الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٤٨

التأمل في الاحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الامم الحاضرة والقرون الخالية ، ثم البحث عن السعادة الانسانية ، وتطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم ومسالكهم حتى نزن به مكانته ومكانتها ، ونميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها ، وهذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل وسيرها ، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة.

ولذلك فإنا نحتاج في البحث عما يراه الاسلام ويعتقده في.

١ ـ هوية المرأة والمقايسة بينها وبين هوية الرجل.

٢ ـ وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الانساني.

٣ ـ حقوقها والاحكام التي شرعت لاجلها.

٤ ـ الاساس الذي بنيت عليه الاحكام المربوطة بها.

إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الاسلام وما كانت الامم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة وغير ها ، والاستقصاء في ذلك وإن كان خارجا عن طوق الكتاب ، لكنا نذكر طرفا منه :

( حياة المرأة في الامم غير المتمدنة )

كانت حياة النساء في الامم والقبائل الوحشية كالامم القاطنين بإفريقيا وأستراليا والجزائر المسكونة بالاوقيانوسية وامريكا القديمة وغيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الاهلية من الانعام وغيرها بالنسبة إلى حياة الانسان.

فكما أن الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقا أن يمتلك الانعام وسائر الحيوانات الاهلية ويتصرف فيها كيفما شاء وفي أي حاجة من حوائجه شاء ، يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها وسفادها ونتاجها ونمائها ، وفي حمل الاثقال ، وفي الحرث ، وفي الصيد ، إلى غير ذلك من الاغراض التي لا تحصى كثرة.

وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل

٢٦١

والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إلاما رضي به الانسان الذي امتلكها ولم يرضى إلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة ، وربما أدى ذلك إلى تهكمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في امر نفسه : فمن مظلوم من غير أي جرم كان اجرمه ، ومستغيث وليس له أي مغيث يغيثه ، ومن ظالم من غير مانع يمنعه ، ومن سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في انعم عيش وألذه عنده ، ومن شقي من غير استحقاق كحمار الحمل وفرس الطاحونة.

وليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الانسان المالك لها حقا لنفسه فمن تعدى إليها لا يؤاخذ إلا لانه تعدى إلى مالكها في ملكه ، لا إلى الحيوان في نفسه ، كل ذلك لان الانسان يرى وجودها تبعا لوجود نفسه وحياتها فرعا لحياته ومكانتها مكانة الطفيلي.

كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الامم والقبائل حياة تبعية ، وكانت النساء مخلوقة عندهم لاجل الرجال بقول مطلق : كانت النساء تابعة الوجود والحيوة لهم من غير استقلال في حياة ، ولافي حق فكان آبائهن ما لم ينكحن ، وبعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الاطلاق.

كان للرجل ان يبيع المرأة ممن شاء وكان له ان يهبها لغيره ، وكان له ان يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك ، وكان له ان يسوسها حتى بالقتل ، وكان له ان يخلي عنها ، ماتت أو عاشت ، وكان له ان يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة وخاصة في المجاعة وفي المآدب ، وكان له ما للمرأة من المال والحق وخاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشرى وأخذ ورد.

وكان على المرأة ان تطيع الرجل ، أباها أو زوجها ، في ما يأمر به طوعا أو كرها ، وكان عليها ان لا تستقل عنه في امر يرجع إليه أو إليها ، وكان عليها ان تلي امور البيت والاولاد وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه ، وكان عليها ان تتحمل من الاشغال أشقها كحمل الاثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرف والصناعات أرديها وسفسافها ، وقد بلغ عجيب الامر إلى حيث ان المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت ، ونام الرجل على فراشها أياما يتمرض ويداوي نفسه ، هذه كليات ماله وعليها ، ولكل جيل من هذه الاجيال

٢٦٢

الوحشية خصائل وخصائص من السنن والآداب القومية باختلاف عاد اتها الموروثة في مناطق حياتها والاجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشؤون.

( حياة المرئة في الامم المتمدنة)

قبل الاسلام

نعني بهم الامم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومصر القديم وإيران ونحوها.

تشترك جميع هؤلاء الامم : في ان المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحرية ، لافي إرادتها ولافي أعمالها ، بل كانت تحت الولاية والقيمومة ، لا تنجز شيئا من قبل نفسها ولا كان لها حق المداخلة في الشؤون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

وكان عليها : ان تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك.

وكان عليها : ان تختص بامور البيت والاولاد ، وكان عليها ان تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها.

وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالا بالنسبة إليها في الامم غير المتمدنة ، فلم تكن تقتل وتؤكل لحمها ، ولم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك وإن لم تكن لها ان تتصرف فيها بالاستقلال ، وكان للرجل ان يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد وكان لها تطليق من شاء منهن ، وكان للزوج ان يتزوج بعد موت الزوجة ولاعكس غالبا ، وكانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالبا.

ولكل أمة من هذه الامم مختصات بحسب اقتضاء المناطق والاوضاع : كما ان تمايز الطبقات في ايران ربما أوجب تميزا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك والحكومة أو نيل السلطنة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من ام أو بنت أو اخت أو غيرها.

وكما انه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعا من اشتراء نفسها ومملوكيتها ، وكانت هي ممنوعة من الارث ومن ان تشارك الرجال حتى ابنائها في التغذي ، وكان للرجال

٢٦٣

ان يتشارك اكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها ، والانتفاع من اعمالها ، ويلحق الاولاد بأقوى الازواج غالبا.

وكما ان النساء كانت بالهند من تبعات ازواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد توفي ازواجهن أبدا ، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات ، وهن في ايام الحيض انجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكل ما لامستها بالبشرة.

ويمكن ان يلخص شأنها في هذه الامم : انها كالبرزخ بين الحيوان والانسان يستفاد منها استفادة الانسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إلا ان يمد الانسان المتوسط في امور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه غير انها تحت الولاية والقيمومة دائما.

( وهيهنا امم أخرى )

كانت الامم المذكورة آنفا امما تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصة على اساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير ان تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرا لكن هناك أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب ، مثل الكلدة والروم واليونان.

اما الكلدة والاشور فقد حكم فيهم شرع حامورابي بتبعية المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الارادة والعمل ، حتى ان الزوجة لو لم تطع زوجها في شيء من امور المعاشرة أو استقل بشيء فيها كان له ان يخرجها من بيته ، أو يتزوج عليها ويعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضا ، ولو اخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان له ان يرفع امرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.

واما الروم فهي ايضا من اقدم الامم وضعا للقوانين المدنية ، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم اخذوا في تكميله تدريجا ، وهو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الاوامر المختصة به ، ولرب البيت وهو زوج المرأة وأبو اولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك اهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت ، وكان له الاختيار التام والمشية النافذة في جميع ما

٢٦٤

يريده ويأمر به على اهل البيت من زوجة واولاد حتى القتل لو رأى ان الصلاح فيه ، ولا يعارضه في ذلك معارض ، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والاخت أردء حالا من الرجال حتى الابناء التابعين محضا لرب البيت ، فإنهن لم يكن أجزاء للاجتماع المدني فلا تسمع لهن شكاية ، ولا ينفذ منهن معاملة ، ولا تصح منهن في الامور الاجتماعية مداخلة لكن الرجال اعني الاخوة والذكور من الاولاد حتى الادعياء ( فإن التبني والحاق الولد بغير أبيه كان معمولا شائعا عندهم وكذا في يونان وايران والعرب ) كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بامور الحياة مطلقا لانفسهم.

ولم يكن اجزاء اصيلة في البيت بل كان اهل البيت هم الرجال ، واما النساء فتبع ، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث ونحوها مختصه بما بين الرجال ، واما النساء فلا قرابة بينهن انفسهن كالام مع البنت أو الاخت مع الاخت ، ولا بينهن وبين الرجال كالزوجين أو الام مع الابن أو الاخت مع الاخ أو البنت مع الاب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية ، نعم القرابة الطبيعية ( وهي التي يوجبها الاتصال في الولادة ) كانت موجودة بينهم ، وربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم ، وولاية رئيس البيت وربه لها.

وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع ( المجتمع المدني والبيتي ) زمام حياتها وإرادتها بيد رب البيت من ابيها إن كانت في بيت الاب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما ، يفعل بها ربها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد ، فربما باعها ، وربما وهبها ، وربما اقرضها للتمتع ، وربما أعطاها في حق يراد استيفائه منه كدين وخراج ونحوهما ، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما ، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليها لابالارث لانها كانت محرومة منه ، وبيد ابيها أو واحد من سراة قومها تزويجها ، وبيد زوجها تطليقها.

واما اليونان فالامر عندهم في تكون البيوت وربوبية أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم.

