جواهر الكلام - ج ٤١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت » وصحيح هشام بن سالم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت ، وقال : إذا أشهد لم يكن له إلا أن يشهد » وخبر محمد بن مسلم (٢) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما ، قال : ذلك إليه إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد ، وإن شهد شهد بحق قد سمعه ، وإن لم يشهد فلا شي‌ء ، لأنهما لم يشهداه ».

وفيه ـ مع فرض كون المراد عدم وجوب إقامتها حتى مع توقف الحق عليها ـ أن الأصل مقطوع بما دل عليه العقل المقطوع به من النقل كتابا (٣) وسنة (٤) بل وإجماعا من إيجاب إقامة الشهادة على من هي عنده ، وإنها بمنزلة الأمانة التي يجب على من عنده أداؤها وإن لم يستأمنه إياها صاحبها نحو الثوب الذي أطارته الريح وغيره ، والنصوص محمولة على عدم التوقف عليه.

كما أومأ إلى ذلك‌موثق ابن مسلم (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت إلا إذا علم من الظالم فيشهد ، ولا يحل له إلا أن يشهد » ومرسل يونس (٦) عن الصادق عليه‌السلام « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت إلا إذا علم من الظالم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات الحديث ٥.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ ـ من كتاب الشهادات.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات الحديث ١٠.

١٠١

فيشهد ، ولا يحل له أن لا يشهد » ‌مؤيدا ذلك ب‌خبر ابن أشيم (١) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل طهرت امرأته من حيضها ، فقال : فلانة طالق وقوم يسمعون كلامه لم يقل لهم أشهدوا أيقع الطلاق عليها؟ قال : هذه شهادة أفيتركها معلقة؟! قال : وقال الصادق عليه‌السلام : العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوما ».

ولعله إلى ذلك يرجع ما في نهاية الشيخ قال : « ومن علم شيئا من الأشياء ولم يكن قد أشهد عليه ثم دعي إلى أن يشهد كان بالخيار في إقامتها وفي الامتناع منها ، اللهم إلا أن يعلم أنه إن لم يقمها بطل حق مؤمن ، فحينئذ يجب عليه إقامة الشهادة » ونحوه ما عن جامع ابن سعيد.

بل والمحكي عن الصدوق أيضا ، فإنه بعد أن روى أخبار الخيار في الفقيه قال : « هو إذا كان على الحق غيره من الشهود ، فمتى علم أن صاحب الحق المظلوم ولا يجي‌ء حقه إلا بشهادته وجب عليه إقامتها ، ولم يحل له كتمانها ، فقد‌قال الصادق عليه‌السلام (٢) : « العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوما ».

بل يمكن أن يكون غيرهم ممن لم يصل إلينا كلامهم كذلك أيضا كما هو ظاهر المحكي عنهم في الدروس ، فلاحظ وتأمل.

ولعل الفرق حينئذ بين من أشهد ومن لم يشهد الوجوب على الأول إلا أن يعلم قيام الغير على حسب غيره من الواجب الكفائي الذي قد يكون عينيا بالعرض ، وعدم الوجوب أصلا على الثاني إلا أن يعلم ظلم المشهود عليه المشهود له بإنكار حقه مثلا. وبذلك يظهر لك قوة القول بالتفصيل المزبور عملا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٨ و ٩ والظاهر أن ذيله مرسلة الصدوق ( قده ).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٩.

١٠٢

بالنصوص المزبورة.

ولكن في كشف اللثام قد احتمل تنزيل النصوص المذكورة على عدم الوجوب العيني لوجود ما يثبت به الحق المشهود به وغيره ، واستشهد على ذلك بما سمعته من النهاية وجامع المقاصد ثم قال : « فقولهما عليهما‌السلام (١) : « ولم يشهد عليها » ‌بمعنى أنه لم يشهد عليها للاكتفاء عنه بغيره ، و‌قوله عليه‌السلام في الخبر الثاني (٢) : « فيطلبان منه الشهادة » ‌بمعنى أنهما يطلبانها منه مع الاستغناء عنه بغيره ، لقوله عليه‌السلام أخيرا : « لأنهما لم يشهداه » ‌أي استغنيا عنه بغيره ، واحتمل في النصوص الثلاثة الأول أن يراد بسماع الشهادة سماعها وهي تقام عند الحاكم ، بل هو الظاهر ، فيكون الاستغناء عنه أظهر ، ويكون المعنى أنه إذا سمع الشهود يشهدون بحق ولم يشهد عليه أي لم يطلب منه الشهادة للاكتفاء بغيره كان بالخيار ـ ثم قال ـ : ويحتمل أن يراد بسماع الشهادة سماع الاشهاد والتحمل ، أي إذا سمع الرجل يشهد على حق والشهود يتحملون الشهادة ولم يدع هو إلى التحمل كان بالخيار بين التحمل وعدمه ـ ثم قال ـ : ويحتمل الثاني ـ أي خبر ابن مسلم الأخير (٣) ـ أن يراد أنهما يطلبان منه تحمل الشهادة ، فهو بالخيار بين التحمل والعدم بناء على وجود الغير أو عدم وجوب التحمل على الخلاف ، فان شهد شهد بحق ، أي إن تحمل لزمه الأداء وإلا فلا ، لأنهما لم يشهداه أي لم يتحمل الشهادة لهما فأشهدا غيره واكتفيا به ، فلم يجب عليه الأداء عينا للاستغناء عنه ـ ثم قال ـ : ونفى النزاع المعنوي في المختلف تنزيلا لكلام غير الشيخ على كلامه ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٥.

