الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

ولا أقتل الحسين. فقال له مروان كالمستهزئ به : أصبت. ودعا الوليد الحسين عليه‌السلام وابن الزبير ، فقال ابن الزبير للحسين عليه‌السلام : فيم تراه بعث إلينا في هذه الساعة؟ فقال له : إنّي أظنّ أنّ طاغيتهم قد هلك فيريد معاجلتنا بالبيعة ليزيد الخمّير قبل أن يدعو الناس ، فقد رأيت البارحة فيما يرى النائم أنّ منبر معاوية منكوسا وداره تشتعل بالنيران.

ثمّ عاودهما رسول الوليد ، فدخل الحسين عليه‌السلام منزله واغتسل وتطهّر وصلّى أربعا وعشرين ركعة ودعا واستخار الله تعالى ، ثمّ أقبل نحو الوليد حتى انتهى الى الباب ، فأذن له ، فدخل وسلّم ، فردّ الوليد عليه وقال له : هذا كتاب أمير المؤمنين يزيد بن معاوية. فنظر فيه الحسين عليه‌السلام وقال : إلى غد وننظر. فقال له : انصرف حتى تأتينا مع الناس. فقال له مروان : والله لئن فارقك ولم يبايع الآن لم تقدر عليه أبدا ، احبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه. فقال له الحسين عليه‌السلام : يا بن الزرقاء هذا يقتلني وأنت معه. فقال الوليد : ويحك يا مروان ما احبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بقتل الحسين (١).

وصرفهما مروان ، ثمّ ندم على صرفهما وأرسل إليهما. فأمّا ابن الزبير فبعث بأخيه جعفر حتى ليّن الوليد على إتيانه من الغد ، فلمّا جنّه الليل هرب مع أخويه مصعب والمنذر.

وأتى الحسين عليه‌السلام أهل بيته فقالوا له : نحن معك حيث أخذت. فخرج من عندهم فاستقبله مروان. فقال له : يا أبا عبد الله أطعني وبايع أمير المؤمنين يزيد. فاسترجع الحسين عليه‌السلام وقال له : ويلك يا مروان أمثلك يأمرني بطاعته وأنت اللعين بن اللعين على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرادّه مروان ، فخرج مغضبا (٢).

ثمّ دخل على ابن الحنفيّة فودّعه وبكيا حتى اخضلّت لحاهما ، وتهيّأ ابن الحنفيّة للخروج معه ، فأمره بالتخلف ينتظر ما يرد عليه من أمره.

__________________

(١) راجع الإرشاد : ص ٢٠٠ ، واللهوف في قتلى الطفوف : ص ٩.

(٢) راجع الإرشاد : ص ٢٠١ ، والمناقب لابن شهرآشوب : ج ٤ ص ٨٨.

٥٤١

فلمّا كان في بعض الليل أتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يودّعه ، وصلّى ما شاء الله أن يصلّي ، وغلبته عيناه فرأى كأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ملائكة محتوشين به ، فاحتضنه وقبّل بين عينيه وقال له : يا بنيّ العجل العجل الى جدّك وأبيك وامّك وأخيك. فانتبه عليه‌السلام فأخبر به أهل بيته ، فما رأى أكثر باكيا وباكية من ليلته. ثمّ ودّعهم وخرج فيمن خرج معه من ولده واخوته وبني اخوته وبني عمّه نحو مكّة فقدمها وأقام بها خمسة أشهر أو أربعة ، فورد عليه نحو ثمانمائة كتاب من أهل العراقين ببيعة أربعة وعشرين ألفا.

فبعث مسلم بن عقيل رحمة الله عليه ، وكان شجاعا قويّا ، وكان يأخذ الرجل فيرمي به فوق البيت. فخرج مسلم حتى أتى المدينة فاكترى أعرابيين دليلين ، فأخذا به البريّة ، فمات أحدهما عطشا ، وكتب الى الحسين عليه‌السلام يستأذنه في الرجوع ، فأجابه أن امض لما أمرتك. فخرج حتى قدم الكوفة ، ونزل دار المختار بن أبي عبيد الثقفي ، وبايعه من أهلها ثمانية عشر ألفا سوى اهل البصرة فكتب مسلم رضي‌الله‌عنه الى الحسين عليه‌السلام يستقدمه.

فدخل عبد الله (١) بن مسلم بن أبي ربيعة الحضرمي حليف بني اميّة على النعمان بن بشير وكان والي الكوفة فأخبره خبره وقال له : لا يصلح [ ما ترى إلاّ الغشم ، و ] هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين. فقال له النعمان : لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله.

ثمّ خرج عبد الله بن مسلم وكتب الى يزيد بن معاوية يخبره ؛ ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة بمثل كتابه ، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص بمثل ذلك.

فلمّا وصلت الكتب الى يزيد دعا سرجون مولى معاوية فقال له : ما رأيك؟ إنّ حسينا قد وجّه الى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيّئ فمن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتبا على عبيد الله

__________________

(١) في الأصل : عبيد الله.

٥٤٢

ابن زياد. فقال له سرجون : أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه؟ قال : نعم. قال : فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : هذا رأي معاوية ، فضمّ المصرين الى عبيد الله بن زياد. فقال يزيد : أفعل. وكتب إليه بولايته على الكوفة مع البصرة (١) ، وأمره أن يدسّ الى مسلم حتى يأخذه.

