الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

وفي رواية أبي جعفر بن بابويه : إنّ جبريل عليه‌السلام حمله على البراق فأتى به بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلاتها وردّه. قال : فمرّ بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلّوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه ، فلمّا أصبح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لقريش : إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي الى بيت المقدس وأراني آيات الأنبياء ومنازلهم ، وأنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا كذا وقد أضلّوا بعيرا لهم ، فشربت من مائهم وأهرقت باقيه.

فقال أبو جهل لعنه الله : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا : يا محمّد إنّ هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم أساطينه؟ وكم قناديله ومحاريبه؟ فجاء جبريل عليه‌السلام فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه ، فلمّا أخبرهم قالوا : حتى يجيء العير ونسألهم عمّا قلت.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.

فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون الى العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هو كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق ، فسألوهم عمّا قال ، فقالوا : قد كان ذلك. فلم يزدهم إلاّ عتوّا (١).

وقد أنكر قوم حديث المعراج ، وهو حقّ : أمّا من مكّة الى بيت المقدس فلقوله تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (٢).

وأمّا الى ما فوق السماوات فلقوله تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) (٣) وللحديث المشهور.

وأمّا استبعاد صعود شخص من البشر الى ما فوق السماوات فهو غير بعيد لوجوه :

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٣٦٣ المجلس التاسع والستون ح ١.

(٣) الانشقاق : ١٩.

(٢) الإسراء : ١.

١٠١

الأوّل : أنّه كما يبعد في العادة صعود الجسم الأرضي الى الهواء العالي فكذلك يبعد نزول الجسم الهوائي الى الأرض ، فلو صحّ استبعاد صعود محمّد عليه‌السلام لصحّ استبعاد نزول جبريل عليه‌السلام ، وذلك يوجب إنكار النبوّة.

والثاني : وهو أنّه لمّا لم يبعد انتقال إبليس في اللحظة الواحدة من المشرق الى المغرب وبالضدّ فكيف يستبعد ذلك من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

والثالث : وهو أنّه قد صحّ في الهيئة أنّ الفرس في حال ركضه الشديد في الوقت الذي يرفع يده الى أن يضعها يتحرّك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف (١) فرسخ ، فثبت أنّ الحركة السريعة الى هذا الحدّ ممكنة ، والله قادر على جميع الممكنات ، فكانت الشبهة زائلة ، والله أعلم. هذا قول ابن الخطيب.

وقلنا : أيّ وقت يكون صعود الشخص البشري الى ما فوق السماوات ممتنعا إذا كان من قبل نفسه أو إذا كان من قبل غيره ، أمّا إذا كان من قبل نفسه فمسلّم ، وأمّا إذا كان من قبل غيره فممنوع ، وقد قال الله عزّ وجلّ عن إدريس عليه‌السلام : ( وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) (٢) وقال لعيسى عليه‌السلام : ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ ) (٣) وما أراد إلاّ رفع الأجساد والأرواح ، ولو أراد الأرواح وحدها لما حصل لهما بهذا القول مدح ، لأنّ جميع الأرواح عند خروجها من الأجساد تصعد الى المكان العليّ ، وقوله عزّ وجلّ عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) (٤) ما أراد بهذا إلاّ فوق السماوات ، لأنّها صفة مدح وتخصيص ، ولو كان المعنى غير ذلك لكان قد شاركه في هذا القرب كلّ العالم.

وإن قيل : إنّ جبريل عليه‌السلام هو الذي كان ينزل الى محمّد عليه‌السلام قاب قوسين أو أدنى.

قلنا : قد أجمع المسلمون أنّ جبريل عليه‌السلام كان ينزل الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجالسه ويحادثه ، وفي كلّ ذلك كان إليه قاب قوسين أو أدنى.

__________________

(١) في الأصل : ألف.

(٢) مريم : ٥٧.

(٣) آل عمران : ٥٥.

(٤) النجم : ٨.

١٠٢

وقد روي صحّة المعراج عن ابن عبّاس وابن مسعود وجابر وحذيفة وأنس وعائشة وأمّ هاني ، ولا يجوز إنكار ذلك إذا قامت الدلالة عليه (١).

وروى السدي والواقدي أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بستة أشهر بمكّة في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت بعد العتمة من دار أمّ هاني (٢).

وقال الحسن وقتادة : كان من نفس المسجد (٣).

وقال ابن عبّاس : هي ليلة الاثنين من شهر ربيع الأوّل بعد النبوّة بسنتين. فالأوّل معراج العجائب ، والثاني معراج الكرامة (٤).