١٠٣

قلت : لا يخفى عليك ما في جميع ذلك ، بل ولا ما في دعوى لفظية النزاع ، بل قد عرفت أن كلام الشيخ ظاهر أو صريح في ما ذكرناه في النصوص التي يمكن أيضا تنزيل كلام ابن الجنيد ، والصدوق والحلبي عليه ، وما أدرى ما الذي دعاه إلى هذه الاحتمالات الواهية في النصوص المزبورة المذكور وجهها فيها؟! كما أني لا أدري وجه دعوى لفظية النزاع والنصوص مصرحة بالفرق في الحكم بين الموضوعين ، وكلام المفتي بها أصرح منها في ذلك.

ومما ذكرنا يعلم النظر في ما أطنب فيه في الرياض ، بل وما في المسالك ، بل وما في غيرها من الكتب كما تسمع تمام التحقيق في ذلك في ما يأتي إن شاء الله وإن كان ما ذكرناه هنا تاما لا غبار فيه ، والله هو العالم.

المسألة ( الرابعة : )

( التبرع بالشهادة ) في حقوق الآدميين ( قبل السؤال ) من الحاكم في مجلس الحكومة ( يطرق التهمة ) إلى الشاهد أنه شهد للمدعي زورا بسبب حرصه على ذلك ( فيمنع القبول ) بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به غير واحد ، بل في كشف اللثام أنه مما قطع به الأصحاب سواء كان قبل دعوى المدعي أو بعدها ، ولعله العمدة في الحكم المزبور ، لا التعليل بالتهمة الواقع من كثير ، إذ قد عرفت أن المدار فيها على ما يثبت من الأدلة شرعا لا كل تهمة عرفية ، ضرورة أن المختبئ لسماع الشهادة بلا استدعاء أقرب من المتبرع بتطرق التهمة ، مع أنك‌

١٠٤

قد عرفت قبول شهادته عندنا ، لعدم الدليل على اعتبار هذه التهمة وإن كانت متحققة في العادة ، كما صرح به الأردبيلي هنا ، وهو مؤيد لما ذكرناه سابقا في أول البحث ردا على من اعتمد على إطلاق التهمة في النصوص إلا ما خرج ، حتى جعل ذلك أصلا يرجع إليه ، على أن ظاهر كلامهم أو صريحه رد المتبرع بشهادته وإن انتفت التهمة عنه بقرائن الأحوال ، ككون المشهود له عدوا له والمشهود عليه صديقا له أو غير ذلك ، أو علم منه أن ذلك كان منه جهلا بالحكم الشرعي ، وغير ذلك.

ومن الغريب التزام فاضل الرياض قبول شهادة المتبرع في هذه الفروض مدعيا انصراف إطلاق الأصحاب إلى الغالب الذي تحصل معه التهمة لا ما يشمل هذه الأفراد.

نعم قد يقال : إن دليل كون التبرع تهمة شرعية الإجماع المزبور ، فيمنع وإن فقد التهمة عرفا كالشريك والعدو ونحوهما ممن ردت شهادته ، أو يقال إن مبنى المنع هنا اعتبار الاذن ممن له الحق في سؤال الشهود ، كما تقدم سابقا في كتاب القضاء (١) وحينئذ تكون الشهادة قبل ذلك نحو اليمين ممن عليه قبل الاذن من صاحب الحق.

وربما يرشد إلى ذلك أن غير واحد من الأصحاب ذكر احتمال قبول شهادة المتبرع في المجلس الآخر ، بل في المسالك وغيرها اختياره ، ولو أن المانع التهمة كان المتجه الرد مطلقا ، أما بناء على أن المانع ما ذكرناه يتجه القبول حينئذ ، بل يتجه في ذلك المجلس أيضا بعد الاذن من صاحب الحق بسؤالهم ، وهذا جيد جدا إلا أنه ينافيه تعليل المصنف وغيره بالتهمة ، فالأولى القول إنه تهمة شرعا بدليل الإجماع المزبور المؤيد‌بالنبوي‌

__________________

(١) راجع ج ٤٠ ص ١٩١ ـ ١٩٢.

١٠٥

المذكور في معرض الذم وإن لم يكن من طرقنا (١) « ثم يجي‌ء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها » وآخر (٢) « ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد » وثالث (٣) « تقوم الساعة على قوم يشهدون من غير أن يستشهدوا » ‌مع ما‌ورد (٤) « من أنها تقوم على شرار الخلق » ‌إلا أن المتجه حينئذ الاقتصار على ما علم كونه موردا للإجماع.