وخرج عبيد الله بن زياد حتى أتى الكوفة فدخلها متلثّما ، فجعل يمرّ بمجالسهم ويسلّم عليهم فيردّون عليه : وعليك السلام يا ابن رسول الله ، وهم يظنّون أنّه الحسين عليه‌السلام. فنزل القصر ودفع الى مولى له يقال له معقل أربعة آلاف درهم وقال له : تعرّف موضع مسلم بن عقيل ، فإذا لقيته فادفع إليه المال وقل له : تستعين به على أمرك. فخرج وفعل ذلك ثمّ رجع الى ابن زياد فأخبره بتحوّل مسلم الى منزل هاني بن عروة.

ودخل على ابن زياد وجوه أهل الكوفة ومعهم عمرو بن حريث ومحمّد بن الأشعث وشريح بن هانئ ، فقال لهم : أين هانئ بن عروة؟

فخرج حريث حتى أتى هانئا وقال له : إنّ الأمير ذكرك. فقال : مالي وللأمير. ولم يزل به حتى ركب إليه. فلما رآه عبيد الله قال له : أين مسلم بن عقيل؟ قال : والله ما أنا دعوته ، ولو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه. فرماه بعمود كان معه فشجّه.

وبلغ الى مسلم خبره فخرج بمن عنده من الرجال فرأوا قومهم وأشرافهم عند ابن زياد فانصرفوا عنه حتى ما أمسى معه إلاّ أربعمائة ، فجاء أصحاب ابن زياد فقاتلهم مسلم قتالا شديدا حتى اختلط الظلام ، فتركوه وحده ، فخرج متوجّها نحو أبواب كندة ، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق ، فمضى على وجهه لا يدري أين يذهب حتى خرج الى دور بني جبلة من كندة ، فمضى حتى انتهى الى باب امرأة يقال لها طوعة ، وهي واقفة تنتظر ولدها بلالا ، فسلّم عليها واستسقاها ماء ، فسقته وجلس ، وأدخلت الإناء ثمّ خرجت وقالت : يا عبد الله ألم تشرب ماء؟ قال : بلى. قالت : فاذهب الى أهلك. فقام وقال لها : يا امة الله مالي في هذا المصر

__________________

(١) الإرشاد : ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٧ باب ٣٧ جزء من ح ٢.

٥٤٣

منزل ولا عشيرة أنا مسلم بن عقيل. قالت : ادخل. فدخل بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.

وجاء ولدها فرآها تكثر دخول البيت فرابه ذلك ، فسألها وشدّد عليها في السؤال فعرّفته بخبر مسلم بن عقيل بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن لا يشعر بذلك أحدا.

فلمّا أصبح مضى الى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث وأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند امّه ، فأخبر عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد ، فعرف ابن زياد سراره. فقال له : قم فأتني به الساعة.

فقام وبعث معه قومه مع عبد الله بن عبّاس السلميّ وكانوا سبعين رجلا من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل.

فلمّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنّه قد اتي ، فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم وضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري بضربتين ، فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت ثنيّتاه ، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثنّاه باخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه. فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب ثمّ يلقونها عليه من فوق البيت. فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكّة. فقال له محمّد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك. وهو يقاتلهم ويقول :

أقسمت لا اقتل إلاّ حرّا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

ويخلط البارد سخنا مرّا

ردّ شعاع الشمس فاستقرّا

كلّ امرئ يوما يلاقي شرّا

أخاف أن اكذب أو اغرّا

فقال له محمّد بن الأشعث : إنّك لا تكذب ولا تغرّ ولا تخدع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك. وكان قد اثخن بالحجارة وعجز عن القتال ، فانتهز وأسند ظهره

٥٤٤

الى حائط تلك الدار ، فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان. قال : آمن؟ قال : نعم. فقال للقوم الذين معه : لي الأمان؟ قال القوم له : نعم ، إلاّ عبد الله (١) بن العبّاس فإنّه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، وتنحّى. فقال له مسلم : أما والله لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. واتي ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يئس من نفسه فدمعت عيناه ثمّ قال : هذا أوّل الغدر (٢).

وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل الى باب القصر ، واستأذن فاذن له ، فدخل على ابن زياد فأخبره بخبر ابن عقيل وما كان من أمانه له. فقال له عبيد الله : وما أنت والأمان. فسكت ابن الأشعث.

وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخال ابن عقيل ، فلمّا دخل لم يسلّم على ابن زياد بالامرة ، فقال له بعض الحرس : ألا تسلّم على الأمير. فقال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي ليكثر سلامي عليه. فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلنّ. قال : دعني اوصي الى بعض قومي. فنظر مسلم الى بعض جلساء عبيد الله فيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال له : يا عمر إنّ بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهي سرّ.

فامتنع عمر أن يسمع منه ، فقال له عبيد الله : لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك. فقام معه وجلسا حيث ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له : عليّ بالكوفه دين استدنته منذ قدمتها سبعمائة درهم فبع سيفي ودرعي واقضها عنّي ، وإذا قتلت فاستوهب جثّتي فوارها ، وابعث الى الحسين من يردّه.