قال ابن عبّاس : إنّ جبريل عليه‌السلام أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : إنّ ربّي بعثني إليك وأمرني أن آتيه بك فقم فإنّ الله يكرمك كرامة لم يكرم بها أحدا قبلك ولا بعدك ، فأبشر وطب نفسا. فقام وصلّى ركعتين ، فإذا هو بميكائيل وإسرافيل ، ومع كلّ واحد منهما سبعون ألف ملك ، فسلّم عليهم فبشّروه ، فإذا معهم دابّة فوق الحمار ودون البغل خدّه كخدّ الإنسان ، وقوائمه كقوائم البعير ، وعرفه كعرف الفرس ، وذنبه كذنب البقر ، رجلاها أطول من يديها ، ولها جناحان من فخذيها ، خطوها مدّ البصر ، وإذا عليها لجام من ياقوتة حمراء ، فلمّا أراد أن يركب امتنعت. فقال جبريل : إنّه محمّد ، فتواضعت حتى لصقت بالأرض ، فأخذ جبريل عليه‌السلام بلجامها وميكائيل بركابها فركب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا هبطت ارتفعت يداها ، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها ، حتى أتى بيت المقدس (٥).

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في خبر : أنّه هبط مع جبريل عليه‌السلام ملك لم يطأ الأرض قطّ ، معه مفاتيح خزائن الأرض ، فقال : يا محمّد إنّ ربّك يقرؤك السلام

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٧.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٧.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٧.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٧.

(٥) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

١٠٣

ويقول لك : هذه مفاتيح خزائن الأرض فإن شئت فكن نبيّا عبدا ، وإن شئت فكن نبيّا ملكا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل أكون نبيّا عبدا. فإذا بسلّم من ذهب ، قوائمه من فضّة ، مركّب باللؤلؤ والياقوت ، يتلألأ نورا ، وأسفله على صخرة بيت المقدس ، ورأسه في السماء ، فقال : اصعد يا محمّد.

فلمّا صعد السماء رأى شيخا قاعدا تحت شجرة وحوله أطفال ، فقال جبريل :

هذا أبوك آدم إذا رأى من يدخل الجنّة من ذرّيته ضحك ، وإذا رأى من يدخل النار من ذرّيته حزن وبكى.

ورأى ملكا باسرا وجهه وبيده لوح مكتوب بخطّ من النور وخطّ من الظلمة ، فقال : هذا ملك الموت.

ثمّ رأى ملكا قاعدا على كرسيّ فلم ير منه من البشر ما رأى من الملائكة ، فقال جبريل عليه‌السلام : هذا ملك خازن النار كان طلقا بشرا ، فلمّا اطلع على النار لم يضحك بعد. فسأله أن يعرض عليه النار فرأى ما فيها. ثمّ دخل الجنّة ورأى ما فيها وسمع صوتا : آمنّا بربّ العالمين ، قال جبرئيل : هؤلاء سحرة فرعون ، وسمع لبّيك اللهمّ لبّيك ، قال : هؤلاء الحجاج ، وسمع التكبيرة قال : هؤلاء الغزاة ، وسمع التسبيح ، قال : هؤلاء الأنبياء.

ثمّ بلغ الى سدرة المنتهى فانتهى الى الحجب ، فقال جبريل : تقدّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت (١).

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملائكة الحجب يقرءون سورة النور ، وخزّان الكرسيّ يقرءون آية الكرسيّ ، وحملة العرش يقرءون حم المؤمن.

قال : فلمّا بلغت قاب قوسين أو أدنى نوديت بالقرب (٢).

وفي رواية : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نودي ألف مرّة بالدنوّ ، وفي كلّ مرّة قضيت لي حاجة ، ثمّ قال الله عزّ وجلّ لي : سل تعط. فقلت : يا ربّ اتّخذت إبراهيم خليلا ، وكلّمت

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٩.

١٠٤

موسى تكليما ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ، فما ذا أعطيتني؟

فقال الله عزّ وجلّ : اتّخذت إبراهيم خليلا واتّخذتك حبيبا ، وكلّمت موسى تكليما على بساط الطور وكلّمتك على بساط النور ، وأعطيت سليمان ملكا فانيا وأعطيتك ملكا باقيا في الجنّة (١).

وروي : أنا المحمود وأنت محمّد ، شققت اسمك من اسمي ، فمن وصلك وصلته ، ومن قطعك بتلته ، انزل الى عبادي فأخبرهم بكرامتي إيّاك ، وإنّي لم أبعث نبيّا إلاّ جعلت له وزيرا ، وإنّك رسولي وإنّ عليّا وزيرك (٢).

وقالوا : المعراج خمسة أحرف : فالميم : مقام الرسول عند الملك الأعلى.

والعين : عزّه عند شاهد كلّ نجوى. والراء : رفعته عند خالق الورى. والألف : انبساطه مع عالم السر وأخفى ، والجيم : جاهه في ملكوت العلى (٣).

وروي أنّ أبا طالب فقده في تلك الليلة فلم يزل يطلبه ، ووجّه الى بني هاشم وهو يقول : يا لها من عظيمة لم أر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فبينما هو كذلك إذ تلقّاه رسول الله عليه‌السلام وقت الفجر وقد نزل من السماء على باب أمّ هاني ، فقال له : انطلق معي فادخل المسجد ، فدخل بين يديه ودخل بنو هاشم ، فسلّ أبو طالب السيف عند الحجر ثمّ قال : أخرجوا ما معكم ، ثمّ التفت الى قريش فقال : والله لو لم أره ما بقي منكم عين تطرف. فقالت قريش : لقد ركبت منه عظيما. وأصبح عليه‌السلام يحدّثهم حديث المعراج (٤).

