الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي
المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢
القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد وقع على الأرض مغشيّا عليه ، فوقفت على رأسه ، فنظر إليّ وقال : ما صنع الناس يا عليّ؟
فقلت : كفروا يا رسول الله وولّوا الدّبر من العدوّ وأسلموك.
فنظر النبيّ عليهالسلام الى كتيبة أقبلت إليه ، فقال لي : ردّ عنّي يا عليّ هذه الكتيبة. فحملت عليها بسيفي أضربها يمينا وشمالا حتّى ولّوا الأدبار.
فقال لي النبيّ عليهالسلام : ما تسمع يا عليّ مدحتك في السماء! إنّ ملكا يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ. فبكيت سرورا وحمدت الله على نعمته (١).
وروى الحسن بن محبوب ، قال : حدّثنا جميل بن صالح ، عن أبي عبيدة ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهمالسلام قال : كان أصحاب اللواء يوم احد سبعة (٢) قتلهم عليّ عليهالسلام عن آخرهم وانهزم القوم ، فلم يعد بعدها أحد منهم ، وتراجع المنهزمون من المسلمين الى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وانصرف المشركون الى مكّة ، وانصرف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الى المدينة فاستقبلته فاطمة عليهاالسلام معها إناء فيه ماء ، فغسل به وجهه ، ولحقه امير المؤمنين عليهالسلام وقد خضب الدم يده الى كتفه ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة عليهاالسلام ، وقال لها : خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم وأنشأ يقول :
أفاطم هاك السيف غير ذميم |
|
فلست برعديد (٣) ولا بمليم (٤) |
لعمري لقد اعذرت في نصر أحمد |
|
وطاعة ربّ بالعباد رحيم (٥) |
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش.
وروي : أنّه لمّا انتهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الى فم الشعب خرج عليّ عليهالسلام حتى ملأ
__________________
(١) الإرشاد للمفيد : ص ٤٦ ـ ٤٧.
(٢) في الإرشاد : تسعة.
(٣) الرعديد : الجبان ( لسان العرب ٣ / ١٧٩ ).
(٤) المليم بمعنى الملوم ( لسان العرب ١٢ / ٥٥٨ ).
(٥) في الإرشاد : « عليم » بدل « رحيم ».
درقته (١) من المهراس (٢) ماء ، فجاء به الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه ، فغسل منه وجهه.
غزاة الأحزاب
وهي الخندق ، وكانت هذه الغزاة في شوّال سنة خمس من الهجرة.
قوله تعالى : ( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ) أي من قبل المشرق ( وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) أي من الغرب ، الى قوله ( غُرُوراً ) (٣).
فخرج أبو سفيان بقريش ، والحارث بن عوف في بني مرّة ، ووبرة بن طريف ومسعود بن جبلة في أشجع ، وطليحة بن خويلد في بني أسد ، وعيينة بن حصين الفزاري في غطفان ، وبني فزارة وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمي في بني سليم ، ومن اليهود حيّ بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وسلام بن أبي الحقيق ، وهوذة ابن قيس الوالبي في رجالهم ، فكانوا ثمانية عشر ألفا ، والمسلمون في ثلاثة آلاف.
فلمّا سمع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم باجتماعهم استشار أصحابه ، فأجمعوا على المقام بالمدينة وحربهم على إيقابها ، وأشار سلمان بالخندق ، فأقاموا بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلاّ مراماة.
فلمّا رأى النبيّ عليهالسلام الى ضعف قومه استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في المصالحة على ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصين الفزاريّ والحارث بن عوف المرّي ، فأبيا. فقال عليهالسلام : إنّ الله تعالى لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده فقام عليهالسلام يدعوهم الى الجهاد ويعدهم النصر (٤).
وقد كان انتدب فوارس من قريش الى البراز منهم عمرو بن عبد ودّ وعكرمة ابن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّان وضرار بن الخطّاب ومرداس
__________________
(١) الدرق : ضرب من الترسة ، الواحدة درقة تتّخذ من الجلود ( لسان العرب ١٠ / ٩٥ ).
(٢) المهراس : حجر مستطيل منقور يتوضّأ منه ويدق فيه ( لسان العرب ٦ / ٢٤٨ ).
(٣) الأحزاب : ١٠.
(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٩٧ ـ ١٩٨.
الفهريّ ، فلبسوا للقتال ثمّ خرجوا على خيلهم حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة ، فقالوا : تهيّؤا يا بني كنانة للحرب ثمّ أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتّى وقفوا على الخندق ، فلمّا تأمّلوه قالوا : والله إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثمّ تيمّموا مكانا من الخندق فيه ضيق فضربوا خيلهم فاقتحمته ، وجاءت بهم في السبخة بين الخندق وسلع (١).
وخرج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين حتّى أخذوا على الثغرة التي اقتحموها.
فتقدّم عمرو بن عبد ودّ الجماعة الذين خرجوا معه ، وقد أعلم ليرى مكانه.
فلمّا رأى المسلمين وقف هو والخيل التي معه وقال : هل من مبارز؟ فبرز إليه أمير المؤمنين عليهالسلام.
فقال له عمرو بن عبد ودّ : ارجع يا ابن أخي فما احبّ أن أقتلك.
فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : قد كنت عاهدت الله يا عمرو أن لا يدعوك أحد من قريش الى إحدى خصلتين إلاّ اخترتها منه.
قال : أجل فما ذاك؟
قال عليهالسلام : فإنّي أدعوك الى الله ورسوله والإسلام.
قال : لا حاجة لي في ذلك.
قال : فإنّي أدعوك الى النزال.
فقال : ارجع فقد كان بيني وبين أبيك خلّة (٢) وما احبّ أن أقتلك.
فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : لكنّي والله احبّ أن أقتلك ما دمت أبيّا للحقّ.
فحمى عمرو من ذلك وقال : أتقتلني ، ونزل عن فرسه فعقره وضرب وجهه حتى نفر ، وأقبل على عليّ عليهالسلام مصلتا سيفه ، وبدره بالسيف فنشب سيفه في ترس عليّ عليهالسلام ، وضربه عليّ عليهالسلام فقتله.
__________________
(١) سلع : موضع بقرب المدينة ، وقيل : جبل بالمدينة ( لسان العرب ٨ / ١٦١ ).
(٢) الخلّة : الصداقة المختصّة التي ليس فيها خلل ( لسان العرب ١١ / ٢١٦ ).
فلمّا رأى عكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطّاب عمرا صريعا ولّوا بخيلهم منهزمين حتّى اقتحموا الخندق لا يلوون على شيء ، وانصرف أمير المؤمنين عليهالسلام الى مقامه الأوّل وهو يقول :
نصر الحجارة من سفاهة رأيه |
|
ونصرت ربّ محمّد بصواب |
فضربته فتركته متجدّلا |
|
كالجذع بين دكادك وروابي |
وعففت عن أثوابه ولو أنّني |
|
كنت المقطّر بزّني أثوابي (١) |
وقد روي أنّ عمرا كان يدعو الى البراز ويعرّض بالمسلمين ويقول :
ولقد بححت من النداء |
|
بجمعهم هل من مبارز |
وفي كل ذلك يقوم عليّ عليهالسلام فيأمره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالجلوس ، فلمّا تتابع قيام أمير المؤمنين عليهالسلام قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ادن منّي يا عليّ. فدنا منه فنزع عمامته من رأسه وعمّمه بها ، وأعطاه سيفه ، وقال له : امض لشأنك ، ثمّ قال : اللهمّ أعنه ، فسعى نحو عمرو ومعه جابر لينظر ما يكون منه ومن عمرو.
فقال جابر رضياللهعنه : فثارت بينهما قترة (٢) فما رأيتهما وسمعت التكبير تحتها ، فعلمت أنّ عليّا عليهالسلام قد قتله ، فانكشف أصحابه حتّى طفرت خيولهم الخندق ، وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير ينظرون ما صنع القوم ، فوجدوا نوفل بن عبد الله في الخندق لم ينهض به فرسه ، فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ، ينزل بعضكم إليّ اقاتله. فنزل إليه أمير المؤمنين عليهالسلام فضربه حتى قتله. ولحق هبيرة فأعجزه ، فضرب قربوس سرجه وسقطت درع كانت له ، وفرّ عكرمة ، وهرب ضرار بن الخطّاب.
قال جابر : فما شبّهت قتل عليّ عمرا إلاّ بما قصّ الله تعالى من قصّة داود وجالوت حيث يقول ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ ) (٣) (٤).
__________________
(١) الإرشاد للمفيد : ص ٥٢ ـ ٥٣.
(٢) القترة : غبرة يعلوها سواد كالدخان ( لسان العرب ٥ / ٧١ ).
(٣) البقرة : ٢٥١.
(٤) الإرشاد للمفيد : ص ٥٣ ـ ٥٤.
قال ربيعة السعدي : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت له : يا عبد الله إنّا لنحدّث عن عليّ ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنّكم تفرطون في عليّ ، فهل أنت محدّثي بحديث فيه؟
فقال حذيفة : يا ربيعة ما تسألني عن عليّ ، والذي نفسي بيده لو وضع جميع أعمال أصحاب محمّد في كفّة الميزان منذ بعث الله محمّدا الى يوم الناس هذا ووضع عمل عليّ في الكفّة الاخرى لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد.
فقال حذيفة : يا لكع وكيف لا يحمل؟! وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمّد يوم عمرو بن عبد ودّ وقد دعا الى المبارزة فأحجم الناس كلّهم ما خلا عليّا عليهالسلام ، فإنّه برز إليه فقتله الله على يده؟! والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أصحاب محمّد الى يوم القيامة (١).
وعن عمرو بن عبيد ، عن الحسن : انّ عليّا عليهالسلام لمّا قتل عمرو بن عبد ودّ احتزّ رأسه وحمله فألقاه بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليّ عليهالسلام (٢).
وروى علي بن الحكم الأودي قال : سمعت أبا بكر بن عبّاس يقول : لقد ضرب عليّ عليهالسلام ضربة ما كان في الإسلام أعزّ منها ، يعني ضربة عمرو بن عبد ودّ ، ولقد ضرب عليّ عليهالسلام ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها ، يعني ضربة ابن ملجم لعليّ عليهالسلام (٣).