فقال عمر بن سعد لابن زياد : إنّه قال كذا وكذا. فقال ابن زياد : إنّه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن ، أمّا ماله فهو لك ولسنا نمنعك منه ، وأمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها ، وأمّا الحسين فإن هو لم يردنا لم نرده.

ثمّ أمر به فاصعد فوق القصر فقال : اضربوا عنقه ثمّ أتبعوه جسده. ودعا

__________________

(١) كذا ، والصواب : عبيد الله.

(٢) الإرشاد : ص ٢٠٦ ـ ٢١٤ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣ باب ٣٧ جزء من ح ٢.

٥٤٥

تكون أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسوله ، فأشرف به على موضع الحدّادين فضرب عنقه واتبع جسده رأسه (١).

فصل

وكان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليهما بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ستين. وقتل رحمه‌الله يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة. وكان توجّه الحسين عليه‌السلام من مكّة الى العراق يوم خروج مسلم بالكوفة ، وهو يوم التروية بعد مقامه في مكّة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالا وذا القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجّة سنة ستين (٢).

من أمالي السمعاني : قال الشعبي ، عن ابن عمر أنّه كان بماء له فبلغه أنّ الحسين بن عليّ عليهما‌السلام قد توجّه الى العراق ، فلحقه على مسير ثلاث ليال ، فقال له : أين تريد؟ قال : العراق ، وإذا معه طوامير وكتب فقال : هذه كتبهم وبيعتهم. فقال : لا تأتهم فخيّره فقال : هذه بيعتهم. قال : لا تأتهم. فأبى ، فقال : إنّي محدّثك حديثا : إنّ جبرائيل عليه‌السلام أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخيّره بين الدنيا والآخرة ، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا ، وأنّكم بضعة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينالها منكم رجل أبدا ، وما صرفها الله تعالى عنكم إلاّ للذي هو خير لكم.

قال : فأبى أن يرجع ، فاعتنقه ابن عمر وبكى ، قال : أستودعك الله من قتيل.

وقال إبراهيم بن ميسرة : سمعت طاوسا يقول : سمعت ابن عبّاس رضى الله عنهما يقول : استشارني الحسين بن عليّ عليهما‌السلام في الخروج الى العراق ، فقلت : لو لا أن يزري بي وبك لنشبت يدي في رأسك. فكان الذي ردّ عليّ أن قال : لئن اقتل في مكان كذا وكذا أحبّ إليّ أن يستحلّ فيّ بمكّة. قال ابن عبّاس :

__________________

(١) الإرشاد : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٣٥٥ ـ ٣٥٧ باب ٣٧ من تاريخ الحسين عليه‌السلام ضمن ح ٢.

(٢) الإرشاد : ص ٢١٨.

٥٤٦

فكان ذلك الذي سلا نفسي عنه (١).

وحدّث جعفر بن سليمان ، قال : حدّثني من شافه الحسين عليه‌السلام بهذا الكلام ، قال : حججت فأخذت ناحية الطريق أتعسّف الطريق ، فوقعت الى أبنية وأخبية ، فأتيت أدناها فسطاطا فقلت : لمن هذا؟ فقالوا : للحسين بن عليّ صلوات الله عليهما. فقلت : ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قالوا : نعم. قلت : فأيّها هو؟

فأشاروا إلى فسطاط. فأتيته ، فإذا هو قاعد عند عمود الفسطاط ، وإذا بين يديه كتب كثيرة يقرأها. فقلت : بأبي أنت وامّي ما أجلسك في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا منفعة. قال : إنّ هؤلاء ـ يعني السلطان وأتباعه ـ أخافوني ، وهذه كتب أهل الكوفة إليّ ، وهم قاتلي لا محالة ، فإذا فعلوا ذلك لم يتركوا حرمة إلاّ انتهكوها ، فيسلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يتركهم أذلّ من فرم الأمة (٢) الفرمة بالتسكين والفرم : ما تعالج به المرأة قبلها ليضيق (٣).

وقال بعض فزارة : نزلنا مع زهير بن القين منزلا لم نجد بدّا عن مقاربة الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، فبينا نحن نتغدى إذ أقبل رسول الحسين عليه‌السلام حتى سلّم وقال : يا زهير بن القين إنّ أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده حتّى كأنّما على رءوسنا الطير فقالت له امرأته : سبحان الله يبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه ، لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله فقوّض وحمل الى الحسين عليه‌السلام ، ثمّ قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإنّي لا احبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير. ثمّ قال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد ، إنّي سأحدّثكم حديثا : غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟

__________________

(١) قريب منه ما في تاريخ الطبري : ج ٤ ص ٢٨٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٣٦٨ باب ٣٧ من تاريخ الحسين عليه‌السلام. وفيه بدل « فرم الأمة » : قوم الأمة.

(٣) في الأصل : ليذيق. وهو سهو ، راجع القاموس ( فرم ).

٥٤٧

قلنا : نعم. فقال : إذا أدركتم شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحا بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. ثمّ لم يزل مع الحسين عليه‌السلام حتى قتل رحمة الله عليه (١).