( أما ) غيره الذي منه القبول ( في ) المجلس الآخر ومنه أيضا كون المشهود به من ( حقوق الله تعالى ) كشرب الخمر ( أو ) الزنا بل منه أيضا ( الشهادة للمصالح العامة ) كالقناطر والمدارس ونحوها ( فلا يمنع ) التبرع بالشهادة القبول فيها وفاقا للمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أيضا ، بل لم يعرف الخلاف في ذلك إلا ما يحكى عن الشيخ في النهاية التي هي متون أخبار ، مع أن المحكي عنه في المبسوط موافقة المشهور ، ولا ينافي ذلك قول المصنف : « وفيه تردد » ، كما ستسمع إشكال الفاضل فيه في بعض كتبه ، إذ هو لا ينافي استقرار المذهب على الأول ، بل هو الأقوى ( إذ لا مدعي لها ) بالخصوص ، لاختصاص الحق به تعالى أو لاشتراكه بين الكل.

على أنه لو جعل التبرع بالشهادة فيها مانعا لتعطلت الأولى. بل في كشف اللثام « وكذا الثانية ، لاشتراك أهل تلك المصلحة كلهم فيها ، فلو شرطنا الابتداء بالدعوى لم يبتدئ بها إلا بعضهم ، والشهادة لا تثبت حينئذ إلا قدر نصيبهم ، وهو مجهول ، لتوقفه على نسبة محصور إلى غير‌

__________________

(١) مسند أحمد ـ ج ٤ ص ٤٢٦.

(٢) سنن ابن ماجه ج ٢ ص ٦٤.

(٣) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٥٠٦.

(٤) البحار ج ٦ ص ١٨ وصحيح مسلم ج ٦ ص ٥٤.

١٠٦

محصور ، ولأن المصلحة إذا عمت عدول المؤمنين بأجمعهم كانت الشهادة منهم دعوى ، فلو توقفت على دعوى غيرهم كان ترجيحا من غير مرجح مع لزوم الدور ، بل قيل : ولأن الشهادة بحقوق الله تعالى نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما واجبان ، والواجب لا يعد تبرعا ، قيل : وللجمع بين ما مر من الخبرين (١) و‌قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : « ألا أخبركم بخير الشهود؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد ».

ولكن مع ذلك كله قال ( وفيه تردد ) مما عرفت ومن التهمة المزبورة ، بل في الرياض « ليس في شي‌ء مما ذكر ما يفيد تقييد الأدلة المانعة عن قبول الشهادة مع التهمة بعد حصولها كما هو فرض المسألة بحقوق الآدميين خاصة ومجرد عدم المدعي لحقوق الله تعالى لا يدفع التهمة ولا يفيد التقييد المزبور ، إذ لا دليل على إفادته له من إجماع أو رواية ، وأداء عدم القبول فيها إلى سقوطها لا دلالة فيه على أحد الأمرين أصلا ، ولا محذور في سقوطها مع عدم قبولها ، بل هو مطلوب ، لبناء حقوق الله تعالى على التخفيف اتفاقا نصا وفتوى ، ولو سلم فإنما يؤدى إلى السقوط لو رد مطلقا ، سواء كان في مجلس الشرع أو غيره ، أما لو خص الرد بالأول كما هو رأي بعض في حقوق الآدميين فلا يؤدي إلى السقوط ، لإمكان قبوله لو أدى في مجلس آخر من غير تبرع ثانيا والنبوي الأخير بعد الإغماض عن سنده غير دال على القبول هنا خاصة ، بل هو عام لما سبق من حقوق الآدميين ولم يقل به ـ كما مضى ـ أحد ، وتقييدها بالمقام‌

__________________

(١) المشار إليه هو‌قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثم يفشو الكذب ... » و « تقوم الساعة على قوم ... » المتقدمان في ص ١٠٦.

(٢) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٥٩ مع اختلاف يسير.

١٠٧

فرع وجود دليل عليه أو قرينة ، وليسا » إلى غير ذلك مما ذكره في هذا المبحث من غرائب الكلام ، ومنشأه دعوى ظهور إطلاق الأدلة في منع مطلق التهمة لقبول الشهادة ، والأردبيلي الذي هو الأصل في هذا الكلام قد اعترف في مسألة شهادة المختبئ أن المدار على ما ثبت من النص أو الإجماع من أفراد التهمة لا مطلقها ، ومن أنصف وتأمل رأى أن أكثر ما ذكره السيد في الرياض هنا ساقط لا يوافق فتاوى الأصحاب ، بل ولا قواعد الباب ، والتحقيق ما عرفت من القبول في المقام ، لعدم الإجماع ، بل مظنته في العكس ، بل على احتمال كون مبنى المنع في التبرع عدم الاذن من صاحب الحق يتجه القبول هنا ، لعدم مدع بالخصوص.

وبالجملة فالمسألة مفروغ منها ، بل ما كان للمصنف التردد في ذلك.