فقد كان الاجتماع المدني وكذا الاجتماع البيتي عندهم متقوما بالرجال ، والنساء تبع لهم ، ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولافعل إلاتحت ولاية الرجال ، لكنهم

٢٦٥

جميعا ناقضوا انفسهم بحسب الحقيقة في ذلك ، فإن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال ولاتحكم لهن إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال ، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال ، ولاتثاب لحسناتها ولاتراعى جانبها إلا بالتبع وتحت ولاية الرجل.

وهذا بعينه من الشواهد الدالة على ان جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزء ضعيفا من المجتمع الانساني ذات شخصية تبعية ، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير ان للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل ، فيجب ان يعتني بشأنها ، وتذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت ، ويحتلب الرجال درها إذا احسنت أو نفعت ، ولا تترك على حيال إرادتها صونا من شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ اسيرا مسترقا يعيش طول حياته تحت القهر ، إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها وإن جاء بالحسنة لم يشكر لها.

وهذا الذي سمعته : ان الاجتماع كان متقوما عندهم بالرجال هو الذي الزمهم ان يعتقدوا ان الاولاد بالحقيقة هم الذكور ، وأن بقاء النسل ببقائهم ، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبني والالحاق بينهم ، فإن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوما بالخراب ، والنسل مكتوبا عليه الفناء والانقراض ، فاضطر هؤلاء إلى اتخاذ ابناء صونا عن الانقراض وموت الذكر ، فدعوا غير ابناءهم لاصلابهم أبنائا لانفسهم فكانوا ابنائا رسما يرثون ويورثون ويرتب عليهم آثار الابناء الصلبيين ، وكان الرجل منهم إذا زعم انه عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض اقاربه كأخيه وابن اخيه فأورده فراش اهله لتعلق منه فتلد ولدا يدعوه لنفسه ، ويقوم بقاء بيته.

وكان الامر في التزويج والتطليق في اليونان قريبا منهما في الروم ، وكان من الجائز عندهم تعدد الزوجات غير ان الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية والباقية غير رسمية.

( حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم)

محيط نزول القرآن

وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارة جدبة الارض

٢٦٦

والمعظم من امتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة والمدنية ، يعيشون بشن الغارات ، وهم متصلون بإيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشه والسودان من آخر.

ولذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش ، وربما وجد خلالها شيء من عادات الروم وإيران ، ومن عادات الهند ومصر القديم أحيانا.

كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالا في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إلا حرمة البيت وشرافته ، وكانت لا تورث النساء ، وكانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد بعدد معين كاليهود ، وكذا في الطلاق ، وكانت تئد البنات ، ابتدء بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر ، أسرت فيه عدة من بناتهم ، والقصة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به ، ثم سرت السجية في غيرهم ، وكانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل منهم بنت يعدها عارا لنفسه ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، لكن يسره الابن مهما كثر ولو بالدعاء والالحاق حتى انهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه ، وربما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.

وربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في امر الازدواج فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها ، فيشبه ذلك منهم دأب الاشراف بإيران الجاري على تمايز لطبقات.

وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة اهل المدينة من الروم وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق ، والشركة في الامور العامة الاجتماعية كالحكم والحرب وامر الازدواج إلا استثنائا ، ومن معاملة أهل التوحش والبربرية ، فلم يكن حرمانهن مستندا إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم ، بل من باب غلبة القوي واستخدامه للضعيف.

واما العبادة فكانوا يعبدون جميعا ( رجالا ونسائا ) اصناما يشبه امرها امر الاصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب وارباب الانواع ، وتتميز أصنامهم بحسب تميز القبائل وأهوائها المختلفة ، فيعبدون الكواكب والملائكة ( وهم بنات الله سبحانه بزعمهم ) ويتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم ، ومن اشياء مختلفة كالحجارة والخشب ، وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة انهم اتخذوا لهم

٢٦٧

صنما من الحيس فعبدوه دهرا طويلا ثم اصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم :

أكلت حنيفة ربها

زمن التقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم

سوء العواقب والتباعة

وربما عبدوا حجرا حتى إذا وجدوا حجرا أحسن منه طرحوا الاول وأخذوا بالثاني وإذا لم يجدوا شيئا جمعوا حفنة من تراب ثم جاؤا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها.

وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفا في الفكرة يصور لها أوهاما وخرافاه عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير والتاريخ.