وروى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديّان ، قالا : صحبنا الحسين عليه‌السلام فلمّا وصلنا زرودا إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه‌السلام ، فوقف الحسين عليه‌السلام كأنّه يريده ثمّ تركه ومضى ، ومضينا نحوه لنسأله ، فلمّا انتهينا إليه قلنا : السلام عليك. قال : وعليكما. قلنا : ممّن الرجل؟ قال : أسديّ. قلنا : ونحن أسديّان. ثمّ قلنا له : أخبرنا عن الناس وراءك.

قال : نعم لم أخرج من الكوفة حتّى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق. فأقبلنا حتى وصلنا الحسين عليه‌السلام فقلنا له : رحمك الله إنّ عندنا خبرا إن شئت حدّثناك به سرّا أو علانية. فنظر إلينا والى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سرّ. فقلنا : رأيت الراكب الذي استقبلته عشيّة أمس؟ قال : نعم قد أردت مسألته. فقلنا : قد والله كفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وأنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورآهما يجرّان بأرجلهما في السوق.

فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما. يردّد ذلك مرارا ، ونظر الى بني عقيل وقال لهم : ما ترون فقد قتل مسلم؟ فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين عليه‌السلام وقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء. فعلمنا أنّه قد عزم على المسير. فقلنا له : خار الله لك. فقال : رحمكما الله ، وسكت (٢).

وقيل : إنّه لمّا أتاه قتل مسلم بن عقيل وهاني همّ بالرجوع الى المدينة ثمّ عزم فقال متمثّلا :

__________________

(١) الإرشاد : ص ٢٢١.

(٢) الإرشاد : ص ٢٢٢.

٥٤٨

سأمضي وما بالموت عار على امرئ

إذا ما نوى حقّا ولم يلف محرما

فإن متّ لم أندم وإن عشت لم الم

كفى لك موتا أن تذلّ وترغما

وقال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزديّ : لمّا أقبل الحسين بن عليّ عليهما‌السلام أتى قصر بني مقاتل ونزل ، فرأى فسطاطا مضروبا ، فقال : لمن هذا الفسطاط؟ فقيل : لعبيد الله بن الحرّ الجعفي. ومع الحسين عليه‌السلام يومئذ الحجّاج بن مسروق وزيد بن معقل الجعفيّان ، فبعث إليه الحسين عليه‌السلام الحجّاج بن مسروق ، فلمّا أتاه قال له : يا ابن الحرّ أجب الحسين بن عليّ عليهما‌السلام. فقال له : أبلغ الحسين أنّه إنمّا دعاني الى الخروج من الكوفة حين بلغني أنّك تريدها فرارا من دمك ودماء أهل بيتك ، ولئلاّ اعين عليك وقلت : إن قاتلته كان عليّ كبيرا وعند الله عظيما ، وإن قاتلت معه ولم اقتل بين يديه كنت قد ضيّعت قتلته ، وأنا رجل أحمى أنفا من أن امكّن عدوّي فيقتلني ضيعة ، والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعة يقاتل بهم.

فأبلغ الحجّاج الحسين عليه‌السلام قول عبيد الله فعظم ذلك عليه ، ودعا بنعليه فانتعل ، ثمّ أقبل يمشي حتى دخل على عبيد الله بن الحرّ الفسطاط ، فأوسع له ابن الحرّ عن صدر مجلسه وقام إليه حتى أجلسه ، فلمّا جلس قال يزيد بن مرّة : حدّثني ابن الحرّ قال : دخل عليّ الحسين عليه‌السلام ولحيته كأنّها جناح غراب وما رأيت أحدا قطّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين ، ولا رققت على أحد قطّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله.

فقال له الحسين عليه‌السلام : ما يمنعك يا ابن الحرّ أن تخرج معي؟ فقال : لو كنت كائنا مع أحد من الفريقين لكنت معك ، ثمّ كنت من أشدّ أصحابك على عدوّك ، فأنا احبّ أن تعفيني من الخروج معك ، ولكن هذه خيل لي معدّة وأدلاّء من أصحابي ، وهذه فرسي المحلّقة فاركبها فو الله ما طلبت عليها شيئا إلاّ أدركته ولا طلبني أحد إلاّ فتّه فدونكها فاركبها حتى تلحق بمأمنك ، وأنا لك بالعيالات حتّى اودّيهم إليك وأموت وأصحابي عن آخرهم ، وأنا كما تعلم إذا دخلت في أمر لم يضمني فيه أحد.

قال الحسين عليه‌السلام لابن الحرّ : فهذه نصيحة لنا منك؟ قال : نعم والله الذي لا فوقه

٥٤٩

شيء. فقال له الحسين عليه‌السلام : إنّي أنصح لك كما نصحت لي ، إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقفتنا أو وقعة إن كانت بيننا فافعل ، فو الله لا يسمع داعيتنا أحد لا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم. ثمّ خرج الحسين عليه‌السلام من عنده وعليه جبّة خزّ دكناء وقلنسوة مورّدة ونعلان.