وفي قتل عمرو بن عبد ودّ يقول حسان بن ثابت :
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي |
|
بجنوب يثرب غارة لم ينظر |
ولقد وجدت سيوفنا مشهورة |
|
ولقد وجدت جيادنا لم تقصر |
__________________
(١) الإرشاد للمفيد : ص ٥٤ ـ ٥٥.
(٢) الإرشاد للمفيد : ص ٥٤ ـ ٥٥ وفيه : عمرو بن عبيد.
(٣) الإرشاد للمفيد : ص ٥٥.
فلقد رأيت غداة بدر عصبة |
|
ضربوك ضربا غير ضرب المحشر |
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة |
|
يا عمرو أو لعظيم أمر منكر |
ويقال : إنّه لمّا بلغ شعر حسان بن ثابت بني عامر أجابه فتى منهم فقال يردّ عليه في افتخاره بالأنصار :
كذبتم وبيت الله لم تفتكوا بنا |
|
ولكن بسيف الهاشميين فافخروا |
بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى |
|
بكفّ عليّ نلتم ذاك فاقصروا |
فلم تقتلوا عمرو بن ودّ ببأسكم |
|
ولكنّه الكفؤ الهزبر (١) الغضنفر |
عليّ الذي في الفخر طال بناؤه |
|
فلا تكثروا الدعوى علينا فتحقروا |
ببدر خرجتم للبراز فردّكم |
|
شيوخ قريش جهرة وتأخّروا |
فلمّا أتاهم حمزة وعبيدة |
|
وجاء عليّ بالمهنّد يخطر |
فقالوا نعم أكفاء صدق وأقبلوا |
|
إليهم سراعا إذ بغوا وتجبّروا |
فجال علي جولة هاشميّة |
|
فدمّرهم لمّا عتوا وتكبّروا |
فليس لكم فخر علينا بغيرنا |
|
وليس لكم فخر يعدّ ويذكر (٢) |
وقيل : لمّا قتل عليّ عليهالسلام عمرو بن عبد ودّ نعي الى اخته ، فقالت : من الذي اجترى عليه؟ قالوا : ابن أبي طالب. فقالت : لو لم يعد يومه على يد كفو كريم لأرقت عبرتي أن هرقتها عليه ، قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيّته على يد كفؤ كريم ، وأنشأت تقول :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله |
|
لكنت أبكي عليه سالف الأبد |
لكنّ قاتله من لا يعاب به |
|
وكان يدعى قديما بيضة البلد (٣) |
وقالت أيضا ، وقيل : إنّ هذه الأبيات لمشافع بن عبد مناف بن وهب :
عمرو بن عبد كان أوّل فارس |
|
جزع المذاد وكان فارس يليل |
يسأل النزال على فارس غالب |
|
بجنوب سلع ليته لم ينزل |
__________________
(١) الهزبر : من أسماء الأسد ( لسان العرب ٥ / ٢٦٣ ).
(٢) الإرشاد للمفيد : ص ٥٦.
(٣) الإرشاد للمفيد : ص ٥٧.
فاذهب عليّ فما ظفرت بمثله |
|
فخرا ولا لاقيت مثل المعضل (١) |
وروي أنّ عليّا عليهالسلام قتل يوم الخندق أيضا حسلا ولد عمرو بن عبد ودّ (٢).
وقالت اخت عمرو : والله لا ثأرت قريش بأخي ما حنّت النيب (٣) (٤).
وقيل : كانت صفيّة بنت عبد المطّلب في قارع حصن حسّان بن ثابت في يوم الخندق ، قالت : وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان ، قالت : فمرّ بنا يهوديّ فجعل يطيف بالحصن. قالت : فقلت : يا حسّان إنّ هذا اليهوديّ ما آمنه أن يدلّ على عوراتنا من ورائنا من يهود وقد شغل عنّا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله.
فقال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطّلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت : فلمّا قال ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثمّ أخذت عمودا ونزلت إليه فضربته حتى قتلته ، فلمّا فرغت منه رجعت الى الحصن قلت : يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني عن سلبه إلاّ أنّه رجل.
فقال : ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطّلب (٥).
وقال عبد الله بن الزبير : كنّا في قارع أطم (٦) حسّان مع النساء يوم الخندق ، ومعنا حسّان قد ضرب وتدا في الأطم ، فإذا حمل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على المشركين حمل على الوتد فضربه بالسيف ، وإذا أقبل المشركون انحاز عن الوتد حتّى كأنّه يقاتل قرنا يريد التشبّه بهم.
غزاة بني قريظة
ولمّا انهزم الأحزاب عمل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على قصد بني قريظة في ذي القعدة ،
__________________
(١) الروض الآنف : ج ٣ ص ٢٩١.
(٢) البداية والنهاية : ج ٤ ص ١١٦.
(٣) النيب : المسنّة من النوق ( لسان العرب ١ / ٧٧٧ ).
(٤) الإرشاد للمفيد : ص ٥٧.
(٥) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٣ ص ١٣٦ ـ ١٣٧.
(٦) الأطم : حصن مبنيّ بحجارة ( لسان العرب ١٢ / ١٩ ).
وكانوا نقضوا العهد مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعن الزهريّ وعروة : لمّا دخل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة وجعلت فاطمة عليهاالسلام تغسل رأسه إن قال له جبريل عليهالسلام : رحمك ربّك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ، ما زلت اتّبعهم حتّى بلغت الروحاء.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تصلّوا العصر إلاّ في بني قريظة ، وسأل : هل مرّ بكم الفارس آنفا؟
فقالوا : مرّ بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج.
