الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٤٨

وفيه أيضا : اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال : ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال : بلى فأقرأ : ويسألونك عن المحيض إلى قوله : فأتوهن من حيث امركم الله فقال : ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت ان تأتي فقال : كيف بالآية نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم؟ فقال : اي ، ويحك ، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا ، ولكن انى شئتم من الليل والنهار.

اقول : واستدلاله كما ترى مدخول ، فإن آية المحيض لاتدل على أزيد من حرمة الاتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الادبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على انك قد عرفت ان آية الحرث ايضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الادبار ، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس : الاستدلال على حرمة الاتيان من محاشيهن بالامر الذي في قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله الآية ، وقد عرفت فيما مر من البيان انه من افسد الاستدلال ، وان الآية تدل على حرمة الاتيان من محل الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه ، وان آية الحرث ايضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث ، والمسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات.

* * *

وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ ٢٢٤. لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ـ ٢٢٥. لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ ٢٢٦. وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ ٢٢٧.

٢٢١

( بيان )

قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا إلى آخر الآية ، العرضة بالضم من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للاكل ، ومنه ما يقال للهدف : إنه عرضة للسهام ، وللفتاة الصالحة للازدواج انها عرضة للنكاح ، وللدابة المعدة للسفر إنها عرضة للسفر وهذا هو الاصل في معناها ، واما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخلية في اصل المعنى.

والايمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل ، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للاصبع التي يسب بها.

ومعنى الآية ( والله اعلم ) : ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها ايمانكم التي عقدتموها بحلفكم ان لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى ان يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما امر به من البر والتقوى والاصلاح بين الناس ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إنشاء الله.

وعلى هذا يصير قوله تعالى : أن تبروا إلخ ، بتقدير ، لا ، أي أن لا تبروا ، وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى ( يبين الله لكم أن تضلوا ) النساء ـ ١٧ ، اي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا ، ويمكن أن لا يكون بتقدير ، لا ، وقوله تعالى : أن تبروا ، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : ولا تجعلوا ، من النهى أي ينهيكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الاكثار من الحلف بالله سبحانه ، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أديكم إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم

٢٢٢

ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه ، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول ، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها ، فيكون على حد قوله تعالى : ( ولا تطع كل حلاف مهين ) القلم ـ ١٠ ، والانسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى : أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله ولا تجعلوا ، كما مر. وفي قوله تعالى : والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أن المعنى الاول أظهرها كما لا يخفى.

قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم إلى آخر الآية ، اللغو من الافعال مالا يستبعد أثرا ، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومعلقاته ، فلليمين إثر من حيث انه لفظ ، واثر من حيث انه مؤكد للكلام ، واثر من حيث انه عقد واثر من حيث حنثه ومخالفة مؤداه ، وهكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف ، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شيء من قول : لا والله وبلى والله.

والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما واصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الانسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الانسان بعمل من اعماله من خير أو شر ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالاعمال المناسبة لها ، وكسب اللوم والذم ، واللعن والطعن ، والذنوب والآثام ، ونوهما بالآعمال المستتبعة لذالك ، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب ، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الانسان المنفعة لنفسه ، والكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب الولي للمولى عليه ونحو ذلك.

وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الانسان لاغير.

( كلام في معنى القلب في القرآن )

وهذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الانسان بمعنى النفس والروح ،

٢٢٣

فإن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الاذن والابصار إلى العين والذوق إلى اللسان ، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الانسان البتة.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( فإنه آثم قلبه ) البقرة ـ ٢٨٣ ، وقوله تعالى : ( وجاء بقلب منيب ) ق ـ ٣٣.

والظاهر : أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما ، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو القلب ، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة ، وإن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل الشعور والارادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح ، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الاعضاء مبدئا لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للابصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك ، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.

وربما يؤيد هذا النظر : ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشيء وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضرباته.

وربما أيده أيضا : ان الابحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية أعني عرش الاوامر التي يمتثلها الاعضاء الفعالة في البدن الانساني ، إذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث انفسها وافعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لامير واحد ، وحدة حقيقية.

ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن امر الدماغ وما يخصه من الفعل الادراكي ، فإن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الاهمية منذ أقدم الازمنة ، والشاهد عليه ما نرى في جميع الامم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسميه مبدء الحكم

٢٢٤

والامر بالرأس ، واشتقاق اللغات المختلفة منه ، كالرأس والرئيس والرئاسة ، ورأس الخيط ، ورأس المدة ، ورأس المسافة ، ورأس الكلام ، ورأس الجبل ، والرأس من الدواب والانعام ، ورئاس السيف.

فهذا ـ على ما يظهر ـ هو السبب في إسنادهم الادراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب ، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته ، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى انفسهم ، يقال : أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب وأريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لانحاء الادراك والافعال والصفات الروحية.

وفي القرآن شيء كثير من هذا الباب ، قال تعالى : ( يشرح صدره للاسلام ) الانعام ـ ١٢٥ ، وقال تعالى : ( إنك يضيق صدرك ) الحجر ـ ٩٧ ، وقال تعالى : ( وبلغت القلوب الحناجر ) الاحزاب ـ ١٠ ، وهو كناية عن ضيق الصدر ، وقال تعالى : ( ان الله عليم بذات الصدور ) المائدة ـ ٧ ، وليس من البعيد أن تكون هذه الاطلاقات في كتابه تعالى اشارة إلى تحقيق هذا النظر وان لم يتضح كل الاتضاح بعد.

وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الادراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الادراك وللدماغ الوساطد.

ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الاضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الاثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي وإضراب في إضراب للاشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى : ( إن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) البقرة ـ ٢٨٤ ، وقال تعالى : ( ولكن يناله التقوى منكم ) الحج ـ ٣٧.

وفي قوله تعالى : والله غفور حليم ) ، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين ، فإنه مما

٢٢٥

لاينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى : ( وقد أفلح المؤمنون إلى أن قال والذين هم عن اللغو معرضون ) المؤمنون ـ ٣.

قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم الخ ، الايلاء من الالية بمعنى الحلف ، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا واضرارا ، وهو المراد في الآية ، والتربص هو الانتظار ، والفئ هو الرجوع.

والظاهر أن تعدية الايلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة ، ويشعر به تحديد التربص بالاربعة أشهر فإنها الامد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا ، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع ايقاعه ، ويشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى : فإن الله سميع عليم ، فإن السمع انما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.

وفي قوله تعالى : فإن الله غفور رحيم ، دلالة على أن الايلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ. واما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة ، قال تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية ) المائدة ـ ٨٩.

فالمعنى ان من آلى من امرأته يتربص له الحاكم اربعة اشهر فإن رجع إلى حق الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وان عزم الطلاق واوقعه فهو المخلص الآخر ، والله سميع عليم.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي عن الصادق (ع) في قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم الآية ، قال (ع) : هو قول الرجل : لا والله وبلى والله.

وفيه أيضا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام في الآية : يعني الرجل يحلف أن لا يكلم اخاه وما اشبه ذلك أو لا يكلم أمه.

وفي الكافي عن الصادق (ع) في الآية ، قال : إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل على يمين ان لاافعل.

٢٢٦

اقول : والرواية الاولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين ، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر ، ويقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم الحديث ، فكأن المراد انه ينبغي ان لا يحلف بل يصلح ويحمل الاثم والله يغفر له ، فيكون مصداقا للعامل بالآية.

وفي الكافي عن مسعدة عن الصادق (ع) في قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم الآية ، قال : اللغو قول الرجل : لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.

اقول : وهذا المعنى مروي في الكافي عنه (ع) من غير الطريق ، وفي المجمع عنه وعن الباقر عليه‌السلام.

وفي الكافي أيضا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام انهما قالا : إذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الاربعة اشهر ، ولا إثم عليه في الكف عنها في الاربعة اشهر ، فإن مضت الاربعة اشهر قبل ان يمسها فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة فإن رفعت أمرها قيل له : إما ان تفئ فتمسها وإما ان تطلق ، وعزم الطلاق ان يخلي عنها ، فإذا حاضت وطهرت طلقها ، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء ، فهذا الايلاء الذي انزل الله في كتابه وسنه رسول الله.