قال : ثمّ أعدت النظر الى لحيته فقلت : أسواد ما أرى أم خضاب؟ فقال : يا ابن الحرّ عجّل الشيب فعرفت أنّه خضاب. قال : وخرج ابن الحرّ حتى أتى منزله على شاطئ الفرات فنزله ، وخرج الحسين عليه‌السلام فاصيب بكربلاء. فقال ابن الحرّ في قتل الحسين عليه‌السلام :

يقول امير غادر وابن غادر

ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة

ونفسي على خذلانه واعتزاله

وبيعة هذا الناكث العهد لائمة

فيا ندما أن لا أكون نصرته

ألا كلّ نفس لا تسدّد نادمة

وإنّي لأنّي (١) لم أكن من حماته

لذو حسرة ما أن تفارق لازمة

سقى الله أرواح الذين تأزّروا

على نصره سقيا من الغيث دائمة

وقفت على أجداثهم ومحالهم

فكاد الحشا ينفضّ والعين ساجمة

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى

سراعا الى الهيجا حماة ضيارمة

تأسّوا على نصر ابن بنت نبيّهم

بأسيافهم آساد غيل ضراغمة (٢)

وقال عمر بن شمر : لمّا أقبل الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وعبيد الله بن زياد لعنه الله أمير العراق ، بعث الحصين بن تميم في أربعة آلاف فارس ومعه الحرّ بن يزيد الرياحي يتلقّى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ويمنعه الدخول الى الكوفة.

قال : فساروا حتى انتهوا الى القادسية ، فأقام الحصين هناك وبعث الحرّ بن يزيد في ألف فارس ، فلقي الحسين عليه‌السلام ثمّ سايره حتى انتهى الى كربلاء ، فأحاط به الحرّ وأصحابه ومنعوه الماء. فقال الحسين عليه‌السلام : أيّ مكان هذا؟ قالوا : كربلاء. قال : كرب وبلاء.

__________________

(١) في تذكرة الخواص : على أن.

(٢) تذكرة الخواص : ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٥٥٠

قال : وصبّحه من الغد الحصين بن تميم في أربعة آلاف فارس ، وحجّار بن أبجر في أربعة آلاف فارس ، ومحمّد بن الأشعث في ألف فارس ، ومن بعد الغد عمر بن سعد لعنه الله في أربعة آلاف فارس ، وخرج عبيد الله بن زياد لعنه الله فنزل النخيلة ، وعهد الى عمر بن سعد أن لا يمهله وأن يقتله ، وجعل يسرّب إليه الجيش بعد الجيش [ من ] أهل الشجاعة والقوّة حتى وافاه باثني عشر ألف مقاتل.

وقال عبد الله بن أبي الهذيل ، عن أبيه ، عن جدّه : وجّه عبيد الله بن زياد لعنه الله ستّة عشر ألف فارس مع أربعة قوّاد ، مع شبث بن ربعي لعنه الله أربعة آلاف ، ومع الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله أربعة آلاف ، ومع سنان بن أنس لعنه الله أربعة آلاف ومع الحرّ بن يزيد أربعة آلاف ، وولّى عليهم عمر بن سعد لعنه الله.

فلمّا كان يوم الوقعة مضى عمر بن سعد الى الفرات فاستقطع هو وصاحب له ، فلمّا سمع الأصوات والقتال أقبل على فرسه وقد أصاب الحسين عليه‌السلام جرح في حلقه وهو يضع يده عليه فإذا امتلأت الدم قال : اللهمّ إنّك ترى ، ثمّ يعيدها فإذا امتلأت قال : اللهمّ إنّ هذا فيك قليل.

فقال عمر بن سعد لعنه الله لشبث بن ربعي لعنة الله عليه : انزل فجئني برأسه. قال : أنا بايعته ثمّ غدرت به ثمّ أنزل فاحتزّ رأسه؟ لا والله لا أفعل.

قال : إذن أكتب الى عبيد الله بن زياد. قال : اكتب.

ثمّ قال لسنان بن أنس : احتزّ رأسه ، فنزل ومشى إليه وهو يقول : أمشي إليك ونفسي تعلم أنّك السيّد المقدّم وأنّك من خير الناس أبا وامّا. فاحتزّ رأسه ثمّ دفعه الى عمر بن سعد لعنه الله ، وجعله في لبب (١) فرسه.

فلمّا قدموا الكوفة جاء سنان بن أنس لعنه الله فقال :

املأ ركابي فضّة وذهبا

أنا قتلت السيّد المهذّبا

من خير خير الناس امّا وأبا

_________________

(١) اللبب : ما يشدّ على صدر الدابة أو الناقة ( لسان العرب ١ / ٧٣٢ ).

٥٥١

قال : اسكت لا يبلغ ذا عبيد الله بن زياد فيقطع لسانك من قفاك. فلم يعطه درهما فما فوقه (١).

وروي عن زين العابدين عليه‌السلام أنّه قال : لمّا صبّحت الخيل أبي عليه‌السلام ـ وكان يوم الجمعة وقيل يوم السبت ـ دعا براحلته فركبها ، ونادى بأعلى صوته : يا أهل العراق ـ وكلّهم يسمعون ـ وقال : يا أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ حتى أعذر إليكم ، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ انصتوا إليّ ولا تنظرون ، إنّ وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين. ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ قال : أمّا بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثمّ ارجعوا الى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ، فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ والله ما تعمّدت كذبا منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، اسألوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدريّ وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن الأرقم وأنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟

فقال له شمر بن ذي الجوشن لعنه الله : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

__________________

(١) أنساب الأشراف : ج ٣ ص ٤١٠ قريب منه.