وممّا رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه‌الله تعالى في كتابه الموسوم بمولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ الله تعالى أوصى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائة وعشرين مرّة ، ما من مرّة إلاّ وقد أوصى الله تعالى فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام والأئمة أكثر ممّا

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٩.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٩.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٩.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٩ ـ ١٨٠.

١٠٥

أوصاه بالفرائض (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال لي ربّي عزّ وجلّ : عليّ إمام المستضعفين ، وربيع قلوب المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين (٢).

وقال : روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر تقبيل فاطمة ، فقال لها : إنّه لمّا عرج بي الى السماء مرّ بي جبرئيل عليه‌السلام على شجرة طوبى فناولني من ثمرها فأكلته ، فحوّل الله تعالى ذلك ماء في ظهري ، فلمّا أن هبطت الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ، فما قبّلتها إلاّ وجدت رائحة شجرة طوبى منها (٣).

وقال : روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا عرج بي الى السماء سمعت صوتا تتبعه ريح ، فسمعت السدرة وهي تقول : وا شوقاه الى علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قلت : يا جبريل ما هذا؟

قال : هذه سدرة المنتهى تشتاق الى ابن عمّك.

قال : وإذا أنا بجمع من الملائكة عليهم تيجان من ذهب وأكاليل من جوهر وهم يقولون : محمّد خير الأنبياء عليّ خير الأوصياء.

قلت : يا جبريل من هؤلاء؟

قال : هؤلاء الولاّوون الشفّاعون لمن توالا (٤) علي بن أبي طالب.

قال : وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أعطاني الله تبارك وتعالى خمسا وأعطى عليّا خمسا ، أعطاني جوامع الكلم وأعطى عليّا جوامع العلم ، وجعلني نبيّا وجعله وصيّا ، وأعطاني الكوثر وأعطاه السلسبيل ، وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام ، واسري بي وفتح له أبواب السماوات والحجب حتّى نظر الى ما نظرت إليه.

__________________

(١) كتاب مولد النبيّ للشيخ الصدوق : مفقود.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٣٣٧ باب ٣ ح ٣٩ مع اختلاف يسير.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٣٦٤ باب ٣ ح ٦٨.

(٤) كذا ، والظاهر : تولّى.

١٠٦

قال : ثمّ بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت له : ما يبكيك فداك أبي وأمي؟ فقال : يا ابن عبّاس إنّ أوّل ما كلّمني به ربّي أن قال : يا محمّد انظر تحتك ، فنظرت الى الحجب قد انخرقت وإلى أبواب السماء قد فتحت حتّى نظرت الى عليّ وهو رافع رأسه الى السماء فكلّمني وكلّمته.

فقلت : يا رسول الله حدّثني بما كلّمك به.

قال : قال لي ربّي : يا محمّد إنّي جعلت عليّا وصيّك ووزيرك وخليفتك من بعدك ، فأعلمته وأنا بين يدي ربّي.

فقال لي : قد قبلت ، فأمر الله عزّ وجلّ الملائكة أن تسلّم عليه ، ففعلت ، فردّ عليهم‌السلام. ورأيت الملائكة يتباشرون ، ثمّ ما مررت بصفّ من الملائكة إلاّ وهم يهنّوني ويقولون : يا محمّد والذي بعثك بالحقّ نبيّا لقد دخل السرور على جميع الملائكة ، ورأيت حملة العرش قد نكسوا رءوسهم.

فقلت : يا جبريل لم نكسوا رءوسهم؟

قال : يا محمّد ما من ملك من الملائكة إلاّ وقد نظر الى عليّ ما خلا حملة العرش فانّهم استأذنوا الله في هذه الساعة أن ينظروا الى عليّ عليه‌السلام ، فأذن لهم ، فلمّا هبطت الى الأرض جعلت اعلمه ذلك وهو يخبرني ، فعلمت أنّي لم أطأ موطئا إلاّ وقد كشف لعلي عنه حتى نظر إليه كما رأيت من أمره (١).

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : قلت : يا رسول الله أوصني قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن عبّاس والذي بعثني بالحقّ لا يقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حبّ علي عليه‌السلام ، وهو أعلم بذلك ، فإن كان من أهل ولايته قبل عمله على ما كان فيه ، وإن لم يكن من أهل ولايته لم يسأله عن شيء حتى يأمر به الى النّار ، وأنّ النّار لأشدّ غضبا على مبغضي عليّ منها على من زعم أنّ لله ولدا.

يا ابن عبّاس لو أنّ الملائكة والأنبياء والمرسلين أجمعوا على بغضه لعذّبهم الله بالنار ، وما كانوا ليفعلوا.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٣٧٠ باب ٣ ح ٧٧.

١٠٧

قلت : يا رسول الله وكيف يبغضونه؟

قال : يا بن عبّاس يكون فيهم قوم يذكرون أنّهم من امّتى لم يجعل الله لهم نصيبا في الإسلام ، يفضّلون عليه غيره ، والذي بعثني بالحقّ ما بعث الله نبيّا أكرم عليه منّي ، ولا وصيّا أكرم عليه من علي.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : فلم أزل كما أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه لأكبر عملي.