وفيه ايضا عن الصادق (ع) في حديث : والايلاء ان يقول : والله لا اجامعك كذا وكذا أو يقول : والله لاغيظنك ثم يغاظها ، الحديث.

اقول : وفي خصوصيات الايلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة ، والبحث فقهي مذكور في الفقه.

* * *

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ

٢٢٧

دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ـ ٢٢٨. الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ـ ٢٢٩. فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ـ٢٣٠. وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ ٢٣١. وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ـ ٢٣٢. وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم

٢٢٨

بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ ٢٣٣. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ـ ٢٣٤. وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ـ ٢٣٥. لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ـ ٢٣٦. وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ ٢٣٧. حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ـ ٢٣٨. فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ـ ٢٣٩. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ـ ٢٤٠. وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ـ ٢٤١. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ

٢٢٩

لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ـ ٢٤٢.

( بيان )

الآيات في احكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها ، وفي خلالها شيء من احكام الصلاة.

قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، اصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثم استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.

والتربص هو الانتظار والحبس ، وقد قيد بقوله تعالى : بأنفسهن ، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة اعني عدة الطلاق ، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذرا عن اختلاط المياه ، ويزيد على معنى العدة الاشارة إلى حكمة التشريع ، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الانساب ، ولا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين والاحكام إنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامة ، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزلة قولنا : يعتددن احترازا من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن ، والجملة خبر أريد به الانشاء تأكيدا.

والقروء جمع القرء ، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معا ، فهو على ما قيل من الاضداد ، غير ان الاصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه ، وعلى هذا فالاظهر ان يكون معناه الطهر لكونه حاله جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع ، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القرائه ، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع ، ويشعر بأن الاصل في مادة قرء الجمع ، قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) القيامة ـ ١٨ ، وقوله تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) بني إسرائيل ـ ١٠٦ ، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن ، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو مايشبههما ، وبه سمي القرآن قرآنا.

٢٣٠

قال الراغب في مفرداته : والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسما جامع للامرين : الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لان كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد ، كالمائدة للخوان والطعام ، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به ، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا ، بدليل ان الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها : ذات قرء ، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها : ذلك ، انتهى.

قوله تعالى : ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه ونحو ذلك ، وفي تقييده بقوله : إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط اصل الحكم بالايمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت عليه لما في هذا التقييد من الاشارة إلى ان هذا الحكم من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الاسلامية فلا استغناء في الاسلام عن هذا الحكم ، وهذا نظير قولنا : أحسن معاشرة الناس ان أردت خيرا ، وقولنا للمريض : عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء.

قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ان ارادوا اصلاحا ، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة والثبات في الشدائد لما ان الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل اصلا يشتق منه الالفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها ، وللارض المستعلية بعل ، وللصنم بعل ، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك.

والضمير في بعولتهن للمطلقات إلا ان الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الاعم منها ومن البائنات ، والمشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة ، والتقييد بقوله ان ارادوا اصلاحا ، للدلالة على وجوب ان يكون الرجوع لغرض الاصلاح لا لغرض الاضرار المنهي عنه بعد بقوله : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، الآية.

ولفظ أحق اسم تفضيل حقه ان يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الاول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق ، والزوج الاول احق بها لسبق

٢٣١

الزوجية ، غير ان الرد المذكور لا يتحقق معناه الا مع الزوج الاول.

ومن هنا يظهر : ان في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى ، والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم ، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في ايام العدة ، وهذه الاحقية انما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها ، وهذه هي القرينة على ان الحكم مخصوص بالرجعيات ، لا ان ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك ، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل ، واما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.

قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم ، وقد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثنى عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل اعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة ، فالمعروف تتضمن هداية العقل ، وحكم الشرع ، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الادب.