ومما ذكرنا تعرف الوجه في الحق المشترك بين الله تعالى وبين الآدمي ، وأنه القبول في حق الله تعالى والرد في حق الآدمي ، فيقطع بالسرقة بشهادة المتبرع ولا يغرم ، اللهم إلا أن يقال : إن محل الإجماع الرد في حق الآدمي الخالص دون المشترك ، فيبقى على عموم أدلة القبول خصوصا في الحق المشترك الذي لا يقبل التوزيع ، هذا.

ولكن في كشف اللثام « والظاهر الرد في الحق المشترك والقطع في السرقة دون الغرم ، ويحتمل القبول في الطلاق والعتاق والرضاع والخلع والعفو عن القصاص والنسب ، لغلبة حق الله تعالى فيها ، ولذا لا تسقط بالتراضي ، وفي شراء الأب إذا ادعاه هو أو ابنه وجهان ، من أن الفرض عتقه وحق الله فيه غالب ، ومن توقفه على العوض الذي لا يثبت ، ويقوى الثبوت إذا ادعاه الابن ، للاعتراف بالعوض ، والفرق بينه وبين الخلع أن العوض غير مقصود في الخلع بخلافه في الشراء ، فيمكن ثبوت‌

١٠٨

الطلاق دون العوض ، ويحتمل ثبوت العوض فيهما تبعا لحق الله تعالى شأنه » انتهى.

ولا يخفى عليك الوجه في جميع ذلك بعد الإحاطة بجميع ما ذكرناه ، خصوصا بناء على أن المنع من التبرع لعدم الاذن ممن له الحق ، فإن الأمر حينئذ سهل ، ضرورة إمكان عود الشهادة بالإذن كعود اليمين مع الإذن ، إذ لا بطلان للشهادة من رأس ، بل هو كذلك أيضا على الوجه الآخر إذا لم نقل إن المانع التهمة العرفية ، بل الإجماع المزبور المقتصر فيه على المورد المتيقن.

كما لا يخفى عليك إمكان المناقشة في بعض ما ذكره من أفراد الحق المشترك بأن الظاهر في بعضها كونه من حق الآدميين ، وعدم السقوط بالتراضي لا ينافي ذلك من حيث حكم الإيقاع الذي لا يقبل الفسخ به مثلا أو غير ذلك ، ولذا لو أقر أحدهما أو تصادقا عليه جرى عليه حكم الإقرار والتصادق ، والله العالم.

المسألة ( الخامسة : )

( المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته ) ولو المردودة ( الوجه أنها لا تقبل حتى يستبان استمراره على الصلاح ) وإن لم يكن فيه تهمة التعبير برد الشهادة ، بل لأن المفروض عدم توبة حقيقة ، ضرورة كونها الندم على ما وقع من المعصية والعزم على عدم الوقوع في ما يأتي وأن ذلك امتثالا لأمر الله تعالى شأنه ، إذ الظاهر كونها من العبادات المعتبر فيها النية والإخلاص ، بل عن التجريد اعتبار كون الترك لقبح الذنب فيها ، بل عنه أيضا اعتبار كون ذلك عن الجميع لا البعض خاصة وإن‌

١٠٩

كان الأقوى خلافه في الأخير ، وأما الأول فالظاهر أنه قريب مما ذكرنا ، وإلا كان الأقوى خلافه أيضا.

وعلى كل حال فالتوبة لقبول الشهادة ليست توبة حقيقة ، بل يمكن أن تكون هي فسقا آخر باعتبار منافاة ذلك للإخلاص المعتبر فيها ، ( و ) لكن مع ذلك ( قال الشيخ ) وابن سعيد في المحكي عن جامعه ( يجوز أن يقول ) الحاكم للفاسق ( تب أقبل شهادتك ) وفي القواعد بعد أن حكاه عنه : « وليس بجيد نعم لو عرف استمراره على الصلاح قبلت » وفي كشف اللثام « أو أنه تاب حين تاب بإخلاص النية وتصميم العزم » وتبع بذلك الشهيد في الدروس ، حيث إنه بعد أن حكى ذلك عن الشيخ قال : « وهذا يتم إذا علم منه التوبة بقرائن الأحوال ».

وفي المسالك بعد أن حكى المشهور قال : « وذهب الشيخ في موضع من المبسوط إلى الاكتفاء بإظهار التوبة عقيب قول الحاكم له : تب أقبل شهادتك ، لصدق التوبة المقتضي لعود العدالة مع انتفاء المانع ، فيدخل تحت عموم قبول شهادة العدل ، وأجيب بمنع اعتبار توبته حينئذ ، لأن التوبة المعتبرة هو أن يتوب عن القبيح لقبحه ، وهنا ظاهرها أنها لا لقبحه بل لقبول الشهادة ، وفيه نظر ، لانه لا يلزم من قوله : تب أقبل شهادتك كون التوبة لأجل ذلك ، بل غايته أن تكون التوبة علة في القبول أما أنه غاية لها فلا ، وأيضا فالمأمور به التوبة المعتبرة شرعا لا مطلق التوبة ، فالمغياة بقبول شهادته ليست كذلك ، نعم مرجع كلامه إلى أن مضى الزمان المتطاول ليس بشرط في ظهور التوبة ، والأمر كذلك إن فرض غلبة ظن الحاكم بصدقه في توبته في الحال وإلا فالمعتبر ذلك ».