فلمّا حضرت رسول الله عليه‌السلام الوفاة قلت له : فداك أبي وامّي يا رسول الله ما تأمرني به؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن عبّاس خالف من خالف عليّا ولا تكوننّ لهم ظهيرا ولا وليّا.

فقلت : يا رسول الله فلم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟

قال : فبكى حتى اغمي عليه ، ثمّ أفاق فقال : يا ابن عبّاس سبق فيهم علم ربّي ، ولا يخرج الله أحدا من الدنيا ممّن خالفه وأنكر حقّه حتى يغيّر الله خلقته ، يا ابن عبّاس إذا أردت أن تلقى الله عزّ وجلّ وهو عنك راض فاسلك طريقه ، ومل معه حيث مال ، وارض به إماما ، وعاد من عاداه ، ووال من والاه ، ولا يدخلنّك فيه شكّ ، فإنّ اليسير من الشكّ فيه كفر.

وقال : روي عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه موسى عليه‌السلام ، عن أبيه جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، عن أبيه محمّد بن علي عليه‌السلام ، عن أبيه علي بن الحسين عليه‌السلام ، عن أبيه الحسين بن علي عليه‌السلام ، عن أبيه علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما خلق الله عزّ وجلّ خلقا أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي.

قال علي عليه‌السلام قلت : يا رسول الله أنت أفضل من جبريل؟ قال عليه‌السلام : يا علي إنّ الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين ، وفضّلني على جميع النبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمّة من بعدك ، وأنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا. يا علي الذين يحملون العرش وما حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا. يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم

١٠٨

ولا حوّاء ، ولا الجنّة ولا النّار ، ولا السماء ولا الأرض ، وكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم الى معرفة ربّنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه ، لأنّ أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتمجيده ، ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظمت أمرنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلق مخلوقون وأنّه منزّه عن صفاتنا ، فسبّحت الملائكة تسبيحنا ونزّهته عن صفاتنا ، فلمّا رأوا عظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلاّ الله وإنّا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا ، لا إله إلاّ الله ، فلمّا شاهدوا كنه محلّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أنّ الله أكبر [ من ] أن يناله عظم المحلّ إلاّ به ، فلمّا شاهدوا ما جعل الله لنا من العزّ والقوّة قلنا : « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله » لتعلم الملائكة أن لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، فلمّا شاهدوا ما أنعم الله به علينا واوجبه لنا من فرض طاعتنا قلنا « الحمد لله » لتعلم الملائكة ما يحقّ لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه ، فقالت الملائكة : الحمد لله ، فبنا اهتدوا الى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتمجيده وتحميده.

ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراما لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون.

ولمّا عرج بي الى السماء أذّن جبريل عليه‌السلام مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى ثمّ قال لي : تقدّم يا محمّد.

فقلت له : جبريل أتقدّم عليك؟

فقال : نعم ، لأنّ الله تعالى فضّل أنبياءه على ملائكته أجمعين ، وفضّلك خاصّة فتقدّمت فصلّيت بهم ولا فخر. فلمّا انتهيت الى حجب النور قال لي جبريل : تقدّم يا محمّد وتخلّف عنّي.

فقلت : يا جبريل في مثل هذا الموضع تفارقني؟

فقال : يا محمّد إن انتهاء حدّي الذي وضعني الله عزّ وجلّ فيه الى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي لتعدّي حدود ربّي جلّ جلاله.

١٠٩

فزجّ بي في النور زجّة حتّى انتهيت الى حيث ما شاء الله من علوّ ملكوته ، فنوديت : يا محمّد. قلت : لبّيك ربّي تباركت وتعاليت. فنوديت : يا محمّد أنت عبدي وأنا ربّك فإيّاي فاعبد وعليّ فتوكّل ، فإنّك نوري في عبادي ، ورسولي الى خلقي ، وحجّتي على بريّتي ، لمن اتّبعك خلقت جنّتي ، ولمن خالفك خلقت ناري ، ولأوصيائك أوجبت كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.

فقلت : يا ربّ ومن أوصيائي؟

فنوديت : يا محمّد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت وأنا بين يدي ربّي جلّ جلاله الى ساق العرش فرأيت اثني عشر نورا ، في كلّ نور سطر أخضر عليه اسم وصيّ من أوصيائي ، أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهديّ أمّتي.

فقلت : يا ربّ أهؤلاء أوصيائي بعدي؟

فنوديت : يا محمّد هؤلاء أوليائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريّتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك ، وعزّتي وجلالي لاظهرنّ بهم ديني ، ولاعلينّ بهم كلمتي ، ولاطهّرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولاملّكنّه مشارق الأرض ومغاربها ، ولاسخّرنّ له الرياح ، ولاذلّلنّ له السحاب الصعاب ، ولأرقينّه في الأسباب ولأنصرنّه بجندي ، ولأمدنّه بملائكتي حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي ، ثمّ لاديمنّ ملكه ، ولاداولنّ الأيّام بين أوليائي الى يوم القيامة (١).