وحيث بنى الاسلام شريعته على اساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدوا طور الخلقة ، ومن احكام الاجتماع المبني على اساس الفطرة ان يتساوى في الحكم افراده واجزائه فيكون ما عليهم مثل مالهم الا ان ذلك التساوي انما هو مع حفظ ما لكل من الافراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته ، وللمحكوم محكوميته ، وللعالم علمه ، وللجاهل حاله ، وللقوي من حيث العمل قوته ، وللضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها باعطاء كل ذي حق حقه ، وعلى هذا جرى الاسلام في الاحكام المجعولة للمراة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والاسلام يرى في ذلك ان للرجال عليهن درجة ، والدرجة المنزلة.

ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة ، قيد متمم للجملة السابقة ، والمراد بالجميع معنى واحد وهو : ان النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن ، فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم ،

٢٣٢

وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها.

قوله تعالى : الطلاق مرتان فإمكساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما ان الدفعة والكرة والنزلة مثلها وزنا ومعنى واعتبارا.

والتسريح أصله الاطلاق في الرعى مأخوذ من سرحت الابل وهو ان ترعيه السرح ، وهو شجر له ثمر يرعاه الابل وقد استعير في الآية لاطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة ، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجئ.

والمراد بالطلاق في قوله تعالى : الطلاق مرتان ، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد : فإمساك الخ ، واما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية.

والمراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من التطليقتين الاوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإن كان الاظهر انه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الاطلاق في تفريع قوله : فإمساك الخ ، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد : فإن طلقها الخ بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الاجمالي.

وفي تقييد الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان من لطيف العناية مالا يخفى ، فإن الامساك والرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للاضرار بها وهو منكر غير معروف ، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك ، يريد بذلك إيذائها والاضرار بها وهو اضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه ، بل الامساك الذي يجوزه الشرع ان يرجع إليها بنوع من انواع الالتيام ، ويتم به الانس وسكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة.

وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب ، ويتصور بصورة الانتقام ، والذي يجوزه هذه الشريعة ان يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع ، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، وهذا التعبير هو الاصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه ، واما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان ، حيث قيد

٢٣٣

التسريح بالاحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.

بيانه : ان التقييد بالمعروف والاحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود ، والمطلوب بتقييد الامساك بالمعروف نفي الامساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، والمطلوب في مورد التسريح نفى ان يأخذ الزوج بعض ما آتاه زوجته واخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالاحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي ، ولو قيل : أو تسريح بمعروف ولا يحل لكم الخ ، فاتت النكتة.

قوله تعالى : إلا ان يخافا الا يقيما حدود الله ، الخوف هو الغلبة على ظنهما ان لا يقيما حدود الله ، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين ، وذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك.

قوله تعالى : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله : خفتم ، كانه للاشارة إلى لزوم ان يكون الخوف خوفا يعرفه العرف والعادة ، لاما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة ونحوها ، ولذلك عدل أيضا عن الاضمار فقيل ألا يقيما حدود الله ، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس.

وأما نفى الجناح عنهما مع ان النهي في قوله : ولا يحل لكم ان تأخذوا الخ ، إنما تعلق بالزوج فلان حرمة الاخذ على الزوج توجب حرمة الاعطاء على الزوجة من باب الاعانة على الاثم والعدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية ، فلا جناح على الزوج ان يأخذ الفدية ، ولاجناح على الزوجة ان تعطي الفدية وتعين على الاخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.

قوله تعالى : تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله الخ ، المشار

٢٣٤

إليه هي المعارف المذكورة في الايتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل اخلاقية ، وأخرى علمية مبتنية على معارف اصلية ، والاعتداء والتعدي هو التجاوز.

وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والاصول الاخلاقية ، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها ، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الانسانية ، فإن الاسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول ، وشريعة العمل دون الفرض ، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على اجساد الاحكام والاعراض عن روحها وباطن أمرها ، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى : ( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية ) البقرة ـ ٢٣١.

وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله : ولا يحل لكم ، وقوله : فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله : تلك حدود الله ، ثم إلى الجمع في قوله : فلا تعتدوها ، ثم إلى المفرد في قوله : فاولئك هم الظالمون ، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الاصغاء.

قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية ، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره ، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع ان المحرم إنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا ، وليشعر قوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره ، على العقد والوطئ جميعا ، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الاول ان يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين ، وهو التراجع ، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الاوليين ، وذلك إن ظنا ان يقيما حدود الله.

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى : وتلك حدود الله ، لان المراد بالحدود غير الحدود.

وفي الآية من عجيب الايجاز مايبهت العقل ، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير ان يوجب تعقيدا في الكلام ، ولا إغلاقا في الفهم.

٢٣٥

وقد اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الاسماء المنكرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، أربعة اسماء منكرة ، وقوله تعالى : مما آتيتموهن شيئا كني به عن المهر ، وقوله تعالى : فإن خفتم ، كني به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة ، وقوله تعالى : فيما افتدت به ، كني به عن مال الخلع ، وقوله تعالى : فإن طلقها ، اريد به التطليقة الثالثة ، وقوله تعالى : فلا تحل له ، أريد به تحريم العقد والوطئ ، وقوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره ، أريد به العقد والوطئ معا كناية مؤدبة ، وقوله تعالى : ان يتراجعا ، كني به عن العقد.

وفي الآيتين حسن المقابلة بين الامساك والتسريح ، وبين قوله ان يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله : إن ظنا ان يقيما حدود الله ، والتفنن في التعبير في قوله : فلا تعتدوها وقوله : ومن يتعد.

قوله تعالى : وإذاطلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله : لتعتدوا ، المراد ببلوغ الاجل الاشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها ، والدليل على ان المراد به ذلك قوله تعالى : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، إذ لا معنى للامساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة : وفي قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالاخذ من المهر في غير الخلع.

قوله تعالى : ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الامساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة ، ولا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز ، والامساك خاصة رجوع إلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق ، وفيه جمع الشمل بعد شتاته ، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارة.

فمن يفعل ذلك أي امسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الانسانية.

على انه اتخذ آيات الله هزوا يستهزء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم

٢٣٦

من الاحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على اجرام الافعال أخذا وإعطائا وإمساكا وتسريحا وغير ذلك ، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع ، ويتم بها سعادة الحياة الانسانية ، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس ، وتطهر بها الارواح ، وتصفو بها المعارف العالية : من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية ، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الاحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا.

والمراد بالنعمة في قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم ، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين ، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى : ( وأتممت عليكم نعمتي ) المائدة ـ ٣ ، وقوله تعالى : ( وليتم نعمته عليكم ) المائدة ـ ٦ ، وقوله تعالى : فأصبحتم بنعمته إخوانا ) آل عمران ـ ١٠٣.

وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده : وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ، كالمفسر لهذه النعمة ، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحكمها.

ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الالهية ، التكوينية وغيرها فيكون المعنى : اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الاحكام وحكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة ، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم ، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شيء عليم ، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم ، ولاتجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.

قوله تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، العضل المنع ، والظاهر أن الخطاب في قوله : فلا تعضلوهن ، لاوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لايسعهن مخالفته ، والمراد بأزواجهن ، الازواج قبل الطلاق ، فالآية تدل على نهي الاولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة ان تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا ولجاجا كما يتفق كثيرا ، ولا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي.

٢٣٧

اما اولا : فلان قوله : فلا تعضلوهن ، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره.

واما ثانيا : فلان اختصاص الخطاب بالاولياء فقط لادليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم ، وأن النهى نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى : ذلكم ازكى لكم وأطهر.

وربما قيل : إن الخطاب للازواج جريا على ما جرى به قوله : وإذا طلقتم النساء ، والمعنى : وإذا طلقتم النساء يا أيها الازواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن ، وذلك بأن يخفي عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو ذلك.

وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى : أزواجهن ، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال : ان ينكحن أو ان ينكحن أزواجا وهو ظاهر.