قلت : ومرجع ذلك إلى كون النزاع مع الشيخ لفظيا ، وهو خلاف ما فهمه المصنف وغيره ، وظني أن الشيخ يجتزئ لأصل الصحة بمجرد‌

١١٠

إظهار التوبة في تحققها المقتضي لإجراء الأحكام عليها التي منها قبول الشهادة ، للنصوص المستفيضة (١) التي تقدم سابقا جملة منها في توبة القاذف الدالة على قبول شهادة الفاسق إذا تاب ، بل لا خلاف فيه في الظاهر. وفيه أن التوبة لما كانت من الأمور القلبية ـ ضرورة كونها الندم والعزم وهما معا قلبيان وإخباره بحصولهما لا دليل على الاجتزاء به ، بل ظاهر الأدلة خلافه ـ فليس حينئذ إلا تعرفهما بالآثار الدالة على ذلك ، نحو غيرهما من الأمور الباطنة ، ولا يجدى أصل الصحة في حصول التوبة ، ضرورة كون مورده الفعل المحقق في الخارج المشكوك في صحته وفساده كالبيع والصلاة ونحوهما لا الأفعال القلبية التي لم يعلم حصولها ، كما هو واضح. وبذلك ظهر لك وجه البحث على أحسن وجه فتأمل.

وعلى كل حال فقد عرفت حقيقة الحال في التوبة ، لكن ذكر غير واحد أن المعصية التي يتاب عنها إن لم يكن فيها حق لله ولا للعباد كالاستمتاع بما دون الوطء وكالوطء في الحيض ونحو ذلك فلا شي‌ء عليه سوى الندم والعزم المزبورين على الوجه الذي عرفت.

وإن كان تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والخمس والغصب ونحوها مما يتعلق بأموال الناس فيجب مع ذلك براءة الذمة منه بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت ويغرم بدلها إن لم تبق أو يستحل من المستحق فيبرؤه منها ، ولو كان معسرا نوى الغرامة له إذا قدر.

وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي كما لو زنى أو شرب فان لم يظهر فيجوز أن يظهره ويقربه فيقام عليه الحد ، ويجوز أن يستره وهو الأولى ، فإن ظهر فقد فات الستر فيأتي الحاكم ليقيم عليه الحد إلا أن يكون ظهوره قبل قيام البينة عليه عند الحاكم ، كما سيأتي من سقوط الحد بالتوبة قبل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من كتاب الشهادات.

١١١

قيام البينة مطلقا.

وإن كان حقا للعباد كالقصاص والقذف فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء ، فان لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يخبره ، ويقول : أنا الذي قتلت أباك فلزمني القصاص ، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف.

وفي القذف والغيبة إن بلغه فالأمر كذلك ، وإن لم يبلغه فوجهان من أنه حق آدمي فلا يزول إلا من جهته ـ وفي المسالك وإليه ذهب الأكثر ـ ومن استلزامه زيادة الأذى ووغر القلوب ، وعلى الأول فلو تعذر الاستحلال منه بموته أو امتناعه فليكثر من الاستغفار والأعمال الصالحة عسى أن تكون عوضا عما يأخذه يوم القيامة من حسناته إن لم يعوضه الله عنه ، ولا اعتبار فيه بتحليل الوارث وإن ورث حد القذف ، أما الحق المالي إذا مات مستحقه فإنه ينتقل إلى وراثه ويبرأ بدفعه إليهم وبابرائهم منه وهكذا ، فينتقل من وارث إلى آخر ، ومتى دفع هو أو أحد من ورثته أو بعض المتبرعين إلى الوارث في بعض الطبقات برئ منه وإن بقي إلى يوم القيامة ففي مستحقه حينئذ أوجه.

قلت : الظاهر عدم اعتبار الخلوص من توابع الذنب في التوبة منه التي قد عرفت أنها الندم على وقوعه منه والعزم على عدم إيقاعه ، ودعوى أن الندم على ذلك لا يتحقق إلا بالخلاص مما تبعه ومنه واضحة الفساد ، ضرورة كون ذلك واجبا آخر ، نعم لو فرض كون التابع من أفراد الذنب الذي فرض التوبة عنه اتجه حينئذ ذلك ، لعدم تحققها حينئذ بدونه ، كما لو تاب عن ظلم الناس والفرض وجود ما لهم عنده ، فلا توبة في الحقيقة عن ذلك إلا مع الخروج عما في يده وإرجاعه إليهم بطريقه الشرعي ، وإلا هو باق على الظلم ، بخلاف ما لو تاب عن قتل الناس مثلا وإن قصر ببذل القصاص من نفسه ، إذ هو ذنب آخر ، وقلنا‌

١١٢

بجواز التبعيض في التوبة ، ويمكن تنزيل كلام من أطلق على ذلك.