فصل

في ذكر أحواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

من بعد الإسراء الحين الهجرة

ولمّا رأت قريش أنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فشا في القبائل وأنّ عمّه أبا طالب قائم

__________________

(١) علل الشرائع : ج ١ ص ٥ باب ٧ ح ١ ، عيون أخبار الرضا ( ع ) : ج ١ ص ٢٦٢ باب ٢٦ ح ٢٢.

١١٠

في نصرته أجمعوا أمرهم على أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يشاوروهم ولا يناكحوهم ، وكتبوا صحيفة بذلك ، ودخل بنو هاشم شعب أبي طالب ، وكانوا أربعين رجلا مؤمنهم وكافرهم ، وكان حصار الشعب وكتبة الصحيفة أربع سنين ، وقيل ثلاث سنين ، وقيل سنتين.

وتوفّي أبو طالب بعد نبوّته بتسع سنين وثمانية أشهر ، وذلك بعد خروجه من الشعب بشهرين (١).

وزعم الواقدي أنّهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وفي هذه السنة توفي أبو طالب وتوفيت خديجة بعده بستّة أشهر ، وله ستّ وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوما (٢).

ويقال : وهو ابن سبع وأربعون سنة وستة أشهر وأيّام (٣).

أبو عبد الله بن مندة في كتاب المعرفة : إنّ وفاة خديجة بعد موت أبي طالب بثلاثة أيّام ، وسمّي ذلك العام عام الحزن (٤).

ولبث عليه الصلاة والسلام بعدهما بمكّة ثلاثة أشهر ، وأمر أصحابه بالهجرة الى الحبشة ، فخرج جماعة منهم بأهاليهم ، وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الطائف فأقام فيه شهرا ، وكان معه زيد بن الحارث ، ثمّ انصرف الى مكّة ومكث فيها سنة وستّة أشهر في جوار مطعم بن عدي ، وكان يدعو القبائل في المواسم ، وكانت بيعة العقبة الاولى بمنى فبايعه ستّة نفر من الخزرج وواحد من الأوس في خفية من قومهم ألاّ يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا .. الى آخرها. وهم جابر بن عبد الله ، وقطية (٥) بن عامر بن حزام ، وعوف بن الحارث ، وحارثة بن ثعلبة ، ومرثد بن الأسد ،

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٣.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٤.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٤.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٤ وفيه : ( أبو عبد الله ) مندة.

(٥) في نسخة المناقب : فطنة.

١١١

وأبو امامة ثعلبة بن عمرو ، ويقال هو أسعد بن زرارة. فلمّا انصرفوا الى المدينة وذكروا القصّة وقرءوا القرآن صدّقوه.

وفي السنة القابلة وهي العقبة الثانية أنفذوا معهم ستّة اخرى بالسلام والبيعة ، وهم أبو الهيثم بن التيهان ، وعبادة بن الصامت ، وذكوان بن عبد الله ، ونافع بن ملك بن العجلان ، وعبّاس بن عبادة بن نصلة ، ويزيد بن ثعلبة حليف لهم ، ويقال مسعود بن الحارث ، وعويمر بن ساعدة حليف لهم. ثمّ أنفذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم ابن عمّه مصعب بن عمير بن هاشم ، فنزل دار أسعد بن زرارة فاجتمعوا عليه وأسلم أكثرهم إلاّ دار اميّة بن يزيد وحطمة وحطيمة ووائل وواقف فانّهم أسلموا بعد بدر واحد والخندق.

وفي السنة القابلة كانت بيعة الحرب (١) ، كانوا من الأوس والخزرج سبعين رجلا وامرأتين ، واختار عليه‌السلام منهم اثني عشر نقيبا ليكونوا كفلاء على قومهم وعلى أن يمنعوني ما يمنعون عنه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه على ذلك تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فمن الخزرج : أسعد ، وجابر ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن حزام ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن قمر ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع. ومن القوافل : عبادة بن الصامت. ومن الأوس : أبو الهيثم ، واسيد بن حضير ، وسعيد ابن خيثمة (٢).

وقيل : أقبل رجل من اراش بإبل له مكّة فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله بثمنها ، وأقبل الاراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في ناحية المسجد ، فقال : يا معشر قريش من يعديني على أبي الحكم بن هشام فإنّي غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقّي.

__________________

(١) في المناقب : الحارث ؛ وفي هامش المناقب : وفي بعض النسخ الحرس بالسين المهملة بدل حارث.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٤ ـ ١٧٥.

١١٢

فقال له أهل المجلس : ترى ذلك الرجل ـ وهم يومون الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة ـ اذهب إليه يعديك عليه.