فقال عليهالسلام : ليس ذاك بدحية ولكنّه جبريل عليهالسلام ارسل الى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب ثمّ أقدم عليّا عليهالسلام وقال له : سر على بركة الله فإنّ الله قد وعدكم أرضهم وديارهم ، ومعه المهاجرون والأنصار ، وجعل يسرّب (١) إليهم الرجال (٢).
فلمّا رأوا عليّا عليهالسلام صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو ، وقال آخر :
قد أقبل إليكم قاتل عمرو. وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك ، وسمع راجز يرتجز :
قتل عليّ عمرا |
|
صاد عليّ صقرا |
قصم عليّ ظهرا |
|
أبرم عليّ أمرا |
هتك عليّ سترا (٣) |
فقال عليّ عليهالسلام : فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك (٤).
فحاصرهم النبيّ عليهالسلام خمسا وعشرين ليلة حتّى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم سعدا بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال.
__________________
(١) يسرّب بالتشديد : أي يوجّه نحوه ويرسل إليه الرجال طائفة بعد طائفة.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٠.
(٣) الإرشاد للمفيد : ص ٥٨.
(٤) الإرشاد للمفيد : ص ٥٨.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله عزّ وجلّ من فوق سبعة أرقعة. وأمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بإنزال الرجال منهم وكانوا تسعمائة رجل ، فجيء بهم الى المدينة ، وقسّم الأموال واسترقّ الذراري والنسوان (١).
ولمّا جيء بالاسارى الى المدينة حبسوا في دار من دور بني النجّار ، وخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الى موضع السوق اليوم ، فخندق فيه خنادق ، وحضر أمير المؤمنين ومعه المسلمون ، فأمر بهم أن يخرجوا ، وتقدّم الى أمير المؤمنين عليهالسلام بضرب أعناقهم في الخندق.
فاخرجوا إرسالا وفيهم حيّ بن أخطب وكعب بن أسد ، وهما إذ ذاك رئيسا القوم ، فقالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا كعب ما تراه يصنع بنا؟
فقال : في كلّ موطن لا تعقلون ، ألا ترون أنّ الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع ، هو والله القتل.
وجيء بحيّ بن أخطب مجموعة يداه الى عنقه. فلمّا نظر الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أما والله تألّمت نفسي على عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل.
ثمّ أقبل على الناس فقال : أيّها النّاس أنّه لا بدّ من أمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني اسرائيل. ثمّ اقيم بين يدي أمير المؤمنين عليهالسلام وهو يقول : قتلة شريفة بيد شريف.
فقال عليهالسلام : إنّ خيار الناس يقتلون شرارهم ، وشرار الناس يقتلون خيارهم ، فالويل لمن قتله الأخيار الأشراف ، والسعادة لمن قتله الأرذال الكفّار.
فقال : صدقت ، لا تسلبني حلّتي.
قال : هي أهون عليّ من ذاك.
قال : سترتني سترك الله. ومدّ عنقه فضربها عليّ عليهالسلام ولم يسلبه من بينهم.
__________________
(١) الإرشاد للمفيد : ص ٥٨.
ثمّ قال أمير المؤمنين عليهالسلام لمن جاء به : ما كان يقول حيّ وهو يقاد الى الموت؟
قالوا : كان يقول :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه |
|
ولكنّه من يخذل الله يخذل |
فجاهد حتّى بلّغ النفس جهدها |
|
وحاول يبغي العزّ كلّ مقلّل (١). |
واصطفى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من نسائهم عمرة بنت خنافة. وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت أرسلت عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم حجرا (٢).
ولم يقتل من المسلمين غير خلال.
غزاة بنو (٣) المصطلق
هم من خزاعة ، وهي غزوة المريسيع ، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار. واصيب يومئذ ناس من بني عبد المطّلب ، فقتل عليّ عليهالسلام مالكا وابنه ، فأصاب النبيّ عليهالسلام سبيا كبيرا ، وكان سبا عليّ عليهالسلام جويريّة بنت الحارث بن أبي ضرار ، فاصطفاها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فجاء أبوها الى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بفداء ابنته ، فسأله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن جملين خبأهما في شعب كذا. فقال الرجل : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله ، والله ما عرف بهما أحد سواي.
ثمّ قال : يا رسول الله إنّ ابنتي لا تسبى أنّها امرأة كريمة.
قال : اذهب فخيّرها.
قال : أحسنت وأجملت. وجاء إليها أبوها ، فقال لها : يا بنيّة لا تفضحي قومك.
فقالت : قد اخترت الله ورسوله. فدعا عليها أبوها. فأعتقها رسول الله وجعلها في جملة أزواجه.
فلمّا سمع قومها ذلك أرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق ، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها.
وفي هذه الغزاة نزلت : ( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ) (٤) (٥).
__________________
(١) في الإرشاد : « مقلقل » بدل « مقلّل ».
(٢) الإرشاد للمفيد : ص ٥٨ ـ ٥٩.
(٣) كذا في الأصل ، والقاعدة : بني المصطلق.