بل قد يظهر من البهائي في أربعينه المفروغية من ذلك ، فإنه بعد أن ذكر جملة من الكلام في التوبة والخروج من توابع الذنوب نحو ما سمعته منهم قال : « واعلم أن الإتيان بما تستتبعه الذنوب من قضاء الفوائت وأداء الحقوق والتمكين من القصاص والحد ونحو ذلك ليس شرطا في صحة التوبة ، بل هذه واجبات برأسها ، والتوبة صحيحة بدونها ، وبها تصير أكمل وأتم ».

وهو صريح في ما قلناه ، ولا ينافي ذلك ما ورد في بعض النصوص المحمولة على إرادة التوبة من سائر الذنوب ، نحو‌قول أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) في تفسير قوله تعالى (٢) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) : « إن التوبة تجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي ».

وقوله عليه‌السلام أيضا (٣) وقد سمع قائلا يقول : استغفر الله تعالى شأنه : « ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين ، وهو اسم واقع على ستة معان : أولها : الندم على ما مضى ، الثاني العزم على ترك العود إليه أبدا ، الثالث : أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة ، الرابع : أن تعمد إلى فريضة ضيعتها فتؤدي حقها ، الخامس : أن تعمد إلى اللحم‌

__________________

(١) لم أعثر عليه عاجلا في كتب الأخبار والتفاسير.

(٢) سورة التحريم : ٦٦ ـ الآية ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨٧ ـ من أبواب جهاد النفس ـ الحديث ٣ من كتاب الجهاد.

١١٣

الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد ، السادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ».

إذ لا يخفى عليك كون المراد التوبة من سائر الذنوب ، بل الظاهر إرادة الفرد الكامل منها ، ضرورة أنه كما لا يكفي في جلاء المرآة قطع الأنفاس والأبخرة المسودة لوجهها بل لا بد من صقلها وإزالة ما حصل بجرمها من السواد كذلك لا يكفي في جلاء القلب من ظلمات المعاصي وكدوراتها مجرد تركها وعدم العود إليها ، بل يجب محو آثار تلك الظلمات بأنوار الطاعات ، فإنه كما يرتفع إلى القلب من كل معصية ظلمة وكدورة كذلك يرتفع إليه من كل طاعة نور وضياء ، بل الأولى محو ظلمة كل معصية بنور طاعة تضادها ، بأن ينظر التائب إلى سيئاته مفصلة ويطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها ، فيأتي بتلك الحسنة على قدر ما أتى بتلك السيئة ، فيكفر استماع الملاهي مثلا باستماع القرآن والأحاديث والمسائل الدينية ، وهكذا كما يعالج الطبيب الأمراض بأضدادها ، وقد تكفل علماء الأخلاق ببيان أمثال هذه المقامات ، وعلى كل حال فهذه أمور أخر غير التوبة عن نفس الذنب التي هي الندم على فعله ، بل في التحرير عن بعضهم عدم اعتبار العزم على عدم العود إليها وإن كان الظاهر خلافه ، لأن العزم المزبور لازم لذلك الندم غير منفك عنه.

ثم إن ظاهر الكلام المزبور الخروج عن الحق المالي بالإيصال إلى صاحبه ولو الوارث البعيد ، بل وإن كان من متبرع على وجه لم يبق عليه شي‌ء. وفيه أن الظلم بحبس المال عن صاحبه لا يرتفع بالإيصال إلى الوارث ، وإنما يفيد الوصول إلى الوارث ارتفاع الظلم عنه بنفس المال ، وأما حق الحبس فالظاهر تعلقه به ، اللهم إلا أن يقال إن التوبة تكفر ذلك ، وفيه‌

١١٤

ما فيه ، فإنها لا ترفع حقوق الناس ، وإنما هي ترفع عقاب الذنب من حيث التوعد عليه من الله تعالى شأنه عقلا أو سمعا على خلاف لهم في ذلك ، وأما حق الناس فلا بد من وصوله إلى مستحقيه ولا طريق لهذا الحق وأمثاله مما ليس لأحد العفو عنه إلا صاحبه إلا التوسل إلى الله تعالى شأنه بتحمل ذلك عنه والإلحاح عليه في ذلك والتضرع والابتهال ونحوهما ، فلعل الله تعالى يعوضه يوم القيامة بما يرضيه عن مظلمته كما هو الرجاء به ، وإلى ذلك أشير في الأدعية المأثورة عنهم عليهم‌السلام.

ومن ذلك يظهر أن المال الذي لم يوصله إلى وارثه إلى آخر الأبد تصح مطالبة الجميع به وإن كان الأخير منهم يطالب بعينه وغيره يطالب به من حيث حبسه ، وقاعدة العدل تقتضي الانتصاف منه للجميع.

