهاية ، حين ذكر عددا آخر من تلاميذ الكسائيّ ، أخذوا عليه القراءة فاق الأربعين تلميذا.

لمحات من جوانب حياته :

لعل الصورة الواضحة للكسائيّ رسمت أبعادها الرئيسية ببيان حياته العلمية ، وصلته بمن جاء قبله من أهل العلم ، وصلته بمن جاء بعده ، من تلاميذ نهلوا من علمه ، ولعل اكتمال الصورة الواضحة عن الكسائيّ ، يتطلب التعرف على شيء من حياته الخاصة ، وأهم سمات وملامح أسلوبه في تناول أحداث الحياة.

وتفيد المصادر على تنوعها بأن الكسائيّ كان صاحب دعابة وطرفة ، لكن في إطار مأمون ، لا ينال من وقاره ولا من هيبته ، وقد قيل لأبي عمر الدوري : كيف صحبتم الكسائيّ على الدعابة التي فيه؟ قال : لصدق لسانه (١).

وكان الكسائيّ ورعا في فتواه ، ومما يشهد لتثبّته في ( الفتوى ) ، وشدة حذره أن يجانب الصواب : ما حكاه الفراء عنه ، قال : لقيت الكسائيّ يوما ، فرأيته كالباكي ، فقلت له : ما يبكيك؟ فقال : هذا الملك ـ يحيى بن خالد ـ

__________________

(١) معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار « للذهبي » (١٢٠).

١٦

يوجّه إليّ ، فيحضرني فيسألني عن الشيء ، فإن أبطأت في الجواب لحقني من عيب ، وإن بادرت لم آمن الزلل. قال : فقلت له ـ ممتحنا ـ : يا أبا الحسن ؛ من يعترض عليك؟! ، قل ما شئت فأنت الكسائيّ ، فأخذ لسانه بيده ، فقال :قطعه الله ـ إذا ـ إن قلت ما لا أعلم (١).

ولم ينل من ورع الكسائيّ قربه من السلطان ؛ قال أبو عمر الدوري : لم يغير الكسائيّ شيئا من حاله مع السلطان ، إلا لباسه. قال : فرآه بعض علماء الكوفيين وعليه جربانات عظام ، فقالوا له : يا أبا الحسن ؛ ما هذا الزي؟ قال :أدب من أدب السلطان ، لا يثلم دنيا ، ولا يدخل في بدعة ، ولا يخرج عن سنة (٢).

كما كان الكسائيّ متواضعا ، لا يأنف أن يقضي حوائجه بنفسه ، فقد روي أنه كان مع الأمين والمأمون يؤدّبهما ، فأقبل الرشيد عليه وهو لا يراه ، فقام الكسائيّ ، ليلبس نعله ، لحاجة يريدها ، فابتدرها الأمين والمأمون ، فوضعاها بين يديه ، فقبل رءوسهما وأيديهما ، ثم أقسم عليهما ألا يعاودا ، فلما جلس الرشيد مجلسه ، قال : أي الناس أكرم خادما؟ قالوا : أمير المؤمنين ، أعزه الله! قال : لا ، بل الكسائيّ ، يخدمه الأمين والمأمون ... وحدّثهم الحديث (٣).

__________________

(١) تاريخ بغداد ( ١١ / ٤١١ ).

(٢) المرجع السابق نفس الصفحة.

(٣) إرشاد الأريب ( ٥ / ١٩٥ ).

١٧

ولعل هذا الورع وذاك التواضع وتلك السماحة والسهولة في تناول الأمور عند الكسائيّ ، فضلا عن المكانة العلمية للرجل ، كل ذلك قد مهّد للكسائي أن ينال حظّا من المبشرات من خلال الرؤيا الصالحة.

فقد أورد الخطيب البغدادي عن الكسائيّ قوله : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال لي : أنت الكسائيّ؟ فقلت : نعم ، يا رسول الله.

قال : « اقرأ ».

قلت : وما أقرأ يا رسول الله؟

قال : « اقرأ ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) ».

قال : فقرأت ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) فضرب النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بيده كتفي ، وقال : « لأباهين بك الملائكة غدا » (١).

ومما رئى له ، ما حكاه تلميذه أبو مسحل الأعرابي قال : رأيت الكسائيّ في النوم ، كأن وجهه البدر ، فقلت : ما فعل الله بك؟

قال : غفر لي بالقرآن!

فقلت : ما فعل بحمزة الزيات؟

__________________

(١) تاريخ بغداد ( ١١ / ٤١٠ ).

١٨

قال : ذاك في عليين ، ما نراه إلا كما يرى الكوكب الدري (١).

ثناء أهل العلم عليه :

ذكرت المصادر المختلفة شهادة من يعتد بقولهم ـ من أهل العلم ـ للكسائيّ مما يدل على مكانته العلمية العالية ، من ذلك ما ورد عن الفراء ، قال : قال لي رجل : ما اختلافك إلى الكسائيّ ، وأنت مثله في النحو؟!

فأعجبتني نفسي ، فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء ، فكأنّي كنت طائرا يغرف بمنقاره من البحر (٢).

وقال الشافعي ـ رحمه‌الله ـ : « من أراد أن يتبحر في النحو ، فهو عيال على الكسائيّ (٣).

ومن مدح ابن الأعرابي للكسائيّ وثنائه عليه ، قوله : « كان أعلم الناس ، وكان ضابطا قارئا ، عالما بالعربية صدوقا ... » (٤).

__________________

(١) إنباه الرواة ( ٢ / ٢٦٩ ).

(٢) بغية الوعاة ( ٢ / ١٦٣ ).

(٣) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، (١٦٩).

(٤) بغية الوعاة ( ٢ / ١٦٣ ) ، وطبقات المفسرين (٤٠٠).

١٩

كما أثنى عليه إسحاق الموصلي في النحو بقوله : « ما رأيت أعلم بالنحو ـ قط ـ منه ، ولا أحسن تفسيرا ، ولا أحذق بالمسائل » (١).

ويزكيه ابن مجاهد في القراءة بقوله :

« كان الكسائيّ إمام الناس في القراءة في عصره ، وكان يأخذ الناس عنه.ألفاظه بقراءته عليهم » (٢).

ويزكيه الخطيب البغدادي في دينه وخلقه ، بقوله :

« كان عظيم القدر في دينه وفضله » (٣).

وفاته :

تكاد تجمع المصادر على سنة (١٨٩) هـ ، تاريخا لوفاة الكسائيّ (٤) ، وفضلا عن قدر الصحة التي يستمدها هذا التاريخ ، من كثرة وروده بالمصادر التي ترجمت للكسائيّ ؛ فإن هنالك شاهدا آخر ، يزيد هذا التاريخ صحة وصدقا ، ذلك أن كثيرا من المصادر ذكرت أن الكسائيّ توفي في صحبة الرشيد بالريّ ، عند ما كان يزورها الرشيد.

__________________

(١) إرشاد الأريب ( ٥ / ١٩٣ ).

(٢) السبعة لابن مجاهد (٧٨).

(٣) تاريخ بغداد ( ١١ / ٤١٤ ).

(٤) سير أعلام النبلاء ( ٩ / ١٣٢ ) ، شذرات الذهب ( ١ / ٣٢١ ) ، طبقات النحويين (١٢٧).

٢٠