فأقبل الاراشي حتى وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا عبد الله إنّ أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا غريب ابن سبيل ، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يعديني عليه ويأخذ لي حقّي منه فأشاروا إليك ، فخذ لي حقّي منه رحمك الله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب بي إليه ، وقام معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلمّا رأوه قام معه قالوا لرجل ممّن معهم : انطلق فانظر ما ذا ترى يصنع.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى جاء فضرب عليه بابه ، فقال : من هذا؟ فقال : محمّد اخرج إليّ. فخرج إليه وما في وجهه رائحة وقد انتقع لونه ، فقال له : أعط هذا الرجل حقّه.

قال : نعم ، لا يبرح حتى اعطيه الذي له ، فدخل وخرج إليه بحقّه فدفعه إليه.

ثمّ انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال للاراشيّ : الحق بشأنك. فأقبل الاراشي حتى وقف على نادي اولئك القوم فقال : جزاه الله خيرا فقد أخذ لي حقّي.

وجاء الرجل الذي بعثوه معه فقالوا : ويحك ما ذا رأيت؟ قال : عجبا من العجب ، والله إلاّ أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه ، فقال له : أعط هذا الرجل حقّه. فقال : نعم لا يبرح حتى أخرج إليه حقّه. فدخل فأخرج إليه حقّه فأعطاه إيّاه. ثمّ لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له : ويلك تبّا لك والله ما رأينا مثل ما صنعت. فقال : ويحكم والله إلاّ أن ضرب الباب وسمعت صوته فملئت رعبا ثمّ خرجت إليه وإذا فوق رأسي فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قطّ ، والله لو أبيت لأكلني (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٣١٥.

١١٣

فصل

في هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

روي أنّه لمّا مات عمّه أبو طالب رضي‌الله‌عنه طالت قريش على المسلمين وكثر عتوّهم ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك بالهجرة ، فقال لأصحابه : إنّ الله قد جعل لكم دارا وإخوانا تأمنون بها. فخرجوا إرسالا حتى لم يبق مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ عليّ عليه‌السلام وأبو بكر. فحذرت قريش خروجه وعلموا أنّه قد أجمع لحربهم ، فاجتمعوا في دار الندوة ـ وهي دار قصي بن كلاب ـ يتشاورون في أمره عليه‌السلام ، فتمثّل إبليس لعنه الله في صورة شيخ من أهل نجد فقال : أنا ذو رأي حضرت لمؤازرتكم.

فقال عروة بن هشام : نتربّص به ريب المنون.

فقال أبو البختري (١) : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه.

وقال العاص بن وائل واميّة وابي ابنا خلف : نبني له علما (٢) نستودعه فيه ولا يخلص من الصباة [ فيه ] إليه أحد.

فقال عتبة وشيبة وأبو سفيان : نرحل بعيرا صعبا ونوثق محمّدا عليه كتافا وشدّا ثم يصقع (٣) البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطّعه بين الدكادك (٤) إربا إربا.

فقال أبو جهل : أرى لكم أن تعمدوا الى قبائلكم العشرة فينتدب من كلّ قبيلة منها رجل نجد يأتونه بياتا فيذهب دمه في قبائل قريش جميعها فلا يستطيع بنو هاشم وبنو عبد المطّلب مناهضة قريش فيه ، فيرضون بالعقل.

__________________

(١) وفي المناقب : ابن البختري.

(٢) العلم : الجبل الطويل ؛ وقال اللحياني : العلم الجبل فلم يخصّ الطويل. لسان العرب : ج ١٢ ص ٤٢٠ مادة « علم ».

(٣) الصقع : أصل الصقع : الضرب على الرأس ، وقيل : الضرب ببطن الكفّ. النهاية لابن الأثير : ج ٣ ص ٤٢ وفي نسخة المناقب : « نقصع » أي نجرحه بأطراف الرماح حتى يغضب.

(٤) الدكداك : ما تلبّد من الرمل بالأرض ولم يرتفع كثيرا ، أي أنّ أرضهم ليست ذات حزونة ، ويجمع على دكادك. النهاية لابن الأثير : ج ٢ ص ١٢٨.

١١٤

فقال أبو مرّة لعنه الله : يا أبا الحكم هذا هو الرأي فلا يعدلنّ به رأيا ، فنزل ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ... ) الآية (١).

فجاء جبريل عليه‌السلام الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام وقال له : إنّ الله تعالى أوحى إليّ أن اهجر دار قومي وأن أنطلق الى غار ثور طخا (٢) ليلتي ، وأنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على فراشي وأن تلقى عليك شبهي.

فقال علي عليه‌السلام : أو تسلم بمنيتي (٣) هناك؟ قال : نعم. فتبسم عليّ ضاحكا ، وأهوى الى الأرض ساجدا ، فكان أوّل من سجد لله شكرا ، وأوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته ، فلمّا رفع رأسه قال له : امض لما امرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي.

قال له عليه‌السلام : فارقد على فراشي واشتمل بردي الحضرميّ ، ثمّ إنّي اخبرك يا علي أنّ الله يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه ، فأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل ، فقد امتحنك يا ابن أمّ وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل ، فصبرا صبرا فإنّ رحمة الله قريب من المحسنين ، ثمّ ضمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى صدره.

واستتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر وهند بن أبي هالة وعبد الله بن فهيرة ، ودليلهم ابن لقيط الليثي ، فأمرهم بمكان ذكره لهم ، ولبث هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علي يوصيه ، ثمّ خرج في حمة العشاء والرصد من قريش قد أطافوا به ينتظرون انتصاف الليل وكان يقرأ ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) (٤) وكانت بيده قبضة تراب فرمى بها على رءوسهم ومضى حتى انتهى إليهم ، فنهضوا معه حتى وصلوا الى الغار ،

__________________

(١) الأنفال : ٣٠.

(٢) الطخاء : ثقل وغشى ، وأصل الطخاء والطخية : الظلمة والغيم. النهاية لابن الأثير : ج ٣ ص ١١٦ وفي نسخة المناقب : « أطحل ليلتي » والطلحة بالضم لون بين الغبرة والسواد كلون الرماد.

(٣) في المناقب : بمبيتي.

(٤) يس : ٨.

١١٥

وانصرف هند وعبد الله وتخلّف معه أبو بكر ، والكفّار يرصدون عليّا وهو نائم على الفراش وهم يظنّون أنّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم : إنّ محمّدا خرج ومضى وقد ألقى على رءوسكم التراب. فضرب كلّ واحد منهم يده الى رأسه فوجد التراب عليه فهجموا على النائم فوجدوه عليّا عليه‌السلام ، فركبوا (١) في طلبه الصعب والذلول فلم يجدوه.

فلمّا كانت العتمة من الليلة المقبلة انطلق عليّ عليه‌السلام وهند حتّى دخلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام بأداء أمانته ، حتى أدّى الجميع ، فكان مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ثلاثا (٢) ، وقيل ستّة. وكان علي يأتيه بالزاد في كلّ ليلة. وكانت هجرته يوم الاثنين ، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.

وقال محمّد بن إسحاق : لمّا خرج النبيّ عليه‌السلام مهاجرا تبعه سراقة بن جعشم مع خيل له ، فلمّا رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليه ، فكانت قوائم فرسه ساخت حتى تغيّبت فتضرّع الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دعا له وصار الى وجه الأرض ، فقصد كذلك ثلاثا والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : [ يا ] أرض خذيه ، فإذا تضرّع يقول : دعيه ، فحلف بعد الرابعة أن لا يعود الى ما يسوء (٣).

وفي رواية : واتبعه دخان حتى استغاثه ، فدعا له ، فانطلقت الفرس ، فعذله أبو جهل ، فقال سراقة :

أبا حكم واللات لو كنت شاهدا

لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه

عجبت ولم نشكّك بأنّ محمّدا

نبيّ وبرهان فمن ذا يكاتمه

عليك فكف الناس عنه فإنّني

أرى أمره يوما ستبدو معالمه (٤)

وذكر الطبري في أحاديث الهجرة : انّ أبا بكر أحضر راحلتين ليركباهما من الغار الى المدينة ، فلمّا قرّب أبو بكر الراحلتين الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرّب له

__________________

(١) وفي الأصل « فركب ».

(٢) الى هنا في المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٧١.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٧١.

١١٦

أفضلهما ، ثمّ قال له : اركب فداك أبي وامّي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لا أركب بعيرا ليس لي.

قال : فهو لك يا رسول الله بأبي وامّي.

قال : لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟

قال : كذا وكذا.

قال : قد اخذتها بذلك.

قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا (١).

وهذا الخبر ممّا يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينفق عليه أبو بكر شيئا ، إذ لو كان قد تقبّل منه النفقة عليه لما رأى أنّه لا يركب له راحلة على سبيل العارية أو الهبة ، ولكان ردّها عليه قبيحا مستهجنا من الناقص فكيف من الكامل المسدّد من قبل الله سبحانه وتعالى.

ودخل المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل. وقيل : الحادي عشر ، وهي السنة الاولى من الهجرة ، فردّ التاريخ الى المحرّم ، فكان نزل عليه‌السلام بقبا في دار كلثوم بن الهدم ، ثمّ بدار خيثمة الأوسي ثلاثة أيّام ويقال : اثني عشر يوما ، الى بلوغ علي عليه‌السلام وأهل البيت ، وكان أهل المدينة يستقبلون كلّ يوم الى قبا وينصرفون ، فأسّس بقبا مسجدهم.

وخرج يوم الجمعة وقدم الى المدينة ، فتعلّق الناس بزمام الناقة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا قوم دعوا الناقة فهي مأمورة ، فعلى باب من بركت فأنا عنده. فأطلقوا زمامها وهي تهفّ في السير حتّى دخلت المدينة ، فبركت على باب دار أبي أيّوب الأنصاري ، ولم يكن في المدينة أفقر منه ، فانقطعت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فنادى أبو أيّوب : يا امّاه افتحي الباب فقد قدم سيّد البشر وأكرم ربيعة ومضر محمّد المصطفى والرسول المجتبى. فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء ، فقالت : وا حسرتاه ليت كان لي عين انظر بها الى وجه سيّدي رسول الله.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ١٠٤.