فهذه جمل من احوال المرأة في المجتمع الانساني من ادواره المختلفة قبل الاسلام وزمن ظهوره ، آثرنا فيها الاختصار التام ، ويستنتج من جميع ذلك : اولا : انهم كانوا يرونها إنسانا في أفق الحيوان العجم ، أو إنسانا ضعيف الانسانية منحطا لا يؤمن شره وفساده لو أطلق من قيد التبعية واكتسب الحرية في حياته ، والنظر الاول أنسب لسيرة الامم الوحشية والثاني لغيرهم ، وثانيا : انهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي انها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه ، وإنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه ، أو انها كالاسير المسترق الذي هي من توابع المجتمع الغالب ، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين ، وثالثا : انهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها ، ورابعا : ان اساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف وبعبارة أخرى قريحة الاستخدام ، هذا في الامم غير المتمدنة ، واما الامم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في امرها : انها انسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها ، ولا يؤمن شرها ، وربما اختلط الامر اختلاطا باختلاف الامم والاجيال.

( ماذا أبدعه الاسلام في أمرها )

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك ، وتحبسها في سجن الذلة

٢٦٨

والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها ، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت ، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة ، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء ـ ومن العجب ذلك ـ ولا ترى أمة من الامم وحشيها ومدنيها إلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهو ان أمرها ، وفي لغاتهم على اختلاف اصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة ( المرأة ) يقرع بها الجبان ، ويؤنب بها الضعيف ، ويلام بها المخذول المستهان والمستذل المنظلم ، ويوجد من نحو قول القائل :

وما أدري وليت إخال ادري

أقوم آل حصن أم نساء

مئات وألوف من النظم والنثر في كل لغة.

وهذا في نفسه كاف في ان يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الانسانية في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الامم والملل في امرها ، فإن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أمة تتجلى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهم بأمرها إلا بعض ما في التوراة وما وصى به عيسى بن مريم عليهما‌السلام من لزوم التسهيل عليها والارفاق بها.

وأما الاسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمرا ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها ، وخالفهم جميعا في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من اول يوم وأعفت آثارها ، والغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقادا وما كانت تسير فيها سيرتها عملا.

اما هويتها : فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان وأن كل إنسان ذكرا أو أنثى فإنه انسان يشترك في مادته وعنصره إنسانان ذكر وانثى ولا فضل لاحد على أحد إلا بالتقوى ، قال تعالى : ( يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) الحجرات ـ ١٣ ، فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلفا من انسانين ذكر وأنثى هما معا وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده ، وهو سواء كان ذكرا أو انثى مجموع المادة المأخوذة منهما ، ولم يقل تعالى : مثل ما قاله القائل :

٢٦٩

وإنما أمهات الناس اوعية

ولا قال مثل ما قاله الآخر :

بنونا بنو ابنائنا وبناتنا

بنوهن ابناء الرجال الاباعد

بل جعل تعالى كلا مخلوقا مؤلفا من كل. فعاد الكل امثالا ، ولا بيان اتم ولا ، ابلغ من هذا البيان ، ثم جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى : ( إنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) آل عمران ـ ١٩٥ ، فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيع عند الله وعلل ذلك بقوله : بعضكم من بعض فعبر صريحا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وهو ان الرجل والمرأة جميعا من نوع واحد من غير فرق في الاصل والسنخ.

ثم بين بذلك ان عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه ، ولا يعدوه إلى غيره ، كل نفس بما كسبت رهينة ، لا كما كان يقوله الناس : إن عليهن سيئاتهن ، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن ، وسيجئ لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إلا بالتقوى ، ومن التقوى الاخلاق الفاضلة كالايمان بدرجاته ، والعلم النافع ، والعقل الرزين ، والخلق الحسن ، والصبر ، والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الايمان ، أو المليئة علما ، أو الرزينة عقلا ، أو الحسنة خلقا أكرم ذاتا وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام ، كان من كان ، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة.

وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) النحل ـ ٩٧ ، وقوله تعالى : ( ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) المؤمن ـ ٤٠ ، وقوله تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) النساء ـ ١٢٤.

٢٧٠

وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذم : ( وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) النحل ـ ٥٩ ، ولم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عارا على المولود له ، وعمدة ذلك انهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها ، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن ، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها ، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الاول فيه فيما مر ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال : ( وإذا الموئودة سئلت بأي ذنب قتلت ) التكوير ـ ٩.

وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم ، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون ، فتراهم يعدون الزنا عارا لازما على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر ، مع أن الاسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية ، والزاني والزانية سواء فيها.