(٤) النور : ١١.
(٥) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠١.
وكان شعار المسلمين يومئذ : يا منصور أمت (١).
ثمّ تلا بني المصطلق الحديبيّة.
ثمّ اعتمر عمرة الحديبيّة في ألف ونيّف رجل وسبعين بدنة ، فهمّت قريش في صدّه وبعثوا إليه مكرز بن حفص وخالد بن الوليد وصدّوا الهدي ، فبعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عثمان إليهم بزيّ (٢) أنّه معتمر ، فلمّا أبطأ أخذ عليهالسلام البيعة تحت شجرة السمرة على أن لا يفرّوا.
قال الزهري : فلمّا صار بذي الحليفة قلّد النبيّ عليهالسلام الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة ، فلمّا بلغ غدير الأشطاط عند عسفان أتاه عيينة الخزاعيّ فقال له : إنّ كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ جمعوا لك الجموع وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.
فقال عليهالسلام : إنّ خالد بن الوليد بالغميم (٣) طليعة ـ وهو اسم جبل القرقيش ـ فخذوا ذات اليمين. وسار حتّى إذا كان بالثنيّة بركت ناقته فقال : ما خلأت (٤) القصوى ولكن حبسها حابس الفيل.
ثمّ قال : والله لا يسألونني خطّة (٥) يعظّمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إيّاها.
قال : فعدل فنزل بأقصى الحديبيّة على ثمد الفضة (٦) ـ وهي بئر قليل الماء ـ فأتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة (٧) نصح رسول الله وقال كما قال العين.
فقال النبيّ عليهالسلام : إنّا لم نأت لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ، في كلام له فقال بديل : سأعلمهم ما يقول فأتى قريشا وقال : انّ هذا الرجل يقول لكم كذا وكذا.
فقال عروة بن مسعود الثقفي : إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها له.
__________________
(١) الإرشاد للمفيد : ص ٦٢.
(٢) في المناقب : يرى.
(٣) الغميم : كأمير واد بين الحرمين على مرحلتين من مكّة.
(٤) خلأت الناقة : أي بركت من غير علّة.
(٥) الخطّة بالضم : الأمر والخطب.
(٦) في المناقب : ثمد « القصة ».
(٧) العيبة من الرجل : موضع سرّه.
فقالوا : آته. فأتى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وسمع منه مثل مقاله لبديل ، ورأى تعظيم الصحابة له صلىاللهعليهوآلهوسلم فلمّا رجع قال : أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فلم أر قطّ ملكا تعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا ، يقتتلون على وضوئه ويتبادرون لأمره ويخفضون أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيما له ، وأنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوه.
فقال رجل من كنانة : آته. فلمّا أشرف عليهم قال النبيّ عليهالسلام : هذا فلان ، وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها. فبعثت ، واستقبل القوم يلبّون ، فلمّا رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.
ثمّ جاء مكرز بن حفص فجعل يكلّم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ جاء سهل بن عمرو فقال النبيّ عليهالسلام : قد سهل عليكم أمركم. فجلس وضرع الى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الصلح ، ونزل عليه الوحي بالإجابة الى ذلك وأن يكتب عليّ عليهالسلام.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : اكتب بسم الله الرحمن الرّحيم ... القصّة.
ثمّ كتب : باسمك اللهمّ ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس سبع سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، ويأمن المحتازون من الفريقين (١).
ولمّا تمّ الصلح نحر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هديه في مكانه.
ولمّا نزل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه النوبة الجحفة فلم يجد بها ماء ، فبعث سعد بن مالك في الروايا (٢) حتّى إذا كان غير بعيد رجع سعد بالروايا فقال : يا رسول الله ما أستطيع أن أمضي لقد وقفت قدماي رعبا من القوم.
فقال له النبيّ عليهالسلام : اجلس.
ثمّ بعث رجلا آخر فخرج بالروايا حتّى إذا كان بالمكان الذي انتهى إليه الأوّل رجع ، فقال له النبيّ عليهالسلام : لم رجعت؟
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣. في الأصل ، المختارون.
(٢) الرواية : المزادة فيها الماء ، ويسمّى البعير راوية على تسمية الشيء باسم غيره لقربه منه ( لسان العرب ١٤ / ٣٤٦ ).
فقال : والذي بعثك بالحقّ ما استطعت أن أمضي رعبا.
فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمير المؤمنين عليهالسلام فأرسله بالروايا ، وخرج السقاة وهم لا يشكّون في رجوعه لما رأوه من جزع ممّن تقدّمه. فخرج عليّ عليهالسلام بالروايا حتّى ورد الخرّار (١) فاستقى ، ثمّ أقبل الى النبيّ عليهالسلام فلها زجل (٢) ، فكبّر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعا له بخير (٣).
وفي هذه الغزاة أقبل سهيل بن عمرو الى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : يا محمّد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا.
فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ قال : لتنتهنّ يا معشر قريش أو ليبعثنّ الله عليكم رجلا امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين.
قال بعض من حضر : يا رسول الله أبو بكر ذلك الرجل؟ قال : لا.
قيل : فعمر؟ قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل في الحجرة. فبادر الناس الى الحجرة ينظرون الى الرجل فإذا هو أمير المؤمنين عليهالسلام (٤).