١١٧

فكان أوّل معجزة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة أنّه وضع كفّه على وجه أمّ أبي أيّوب فانفتحت عيناها (١).

وروى سلمان رضي‌الله‌عنه أنّه لمّا نزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دار أبي أيّوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير ، فذبح الجدي وشواه وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدّم بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمر أن ينادي : ألا من أراد الزاد فليأت الى دار أبي أيّوب ، فجعل أبو أيّوب ينادي والناس يهرعون كالسيل حتى امتلأت الدار ، فأكل الناس بأجمعهم والطعام لم يتغيّر. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجمعوا العظام ، فجمعوها فوضعها في إهابها ثمّ قال : قومي بإذن الله تعالى. فقام الجدي ، فضجّ الناس بالشهادتين ، وصلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد الذي ببطن الوادي (٢).

قال النسويّ في تأريخه : إنّ أوّل صلاة صلّى في المدينة صلاة العصر ، ثمّ نزل على أبي أيّوب ، فلمّا أتى لهجرته شهر وأيّام تمّت صلاة المقيم ، وبعد ثمانية أشهر آخى بين المؤمنين ، وفيها شرع الأذان ، فلمّا أتى لهجرته سنة وشهران واثنان وعشرون يوما زوّج عليّا من فاطمة عليهما‌السلام ، وروي أنّها كانت بعد سنة من مقدمه إليها ، وفرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة في شعبان ، وحوّلت القبلة وفرضت زكاة الفطر وفرض فيها صلاة العيد ، وكان فرض الجمعة في أوّل الهجرة بدلا من صلاة الظهر ، ثمّ فرضت زكاة الأموال ، ثمّ الحجّ والعمرة والتحليل والتحريم والحظر والإباحة والاستحباب والكراهة ، ثمّ فرض الجهاد (٣).

وسئل الصادق عليه‌السلام متى حوّلت القبلة؟ قال عليه‌السلام : بعد رجوعه من بدر (٤).

قال أنس : وهم ركوع في الصلاة فاستدار (٥).

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٣٣.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٣١.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٥.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٥) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

١١٨

والبخاري والواحدي : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى عند قدومه المدينة ستّة عشر شهرا نحو بيت المقدس (١).

معاوية بن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام : اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث عمر متفرّقات ، ثمّ ذكر الحديبيّة والقضاء والجعرانة ، وأقام بالمدينة عشر سنين ثمّ حجّ حجّة الوداع ، ونصب علي عليه‌السلام إماما بغدير خمّ ، ونزل ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فلمّا دخل المدينة بعث اسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وجعل في جيشه وتحت رايته أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ، وعسكر اسامة بالجرف فاشتكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شكواه التي توفّي فيها ، فكان يقول في مرضه : نفّذوا جيش اسامة ، ويكرّر ذلك (٢).

قال الحسن : نزل القرآن في ثمان عشرة سنة ، بمكّة ثمان سنين وبالمدينة عشر سنين (٣).

وقال الشعبي : نزل في عشرين سنة (٤).

وقال أبو جعفر بن بابويه : نزل القرآن جملة واحدة الى البيت المعمور ، ثمّ نزل منه في مدّة عشرين سنة.

وقيل (٥) : نزل في شهر رمضان لقوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (٦).

وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المربد الذي بنى فيه مسجده ، والمربد مجلس الإبل ، فأخبر أنّه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء ، فأرضاهما معاذ ، وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببناء المسجد ، وعمل فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، وأخذ المسلمون يرتجزون ويقولون ، فقال بعضهم :

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٦.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٦.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٥.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٥.

(٥) انظر مجمع البيان : ج ١ ـ ٢ ص ٢٧٦.

(٦) البقرة : ١٨٥.

١١٩

لإن قعدنا والنبيّ يعمل

لذاك منّا العمل المضلّل

والنبيّ عليه‌السلام يقول :

لا عيش إلاّ عيش الآخرة

اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة

وعلي عليه‌السلام يقول :

لا يستوي من يعمر المساجد

يدأب فيها قائما وقاعدا

و من يرى عن الغبار حائدا

ثمّ انتقل من بيت أبي أيّوب الى مساكنه التي بنيت له (١).

وقيل : كانت مدّة مقامه بالمدينة الى أن بنى المسجد وبيوته من شهر ربيع الأوّل الى صفر من السنة القابلة.

فصل

في معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : قدم ملوك حضرموت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : كيف نعلم أنّك رسول الله؟ فأخذ كفّا من حصى فقال : هذا يشهد أنّي رسول الله ، فسبّح الحصى في يده وشهد أنّه رسول الله (٢).

جابر بن عبد الله الأنصاري وابن عبّاس وأبو هريرة وزين العابدين عليه‌السلام : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب بالمدينة الى بعض الأجذاع ، فلمّا كثر الناس اتّخذوا له منبرا وتحوّل إليه ، حنّ الجذع كما تحنّ الناقة ، فلمّا جاء إليه والتزمه وكان يئنّ أنين الصبي الذي يسكت (٣).

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٩٠.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٩٠.

١٢٠