٥٥٢

ثمّ قال لهم الحسين عليه‌السلام : فإن كنتم في شكّ من هذا أو تشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص من جراحة.

فأخذوا لا يكلّمونه.

فنادى : يا شبث بن ربعي ، يا حجّار بن أبجر ، يا قيس بن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجنان وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة.

فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ.

فقال له الحسين عليه‌السلام : لا والله لا اعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد. ثمّ نادى : يا عباد الله إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.

ثمّ إنّه عليه‌السلام أناخ راحلته ، وأمر عطية بن سمعان (١) فعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه ، فلمّا رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين عليه‌السلام قال لعمر بن سعد : أي عمر أتقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي.

فأقبل الحرّ حتى وقف من الناس موقفا ، ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال : لا. قال : فما تريد أن تسقيه؟

قال قرّة : فظننت والله أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ، فكره أن أراه حين يصنع ذلك ، فقلت له : لم اسقه وأنا منطلق أسقيه. فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه وأخذ يدنو الى الحسين عليه‌السلام قليلا قليلا ، فقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد ، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة.

__________________

(١) في الإرشاد : عقبة بن سمعان.

٥٥٣

فقال له : إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا ، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحرّ : والله اخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، فو الله لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطّعت وحرّقت.

ثمّ ضرب فرسه فلحق الحسين عليه‌السلام ، فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسائرك في الطريق وجعجع بك في هذا المكان ، وما ظننت أنّ القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ، ولا يبلغون منك هذا المنزلة ، والله لو علمت أنهم ينتهون بك الى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت ، وإنّى تائب الى الله ممّا صنعت ، فترى لي من ذلك توبة؟

فقال له الحسين عليه‌السلام : نعم يتوب الله عليك فانزل. فقال : أنا لك فارس خير منّي راجل اقاتلهم على فرسي ساعة والى النزول ما يصير أمري. فقال له الحسين : اصنع ما بدا لك رحمك الله.

فاستقدم أمام الحسين عليه‌السلام فقال : يا أهل الكوفة لامّكم الهبل والعبر إذ دعوتم هذا العبد الصالح ، حتى إذا أتاكم أسلمتموه ، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكظمه ، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه عن التوجّه الى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرّا ، وحددتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري الذي تشرب به اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير أهل السواد وكلابهم وهامّهم ، قد صرعهم العطش ، بئس ما خلّفتم محمّدا في ذرّيته ، لا سقاكم الله يوم العطش الأكبر. فحمل عليه رجال يرمون بالنبل ، فأقبل حتى وقف أمام الحسين عليه‌السلام.

ونادى عمر بن سعد : يا دريد أدن برايتك. فأدناها ، ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه ، ثمّ رمى وقال : اشهدوا أنّي أوّل من رمى ، ثمّ ارتمى الناس ، وتبارزوا ، وقاتل أصحاب الحسين عليه‌السلام أشدّ القتال حتى انتصف النهار. فتقدّم الحصين بن تميم الى أصحابه وكانوا خمسمائة نابل أن يرشقوا أصحاب الحسين عليه‌السلام بالنبل ، فرشقوهم فعقروا خيولهم وجرحوا الرجال وأرجلوهم ، فاشتدّ القتال وكثر القتل

٥٥٤

والجراح في أصحاب الحسين عليه‌السلام الى أن زالت الشمس ، فصلّى الحسين عليه‌السلام بأصحابه صلاة الخوف.

وتقدّم حنظلة بن سعد الساعدي بين يدي الحسين عليه فنادى : يا أهل الكوفة ، يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، يا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد ، يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى. ثمّ تقدّم فقاتل حتّى قتل رحمه‌الله.

وتقدّم بعده شوذب مولى شاكر ، فقال : السلام عليك يا با عبد الله ورحمة الله وبركاته ، أستودعك الله ، ثمّ قاتل حتى قتل رحمه‌الله.

ولم يزل يتقدّم رجل من أصحابه فيقتل ، حتّى لم يبق مع الحسين عليه‌السلام إلاّ أهل بيته خاصّة.

فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين عليه‌السلام وامّه ليلى بنت أبي قرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وكان من أصبح الناس وجها ، وله يومئذ تسع عشرة سنة ، فشدّ على الناس وفعل ذلك مرارا ، وأهل الكوفة يتّقون قتله ، فبصر به مرّة بن منقذ العبدي فقال : عليّ آثام العرب إن مرّ بي بفعل مثل ذلك إن لم أثكله أباه. فمرّ يشتدّ على الناس كما مرّ في الأوّل ، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصرعه ، واحتواه القوم فقطّعوه بأسيافهم. فجاء الحسين عليه‌السلام حتى وقف عليه فقال : قتل الله قوما قتلوك يا بنيّ ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانهملت عيناه بالدموع ، ثمّ قال : على الدنيا بعدك العفا. وأمر فتيانه فقال : احملوا أخاكم ، فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط.

ثمّ رمى رجل من أصحاب عمر بن سعد يقال له عمر بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فاتّقاه بكفّه ، فسمره على جبهته ، فلم يستطع تحريكه ، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله رحمة الله عليه.

وحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقتله.

٥٥٥

قال حميد بن مسلم : فأنا كذلك إذ خرج علينا غلام كأنّ وجهه شقة قمر وفي يده سيف وعليه قميص وازار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ، فقال لي عمر بن سعد بن نفيل الأزدي : والله لأشدّنّ عليه فقلت : سبحان الله وما تريد بذلك ، دعه يكفيكه الناس. قال : والله لأشدّنّ عليه. فشدّ عليه فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف ففلقه ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ، فجلّى الحسين عليه‌السلام كما يجلّي الصقر ثمّ شدّ شدّة ليث اغضب ، فضرب عمر بن سعد بن نفيل بالسيف فاتّقاها بالساعد ، فأطنّها من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر. ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه‌السلام. وحملت خيل أهل الكوفة لتستنقذه فتوطأته بأرجلها حتى مات. وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه‌السلام قائما على رأس الغلام وهو يفحص برجليه ، والحسين عليه‌السلام يقول : بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم فيك يوم القيامة جدّك.

ثمّ قال : عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا ينفعك صوت والله كثر واتره وقلّ ناصره. ثمّ حمله على صدره ، فكأنّي أنظر الى رجلي الغلام تخطّان الأرض ، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه عليّ بن الحسين عليهما‌السلام والقتلى من أهل بيته. فسألت عنه فقيل لي : هو القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام.

ثمّ جلس الحسين عليه‌السلام أمام الفسطاط فاتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل ، فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين عليه‌السلام دمه ، فلمّا ملأ كفّه صبّه في الأرض ثمّ قال : ربّ إن تكن حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين. ثمّ حمله حتى وضعه مع القتلى من أهله.

ورمى عبد الله بن عقبة أبا بكر بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام فقتله.

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ كثرة القتل في أهله قال لإخوته من امّه وهم عبد الله وجعفر وعثمان : يا بني امّي تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنّه لا ولد لكم.

فتقدّم عبد الله فقاتل قتالا شديدا ، واختلف هو وهاني الحضرمي ضربتين ، فقتله هاني.

٥٥٦

وتقدّم بعده جعفر بن عليّ ، فقتله هاني أيضا.

وتعمّد خوليّ بن يزيد الأصبحي عثمان بن عليّ ، وقد قام مقام إخوته ، فرماه فصرعه. وشدّ عليه رجل من بني دارم فاحتزّ رأسه.

وحملت الجماعة على الحسين عليه‌السلام فغلبوه على عسكره ، واشتدّ به العطش ، فركب المسنّاة يريد الفرات وبين يديه أخوه العبّاس ، فاعترضه خيل ابن سعد لعنه الله وفيهم رجل من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم حولوا بينه وبين الماء ولا تمكّنوه منه. فقال الحسين عليه‌السلام : اللهمّ أضمه. فغضب الدارميّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليه‌السلام السهم وبسط يديه تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدم فرمى به ثمّ قال : اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك. ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش.

وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه ، فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه.

ولمّا رجع الحسين عليه‌السلام من المسنّاة الى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن لعنه الله في جماعة من أصحابه وأحاط به ، فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن اليسر الكنديّ فشتم الحسين عليه‌السلام وضربه على رأسه بالسيف ، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل الى رأسه فأدماه ، فامتلأت القلنسوة دما ، فقال له الحسين عليه‌السلام : لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع الظالمين. ثمّ ألقى القلنسوة ، ودعا بخرقة فشدّ بها رأسه ، واستدعى قلنسوة اخرى فلبسها واعتمّ عليها. ورجع عنه شمر ومن كان معه الى مواضعهم.

فمكثوا هنيئة ثمّ عادوا إليه وأحاطوا به ، فخرج إليهم عبد الله بن الحسن بن عليّ عليه‌السلام ، وهو غلام لم يراهق من عند النساء حتى وقف الى جنب الحسين عليه‌السلام ، وأهوى الحرّ بن كعب الى الحسين عليه‌السلام بالسيف ، فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمّي ، فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده فأطنّها الى الجلدة ، فنادى الغلام : يا امّتاه ، فأخذه الحسين عليه‌السلام وضمّه إليه وقال : يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك

٥٥٧

واحتسب في ذلك الخير فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين. ثمّ رفع الحسين يده وقال : اللهمّ إن متعتهم الى حين ففرّقهم فرقا ، واجعلهم طرائق قددا ، ولا ترض الولاة عنهم أبدا فإنّهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا.

فحملت الرجالة يمينا وشمالا على من كان بقي مع الحسين عليه‌السلام فقتلوهم حتى لم يبق معه إلاّ ثلاثة نفر أو أربعة.

فلمّا رأى الحسين عليه‌السلام ذلك دعا بسراويل يلمع فيها البصر ففزرها ثمّ لبسها.

فلمّا قتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد الحرّ بن كعب لعنه الله إليه فسلبه السراويل وتركه مجرّدا ، وكانت يد الحرّ بعد ذلك تيبسان في الصيف حتّى كأنّهما عودان ويرطبان في الشتاء فينضحان دما وقيحا إلى أن أهلكه الله.