وقد روى هذا الخبر جماعة عن أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام وقالوا : إنّ عليّا عليهالسلام قصّ هذه القصّة ثمّ قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (٥).
وكان الذي أصلحه أمير المؤمنين عليهالسلام من نعل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شسعها ، فإنّه كان قد انقطع فخصف موضعه وأصلحه.
وقيل : انقطع شسع نعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدفعها الى عليّ عليهالسلام يصلحها ، ثمّ مشى في نعل واحدة غلوة أو نحوها ، وأقبل على أصحابه ثمّ قال : إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتل معي على التنزيل.
__________________
(١) الخرّار : موضع قرب الجحفة ( لسان العرب ٤ / ٢٣٤ ).
(٢) الزّجل بالتحريك : اللعب والحلبة ورفع الصوت ( لسان العرب ١١ / ٣٠٢ ).
(٣) الإرشاد للمفيد : ص ٦٤.
(٤) الإرشاد للمفيد : ص ٦٤.
(٥) الإرشاد للمفيد : ص ٦٤.
فقال أبو بكر : أنا ذاك يا رسول الله؟ فقال : لا.
فقال عمر : أنا يا رسول الله؟ فقال : لا.
فأمسك القوم ونظر بعضهم الى بعض ، فقال عليهالسلام : لكنّه خاصف النعل ، وأومأ الى علي عليهالسلام ، وأنّه المقاتل على التأويل إذا تركت سنّتي ونبذت وحرّف كتاب الله وتكلّم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم عليّ على إحياء دين الله عزّ وجلّ (١).
وفي سنة سبع في المحرّم كان فتح خيبر ، لمّا دنا النبيّ عليهالسلام منها رفع يده وقال : اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن وربّ الأرضين السبع وما أقللن ، وربّ الشياطين وما أضللن ، أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها (٢).
ثمّ نزل عليهالسلام تحت شجرة من المكان. ثمّ أقام وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة. وكانت الراية يومئذ لأمير المؤمنين عليهالسلام ، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب ، فكان الناس يتناوشون واليهود من بين أيدي حصونهم وجنباتها.
فلمّا كان ذات يوم فتحوا الباب وقد كانوا خندقوا على أنفسهم ، وخرج مرحب برجله يتعرّض للحرب.
فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا بكر فقال له : خذ الراية ، فأخذها في جمع من المهاجرين والأنصار واجتهد فلم يغن شيئا ، وعاد يؤنّب القوم الذين معه ويؤنّبونه.
فلمّا كان من الغد تعرّض لها عمر فسار بها غير بعيد ثمّ رجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ليست هذه الراية لمن حملها.
وقال : لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرّار.
قال سلمة : فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا عليهالسلام وهو أرمد فتفل في عينيه ثمّ قال له :
__________________
(١) الإرشاد للمفيد : ص ٦٥.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٤ ، الإرشاد للمفيد : ص ٦٥.
خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك.
قال سلمة : فخرج والله بها يهرول هرولة وإنّا خلفه نتّبع أثره حتّى ركز رايته في رضم (١) من حجارة تحت الحصن ، فأطلع إليه يهوديّ من رأس الحصن فقال : من أنت؟ قال : أنا عليّ بن أبي طالب. قال اليهوديّ : علوتم وما انزل على موسى. فما رجع حتّى فتح الله على يديه (٢).
وروي عن أبي رافع مولى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : خرجنا مع عليّ عليهالسلام حين بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضرب رجل من اليهود فطرح ترس عليّ عليهالسلام من يده ، فتناول عليهالسلام بابا كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم تزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه ، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أناثا منهم نجهد على أن نقلب الباب فما نقلبه (٣).
وروي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال له في دعائه : اللهمّ قه الحرّ والبرد. وقال له : خذ الراية ـ وكانت بيضاء ـ وامض بها فجبريل معك ، والنصر أمامك ، والرعب مبثوث في صدور القوم. واعلم يا عليّ إنّهم يجدون في كتبهم أنّ الذي يدمّر عليهم اسمه إليا ، فإذا لقيتهم فقل : أنا عليّ فانّهم يخذلون إن شاء الله.
قال عليّ عليهالسلام : فمضيت بها حتّى أتيت الى الحصن ، فخرج مرحب عليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يقول :
قد علمت خيبر أنّي مرحب |
|
شاكي السلاح بطل مجرّب |
فقلت :
أنّا الذي سمّتني امّي حيدرة |
|
ليث لغابات شديد قسورة (٤) |
أكيلكم بالسيف كيل السندرة (٥) |
__________________
(١) الرضم : الحجارة المجتمعة.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٣ ص ٢١٦.
(٣) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٣ ص ٢١٦.
(٤) القسورة : الأسد ، والقسورة : الشجاع ( لسان العرب ٥ / ٩٢ ).
(٥) السندرة : مكيال كبير ضخم. ومعنى البيت : أقتلكم قتلا واسعا كبيرا ذريعا ( لسان العرب ٤ / ٣٨٢ ).
واختلفنا ضربتين ، فبدرته فضربته فقددت الحجر والمغفر ورأسه حتّى وقع السيف في أضراسه وخرّ صريعا ، فرجع من كان مع مرحب وأغلقوا باب الحصن.