ولكن في‌صحيح عمر بن يزيد (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ثم صالح ورثته على شي‌ء فالذي أخذ الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، وإن هو لم يصالحهم على شي‌ء حتى مات ولم يقض عنه فهو للميت يأخذه به » ‌ما ينافي ما ذكرنا ، وقد عمل به غير واحد ، ولكن المسألة قليلة الجدوى ، فإن الأمر ذلك اليوم إلى من لا يشتبه عليه الحال ، وينتصف للجماء من القرناء ، وله كتاب على عبيده ( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها ) ، ومن ( يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ، وفي المقام أبحاث كثيرة ذكر جملة منها علماء الكلام ، وأخرى علماء الأخلاق.

وقد ذكرنا نحن ما يتعلق في الغيبة وأنه لا بد فيها من الاستحلال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الصلح ـ الحديث ٤.

١١٥

أو يكفي فيها الاستغفار في كتاب المكاسب (١) ومنه يستفاد الحكم في غيرها ، والنصيحة التامة للعبد الإكثار من الحسنات التي يرجى معها إذهاب السيئات ولو بتعويض الله تعالى شأنه وإرضائهم ، فإنه المالك للجميع ، والله العليم الرؤوف الرحيم.

المسألة ( السادسة : )

( إذا حكم الحاكم ثم تبين في الشهود ما يمنع القبول فان كان متجددا بعد الحكم لم يقدح ) بلا خلاف فيه بيننا بل ولا إشكال ، وإن كان حاصلا بعد الإقامة قبل الحكم فسيأتي البحث فيه إن شاء الله ( وإن كان حاصلا قبل الإقامة ) على وجه يقتضي وجوده حال الشهادة التي فرض كون الحكم بها ( وخفي عن الحاكم نقض ) هو بل وغيره من الحكام ( الحكم ) ضرورة بيان فساد ميزان القضاء حينئذ ، نعم لو فرض الاختلاف في الاجتهاد لم ينقضه هو لو فرض تغير رأيه فضلا عن غيره ، هذا وفي المسالك « وطريق ثبوت فسقهما سابقا بحضور جارحين لهما بأمر سابق على الشهادة ».

قلت ـ بعد تنزيل كلامه على إرادة استمراره إلى حين الشهادة التي قد حكم بها من السابق ـ : قد يشكل ذلك بمنافاته لمشروعية القضاء الذي هو الفصل المبني على الدوام والتأبيد وأنه لا تجوز الدعوى عنده ولا عند حاكم آخر ، ضرورة أن البينة المزبورة لا تقتضي العلم بفساد ميزان الحكم ، خصوصا مع إمكان معارضتها بأقوى منها حال القضاء أو بالجرح لها أو بغير ذلك ، فلا ينقض الحكم المحمول شرعا على الوجه الصحيح المبني على‌

__________________

(١) راجع ج ٢٢ ص ٧٢.

١١٦

الدوام والتأبيد الموافق للحكمة المزبورة بالبينة المفروضة ، خصوصا بعد سؤال الحاكم الجرح للخصم فعجز عنه ثم إنه تيسر له بعد ذلك شاهدان ، بل لو فرض بقاء حق الجرح له بعد الحكم لم تبق فائدة للحكم ، بل ليس الفصل فصلا.

نعم لو بان الجرح على وجه يعلم خطأ الحاكم فيه لغفلة ونحوها اتجه ذلك ، ويمكن تنزيل كلام الأصحاب على ذلك ، بل لعل حكمهم بعدم النقض بالتغيير بالاجتهاد مما يرشد إلى ذلك ، ضرورة كون السبب فيه عدم معلومية الخطأ المشترك في المقامين ، وقد تقدم في كتاب القضاء (١) ما له نفع في المقام ، فلاحظ وتأمل ، ويأتي إن شاء الله ، والله العالم.

الوصف ( السادس : طهارة المولد ، فلا تقبل شهادة ولد الزنا أصلا ) على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك في محكي الانتصار والخلاف والغنية والسرائر ، لا للحكم بكفره شرعا وإن وصف بالإسلام وصار من عدوله ، لعدم الدليل على ذلك بحيث يخص به ما دل على إسلام المسلم وصيرورته عدلا بما ذكر في الأدلة الشرعية ، كما بينا ذلك في كتاب الطهارة (٢) بل للنصوص المعتبرة المستفيضة المروية في الكتب الأربعة وغيرها التي فيها الصحيح وغيره المنجبر بما عرفت وبتعاضد الأدلة.

ك‌صحيح الحلبي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن شهادة ولد الزنا ، فقال : لا ولا عبد ».

وخبر أبي بصير (٤) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن ولد‌

__________________

(١) راجع ج ٤٠ ص ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) راجع ج ٦ ص ٦٨ ـ ٧١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

١١٧

الزنا أتجوز شهادته؟ فقال : لا ، فقلت : إن الحكم بن عيينة يزعم أنها تجوز ، فقال : اللهم لا تغفر ذنبه ، ما قال الله للحكم ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) » (١) وعن بصائر الدرجات روايته مسندا إلى أبان بن عثمان ، وكذا عن الكشي في كتاب الرجال مع زيادة « فليذهب الحكم يمينا وشمالا ، فو الله ما يؤخذ العلم إلا من أهل بيت ينزل عليهم جبرئيل ».