فلمّا لم يبق مع الحسين عليه‌السلام إلاّ ثلاثة رهط من أهل بيته أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه والثلاثة يحمونه حتّى قتل الثلاثة ، وبقي وحده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد اثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، وجعل يضاربهم بسيفه وهم يتفرّقون عنه يمينا وشمالا.

فلمّا رأى ذلك شمر لعنه الله استدعى الفرسان فصاروا في ظهر الرجّالة ، وأمر الرماة أن يرموه ، فرشقوه بالسّهام حتّى صار كالقنفذ ، فأحجم عنهم ، فوقفوا بإزائه ، فنادى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله الفرسان والرجّالة فقال : ويحكم ما تنتظرون بالرجل ، ثكلتكم امهاتكم. فحمل عليه من كلّ جانب ، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها ، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه ، وطعنه سنان بن أنس بالرمح فصرعه ، وبدر إليه خولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فارعد ، فقال له شمر : فتّ الله في عضدك مالك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ، ثمّ دفع رأسه الى خولى بن يزيد وأمره بحمله الى عمر بن سعد.

ونادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه. فانتدب عشرة ، منهم إسحاق بن حبوه وأخنس بن مرثد فداسوا الحسين عليه‌السلام بخيولهم حتّى رضّوا ظهره.

وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك ـ وهو يوم عاشوراء ـ برأس الحسين عليه‌السلام

٥٥٨

مع خولى بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي الى عبيد الله بن زياد لعنه الله. وأمر برءوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقطعت ، فكانت اثنين وسبعين رأسا ، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج ، فأقبلوا حتى قدموا على ابن زياد لعنه الله.

وأقام عمر بن سعد بقيّة يومه واليوم الثاني الى زوال الشمس ثمّ نادى في الناس بالرحيل ، وتوجّه الى الكوفة ومعه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من النساء والصبيان ، وعليّ بن الحسين فيهم وهو مريض ، فأنشد لسان الحال :

لمّا دنا الوقت لم يخلف له عده

وكل شيء لميقات وميعاد

حطّ القناع فلم تستر مخدّرة

ومزقت أوجه تمزيق إيراد

حان الوداع فضجّت كلّ صارخة

وصارخ من مفدّاة ومن فادي

سارت حمولهم والنوح يصحبها

كأنّها إبل يحدوا بها الحادي

كم سال في الحال من دمع وكم حملت

تلك الظعائن من قطعات أكباد

ولمّا رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضريّة ، فصلّوا على الحسين وأصحابه ، ودفنوا الحسين حيث قبره الآن ، ودفنوا عليّ بن الحسين الأصغر عند رجليه ، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله ممّا يلي رجلي الحسين عليه‌السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعا ، ودفنوا العبّاس بن عليّ عليهما‌السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن.

فصل

ولمّا وصل رأس الحسين عليه‌السلام ووصل ابن سعد من غد يوم وصوله ومعه بنات الحسين وأهله ، قال أبو إسحاق السبيعي ، عن حذيم الأسدي ، قال : دخلت الكوفة سنة إحدى وستّين ورأيت نساء أهل الكوفة يلتد من قائمات ، مهتّكات الجيوب ، وسمعت عليّا ـ يعني عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ـ وهو يقول بصوت ضئيل قد أنحله

٥٥٩

المرض : وإنّكم لتبكون علينا فمن قتلنا غيركم؟! ورأيت زينب بنت عليّ عليهما‌السلام فلم أر والله خفرة أنطق منها كأنّما تنزع عن لسان أبيها ، فأومأت الى الناس أن اسكتوا ، فسكتت الأنفاس وهدأت الأجراس فقالت :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد خاتم المرسلين ، أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والخذل ، أتبكون فلا سكتت العبرة ، ولا هدأت الرنة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا تتّخذون أيمانكم دخلا بينكم ، وأنّ فيكم الصلف للضيف ، وذلّ العبد للسيف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، وكقصبة على ملحودة ، ألا ساء ما تزرون ، اي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا ، ذهبتم وبؤتم بشنارها ، فلن ترحضوها عنكم بغسل ، وأنّى ترحضون قتل من كان سليل خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومدرة حجّتكم ، ومنار محجّتكم ، وسيّد شباب أهل الجنّة. يا أهل الكوفة ألا ساء ما سوّلت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وأنتم في العذاب خالدون. أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟

وأيّ دم سفكتم؟ وأيّ كريمة له أبرزتم؟ ( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) ولقد أتيتم بها شوهاء خرقاء طلاع الأرض والسماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دما؟ فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تبصرون. فلا يستخفنّكم المهل ، فإنّه لا يخفره البدار ، ولا يخاف عليه فوت النار ، كلا إنّه لبالمرصاد. فما سمعها أحد إلاّ بكى.

ولمّا دخل رأس الحسين عليه‌السلام الكوفة جلس ابن زياد لعنه الله للناس في قصر الأمارة ، وأذن للناس إذنا عامّا وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه ، فجعل ينظر إليه ويتبسّم ، وفي يده قضيب يضرب به ثناياه ، وكان الى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو شيخ كبير ، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له : ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فو الله الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما ما لا احصيه. وانتحب باكيا.

فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك ، أتبكي لفتح الله ، والله لو لا أنّك شيخ قد

٥٦٠