فصار أمير المؤمنين عليهالسلام إليه فعالجه حتّى فتحه ، وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه ، فأخذ باب الحصن وجعله على الخندق جسرا لهم حتّى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم ، فاستأذن حسّان بن ثابت النبيّ عليهالسلام أن يقول شعرا ، فقال له : قل ، فأنشأ يقول :
وكان عليّ أرمد العين يبتغي |
|
دواء فلمّا لم يحسّ مداويا |
شفاه رسول الله منه بتفلة |
|
فبورك مرقيّا وبورك راقيا |
وقال سأعطي الراية اليوم صارما |
|
كميّا محبّا للرسول مواليا |
يحبّ إلهي والإله له يحبّه |
|
به يفتح الله الحصون الأوابيا |
فأصفى بها دون البريّة كلّها |
|
عليّا وسمّاه الوزير المؤاخيا (١) |
[ فتح مكّة ]
وتلت هذه الغزاة غزاة الفتح. قيل : كانت لليلتين مضتا من شهر رمضان. وقيل : لثلاث عشرة خلت منه.
وذلك أنّه خرج في نحو من عشرة آلاف رجل : وأربعمائة فارس ، وكان نزل : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ... ) الآية (٢).
ثمّ نزل : ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) (٣) الى آخر السورة ، ونزل : ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) (٤). فعادت الأعين إليها ممتدّة والرقاب إليها متطاولة.
ودبّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الأمر فيها بكتمان مسيره الى مكّة ، وستر عزيمته على مراده في أهلها ، وسأل الله تعالى أن يطوي خبره عن أهل مكّة حتى يبغتهم بدخولها ، فكان المؤتمن على هذا السرّ المودع له من بين الجماعة أمير المؤمنين
__________________
(١) الإرشاد : ص ٦٦ ـ ٦٧.
(٢) الفتح : ٢٧.
(٣) النصر : ١.
(٤) الفتح : ١.
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فكان الشريك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الرأي ، ثمّ نماه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الى جماعة من بعد ، واستتبّ الأمر فيه على المراد.
فسار عليهالسلام حتّى نزل من الظهران ، فقال العبّاس رضياللهعنه : هو والله هلاك قريش إن دخلها عنوة ، فركب بغلة النبيّ عليهالسلام البيضاء ليطلب الحطّابة أو صاحب لبن ليأمره أن يأتي قريش ليركبوا الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يستأمنون إليه ، إذ سمع أبا سفيان يقول لحكيم وبديل : ما هذه النيران؟ قالا : هذه خزاعة. فعرف العبّاس صوت أبي سفيان ، فناداه وعرّفه الحال ، وقال : فما الحيلة؟ قال : تركب على عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فكان يجتاز على نار بعد نار حتّى أتى به النبيّ عليهالسلام واستأذنه ، فقال عليهالسلام : أدخله. فدخل ، فقام بين يديه ، فقال له : ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله. فتلجلج لسانه وعليّ عليهالسلام يقصده بسيفه والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم محدق بعليّ عليهالسلام.
فقال له العبّاس : يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد الشهادتين. فأسلم اضطرارا.
فقال له النبي عليهالسلام : عند من تكون الليلة؟
قال : عند أبي الفضل. فسلّمه إليه.
فلمّا أصبح سمع بلالا يؤذّن. قال : ما هذا المنادي؟ ورأى النبيّ عليهالسلام وهو يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره يستشفون بالقطرات ، فقال : تالله ما رأيت كاليوم قطّ.
فلمّا صلّى النبيّ عليه وآله السلام قال : يا رسول الله احبّ أن تأذن لي آتي قومك فأنذرهم وأدعوهم الى الحقّ. فأذن له.
فقال العبّاس : إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فلو خصصته بمعروف. فقال النبيّ عليهالسلام : من دخل دار أبي سفيان كان آمنا ، ثمّ قال : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل البيت فهو آمن.
فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل إنّ ابن أخيك قد كنف ملكا عظيما.
فقال العبّاس : ويحك هذه نبوّة.
وأقبل العبّاس وأبو سفيان من أسفل الوادي يركض ، فاستقبلته قريش وقالوا له : ما وراءك؟ وما هذا الغبار؟ قال : محمّد في خلق كثير ، ثمّ صاح : يا آل غالب البيوت البيوت ، من دخل داري فهو آمن. فعرفت هند زوجته فأخذت تطردهم ، ثمّ قالت : اقتلوا الشيخ الخبيث من وافد قوم وطليعة قوم.
فقال لها : ويلك إنّي رأيت ذات القرون ، ورأيت فارس أبناء الكرام ، ورأيت ملوك بني كندة وفتيان حمير يسلمون آخر النهار ، ويلك اسكتي لقد والله جاء الحقّ وزهق الباطل وذهبت البليّة.