وخبر محمد بن مسلم (٢) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا تجوز شهادة ولد الزنا ».

وخبر زرارة (٣) : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لو أن أربعة شهدوا عندنا بالزنا على رجل وفيهم ولد الزنا لحددتهم جميعا ، لأنه لا تجوز شهادته ، ولا يؤم الناس ».

وفي المروي عن تفسير العياشي عن الحلبي (٤) عن الصادق عليه‌السلام « ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادة ، ولا يؤم الناس ، لم يحمله نوح في السفينة وقد حمل فيها الكلب والخنزير ».

وفي المرسل (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن نوحا حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا » ‌إلى غير ذلك من النصوص.

ومن الغريب ما في المسالك من المناقشة في سند النصوص إلا صحيح الحلبي منها ثم قال : « ولكن دلالته لا تخلو من قصور » ثم حكى عن ابن إدريس التعليل بالكفر ، وعن المرتضى الاستدلال بما‌ورد « أن‌

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ ـ الآية ٤٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ـ ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ـ ٩.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ـ ١٠.

١١٨

ولد الزنا لا ينجب » ‌وعن ابن الجنيد « أنه شر الثلاثة » (١) وغير ذلك مما تكون المناقشة فيه واضحة. ثم ذكر بعد ذلك ما يقتضي الميل إلى قبول شهادته ، إذ فيه ما لا يخفى من أنه لا حاجة إلى صحة السند بعد الانجبار والاعتضاد بما عرفت ، مع أنه أطنب بعض الأفاضل في فساد مناقشته في السند ، فان كثيرا منها معتبر.

وأغرب من ذلك كله أنه بعد أن حكى عن الشيخ في المبسوط نقله عن قوم القبول وأنه قال : « هو قوي لكن أخبار أصحابنا تدل على أنه لا تقبل شهادته » قال : « ومجرد معارضة أخبار أصحابه لا تقتضي الرجوع عما قواه ، ويجوز العدول عن الأخبار لوجه يقتضيه ، فقد وقع له كثيرا ، ووجه العدول واضح ، فان عموم الأدلة من الكتاب (٢) والسنة (٣) على قبول شهادة العدل ظاهرا يتناول ولد الزنا ، ومن ثم ذهب إليه أكثر من خالفنا ».

قلت : وهو دليل فساده ، لأن الله قد جعل الرشد في خلافهم ، وقد سمعت ما ذكره الامام عليه‌السلام في الحكم ، بل لعل هذه النصوص إشارة إليهم ، فإن كثيرا منهم فاقد طيب الولادة كما أومأت إليه نصوص تحليل الخمس (٤) والذي أوقعهم في الوهم إعراضهم عن أهل بيت الوحي ( صلوات الله عليهم ) كما أنك قد سمعت عن الشيخ الإجماع على عدم قبول شهادته ، بل لعل قوله هنا : « أخبار أصحابنا » مشعر بكون الحكم مفروغا منه عندهم والعمومات قد خصصها من خرجت‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٥.

(٢) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.

١١٩

منهم ، وما كنا لنؤثر أن يقع من مثله التشكيك في هذا الحكم المعروف بين قدماء الإمامية ( و ) متأخريهم.

نعم ( قيل ) والقائل الشيخ في النهاية التي هي متون أخبار وابن حمزة في المحكي عنه ( تقبل ) شهادته ( في اليسير ) من المال ( مع تمسكه بالصلاح ، وبه رواية نادرة ) هي‌رواية عيسى بن عبد الله (١) المشترك ـ كما قيل ـ : بين الثقة وغيره عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن شهادة ولد الزنا ، فقال : لا تجوز إلا في الشي‌ء اليسير إذا رأيت منه صلاحا » ‌التي أجاب عنها في المختلف بالقول بالموجب ، فان قبول شهادته باليسير يعطى المنع من قبول اليسير من حيث المفهوم ، إذ لا يسير إلا وهو كثير بالنسبة إلى ما دونه ، فإذا لا نقبل شهادته إلا في أقل الأشياء وليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه ، إذ لا دون له ومثله لا يملك ، وإن كان لا يخلو من مناقشة إلا أنه لا بأس به ، خصوصا إذا كان غرض الامام عليه‌السلام التخلص بذلك عن التقية ، فيكون رمزا منه إلى ما صرح به في غير هذا الخبر ، فإن التقية توجب أعظم من ذلك.

بل في‌المروي عن قرب الاسناد عن علي بن جعفر (٢) عن أخيه عليه‌السلام « سأله عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال : نعم تجوز شهادته ولا يؤم ، وليس لك إلا لها » ‌لكن في الوسائل أنه رواه‌علي بن جعفر في كتابه (٣) عن أخيه عليه‌السلام « لا تجوز شهادته ولا يؤم » ‌وعلى كل حال فالمسألة مفروغ منها.

نعم ذلك لا يقتضي عدم إجراء حكم الإسلام بل والايمان بل والعدالة عليه في غير مورد النص والفتوى ، بل قد يحتمل صحة الطلاق مع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٨.

١٢٠