والمراد بقوله تعالى : فبلغن أجلهن : انقضاء العدة ، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لاحد من الاولياء وغيرهم ان يمنع ذلك وبعولتهن احق بردهن في ذلك. على أن قوله تعالى : ان ينكحن ، دون ان يقال : يرجعن ونحوه ينافي ذلك.

قوله تعالى : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ، هذا كقوله فيما مر : ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر الآية ، وإنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالايمان بالله واليوم الآخر ، وهو التوحيد ، لان دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق ، ويقضي بالوصل دون الفصل.

وفي قوله تعالى : ذلك يوعظ به من كان منكم ، التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع ، والاصل في هذا الكلام خطاب المجموع اعني خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده في غير جهات الاحكام كقوله : تلك حدود الله فلا تعتدوها ، وقوله فاولئك هم الظالمون ، وقوله : وبعولتهن احق بردهن في ذلك ، وقوله : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله ، حفظا لقوام الخطاب ، ورعاية لحال من هو ركن في هذه

٢٣٨

المخاطبة وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة ، وغيره فخاطب بوساطته ، واما الخطابات المشتملة على الاحكام فجميعها موجهة نحو المجموع ، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه.

قوله تعالى : ذلكم ازكى لكم واطهر ، الزكاة هو النمو الصالح الطيب ، وقد مر الكلام في معنى الطهارة ، والمشار إليه بقوله : ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى ازواجهن ، أو نفس رجوعهن إلى ازواجهن ، والمال واحد ، وذلك ان فيه رجوعا من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتصال ، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية ، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو استر لهن واطهر لنفوسهن ، ومن جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الاجانب إذا منعن عن نكاح ازواجهن.

والاسلام دين الزكاة والطهارة والعلم ، قال تعالى : ( ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) آل عمران ـ ١٦٤ ، وقال تعالى : ( ولكن يريد ليطهركم ) المائدة ـ ٧.

قوله تعالى : والله يعلم وانتم لا تعلمون ، اي إلاما يعلمكم كما قال تعالى : ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) آل عمران ـ ١٦٤ ، وقال تعالى : ( ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء ) البقرة ـ ٢٥٥ ، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى : وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية اي يعلمون بتعليم الله.

قوله تعالى : والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعه. الوالدات هن الامهات ، وإنما عدل عن الامهات إلى الوالدات لان الام اعم من الوالدة كما ان الاب اعم من الوالد والابن اعم من الولد ، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له ، واما تبديل الوالد بالمولود له ، ففيه اشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لافي جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه ان يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته ، ومنها كسوة امه التي ترضعه ، ونفقتها ، وكان على أمه ان لا تضار والده لان الولد مولود له.

٢٣٩

ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين : أنه إنما قيل : المولود له دون الوالد : ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لان الاولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الامهات ، وأنشد المأمون بن الرشيد :

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللآباء أبناء

انتهى ملخصا ، وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى : أولادهن ويقول : بولدها ، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى وتقدس.

وقد اختلط على كثير من علماء الادب امر اللغة ، وامر التشريع ، حكم الاجتماع وامر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي ، أو حقيقة تكوينية.

وجملة الامر في الولد ان التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده اليهما معا ، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الامم : فبعض الامم يلحقه بالوالدة ، وبعضهم بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض ، وتشير إليه بقوله : المولود له كما تقدم ، والارضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه ، والحول هو السنة سميت به لانها تحول ، وإنما وصف بالكمال لان الحول والسنة لكونه ذا اجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل ، فكثيرا ما يقال : اقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه اياما.

وفي قوله تعالى : لمن اراد ان يتم الرضاعة ، دلالة على ان الحضانة والارضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها ، والبلوغ إلى آخر المدة ايضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وان لم تشأ التكميل فلها ذلك ، واما الزوج فليس له في ذلك حق الا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن ارادا فصالا الخ.

قوله تعالى : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا وسعها ، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر ، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس ، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما ، وقد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج ، وهو قوله تعالى : لا تكلف نفس الا وسعها ، وقد فرع عليه حكمين

٢٤٠