وقد كان عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ألاّ يقتلوا منها إلاّ من قاتلهم سوى عشرة : الحويرث بن نفيل بن كعب ومقيس بن صبابة وقرنية (١) المغنية قتلهم أمير المؤمنين عليهالسلام ، وعبد الله بن خنطل قتله عمّار وبريدة أو سعيد بن حبيب المخزوميّ ، وصفوان بن اميّة هرب الى جدّه فاستأمنه عبد الله بن وهب وأنفذ إليه عمامة النبيّ عليهالسلام وأسلم ، وعكرمة بن أبي جهل هرب الى اليمن وأسلم ، وعبد الله ابن أبي السرج ، عرف أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه في دار عثمان فأتى عثمان الى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شافعا ، وسارة مولاة بني عبد المطّلب وجدت مقتولة ، وهند دخلت دار أبي سفيان ، فتكلّم أبو سفيان في بيعة النساء وعاونته أمّ الفضل وقرأت ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ ) فاقبل منهنّ البيعة ، وقرنبا (٢) افلتت واستؤمن لها فرمحها فرس في إمارة عمر.
وكانت الراية يوم الفتح مع سعد بن عبادة ، فغلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم ودخل وهو يقول :
اليوم يوم الملحمة |
|
اليوم تسبى الحرمة |
_________________
(١) كذا ، وفي البحار ( ٢١ : ١٣١ ) : وقينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول الله ٦.
(٢) كذا ، وفي البحار : وقتل عليّ ٧ إحدى القينتين وأفلتت الاخرى.
فسمعها العبّاس فقال للنبيّ عليهالسلام : أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة ، وإنّي لا آمن أن يكون له في قريش صولة.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لأمير المؤمنين عليهالسلام : ادرك يا عليّ سعدا فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها مكّة. فأدركه أمير المؤمنين (١) ولم ير رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أحدا من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ الراية من سيّد الأنصار سوى أمير المؤمنين عليهالسلام ، وعلم أنّه لو رام ذلك غيره لامتنع سعد عليه ، وكان في امتناعه فساد التدبير واختلاف الكلمة بين المهاجرين والأنصار (٢).
قال أبو هريرة : رأى النبيّ عليهالسلام أوباش قريش فأمر الأنصار بحصدهم ، فقتلوا منهم جماعة وانهزم الباقون ، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكّة وأخطئوا الطريق فقتلوا (٣).
عن بشير النبّال مرفوعا ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : عند من المفتاح؟ قالوا : عند أمّ شيبة. فدعا شيبة فقال له : اذهب الى أمّك فقل لها ترسل بالمفتاح. فقالت : قل له : قتلت مقاتلينا وتريد أن تأخذ منّا مكرمتنا. فقال : لترسلن به أو لأقتلنّك. فوضعته في يد الغلام ، فأخذه ودعا عمرو وقال له : خذ هذا تأويل رؤياي من قبل ، ثمّ قام ففتح الباب وستره ، فمن يومئذ يستر ، ثمّ دعا الغلام فبسط رداءه وجعل فيه المفتاح ، وقال : ردّه الى امّك. وأخذ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعضادتي الباب ثمّ قال : لا إله إلاّ الله أنجز وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وغلب الأحزاب وحده (٤).
وكان في مكّة ثلاثمائة وستّون صنما بعضها مشدود ببعض بالرصاص ، فأنفذ أبو سفيان من ليلته منها الى الحبشة ومنها الى الهند ، فهيئ لها دارا من مغناطيس فتعلّقت في الهواء الى أيّام محمود بن سبكتكين ، فلمّا غزاهم أخذها وكسرها
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٦ ـ ٢٠٨.
(٢) الإرشاد : ص ٧١.
(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٨ ـ ٢٠٩.
(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٩.
ونقلها الى أصبهان (١).
وبلغ عليّا عليهالسلام أنّ اخته أمّ هانئ قد آوت اناسا من بني مخزوم منهم : الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد عليهالسلام نحو دارها مقنّعا بالحديد ، فنادى : اخرجوا من آويتم. فخرجت إليه أمّ هانئ وهي لا تعرفه فقالت : يا عبد الله أنا أمّ هانئ بنت عمّ رسول الله واخت علي بن أبي طالب انصرف عن داري.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : أخرجوهم.
فقالت : والله لأشكونّك الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فنزع المغفر عن رأسه فعرفته ، فجاءت تشدّ حتّى التزمته فقالت : فديتك حلفت لأشكونّك الى رسول الله. قال لها : اذهبي فأبرّي قسمك فإنّه بأعلى الوادي.
قالت أمّ هانئ : فجئت إليه وهو في قبّة يغتسل وفاطمة عليهاالسلام تستره ، فلمّا سمع كلامي قال : مرحبا بك يا أمّ هانئ وأهلا.
قلت : بأبي أنت وامّي أشكو إليك ما لقيت اليوم من عليّ.
فقال عليهالسلام : قد أجرت من أجرت.
فقالت فاطمة : إنّما جئت يا أمّ هانئ تشكين عليّا في أنّه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : قد شكر الله لعليّ سعيه وأجرت من أجارت أمّ هانئ لمكانها من عليّ.
ولمّا دخل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسجد وجد ثلاثمائة وستين صنما ، بعض مشدود ببعض بالرصاص ، فقال عليهالسلام لأمير المؤمنين عليهالسلام : أعطني يا عليّ كفّا من الحصى ، فقبض له كفّا فناوله ، فرماها به وهو يقول : جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ، فما بقي منها صنم إلاّ خرّ لوجهه ، ثمّ أمر بها فاخرجت من المسجد فطرحت وكسّرت (٢).
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.
(٢) الإرشاد : ص ٧٢.