واما وزنها الاجتماعي : فإن الاسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالارادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الارادة بما تحتاج إليه البنية الانسانية في الاكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء ، وقد قال تعالى : ( بعضكم من بعض ) آل عمران ـ ١٩٥ ، فلها ان تستقل بالارادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

فهما سواء فيما يراه الاسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الالهي : احديهما : أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الاحكام بمثل ما يختص به الحرث ، وتمتاز بذلك من الرجل. والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور ، ولذلك أيضا تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إليها.

فهذا وزنها الاجتماعي ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع ، واليه تنحل جميع الاحكام المشتركة بينهما وما يختص به احدهما في الاسلام ، قال تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن

٢٧١

واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ) النساء ـ ٣٢ ، يريد أن الاعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل ، وان من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الارث ، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها ، فلا ينبغي أن يتمناه متمن ، ومنه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائنا من كان كفضل الايمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، واسئلوا الله من فضله ، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده : الرجال قوامون ، على ما سيجئ بيانه.

واما الاحكام المشتركة والمختصة : فهي تشارك الرجل في جميع الاحكام العبادية والحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضى طباعها ذلك.

وعمدة هذه المورد : أنها لا تتولى الحكومة والقضاء ، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الامر كمداواة الجرحى مثلا ، ولها نصف سهم الرجل في الارث ، وعليها : الحجاب وستر مواضع الزينة ، وعليها : أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها ، وتدورك ما فاتها بأن نفتتها في الحياة على الرجل : الاب أو الزوج ، وان عليه ان يحمي عنها منتهى ما يستطيعه ، وأن لها حق تربية الولد وحضانته.

وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر ، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها ، وأنها لازمة الارفاق في جميع الاحوال.

والمتحصل من جميع ذلك : انها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باصول المعارف والعلم بالفروع الدينية ( أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع ) ، واما في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها ، وأما تنظيم الحياة ـ الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا ـ المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة ـ للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من

٢٧٢

ذلك ، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلها فضلا لها تتفاضل به ، وفخرا لها تتفاخر به ، وقد جوز الاسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن ، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه ، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفا من سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء فاطمة (ع) ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام ، ووصاياهم في أمر النساء.

ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الابحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.

واما الاساس الذي بنيت عليه هذه الاحكام والحقوق فهو الفطرة ، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحا فنقول :

لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالاخرة إلى الطبيعة ، فخصوصية البنية الطبيعية الانسانية هي التي هدت الانسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خاليا عنه في زمان ، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة ، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا ينتهي بالاخرة إلى الطبيعة وان اختلف القسمان من حيث ان الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة ، وقد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الالهي فبينه بأبدع البيان ، قال تعالى : ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) طه ـ ٥٠ ، وقال تعالى : ( الذي خلق فسوى والذي قدر

٢٧٣

فهدى ) الاعلى ـ ٣ ، وقال تعالى : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقويها ) الشمس ـ ٨ ، إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالاشياء ومن جملتها الانسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة ، والحياة القيمة بسعادة الانسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقا تاما ، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائا صحيحا ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) الروم ـ ٣٠ ،

والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الافراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير ان يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم ، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع ، فيتقلد الصبي مثلا على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الانسان العاقل المجرب ، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشؤون والدرجات ، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفسادا لحالهما معا.

بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية ، ان يعطى كل ذي حق حقه وينزل منزلته ، فالتساوي بين الافراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقا ، أو يهمل اويبطل حق بغيا أو تحكما ونحو ذلك ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة الآية ، كما مر بيانه ، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.

ثم إن اشتراك القبيلين اعني الرجال والنساء في اصول المواهب الوجودية اعني ، الفكر والارادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والارادة اعني الاختيار ، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع ، وقد اعطاها الاسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم ، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الارادة والعمل عن

٢٧٤

الرجال وولايتهم وقيمومتهم ، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها ، قال تعالى : ( فلا جناح عليكم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف الآية ) ، البقرة ـ ٢٣٤.

لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى ، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والاعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الاعضاء ، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب ، وأن الاحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة ، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.

ولذلك فرق الاسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الامرين أعني التعقل ، والاحساس فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة ، وخص مثل حضانة الاولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة ، وجعل نفقتها على الرجل ، وجبر ذلك له بالسهمين في الارث ( وهو في الحقيقة بمنزلة ان يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا وعينا وثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم ، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن. وسنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الارث إنشاء الله تعالى ) ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الاشارة إليها.

فان قلت : ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الاسلام يوجب انعطالها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها ، وكفاية مؤونتها بإيجاب الانفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الاعمال والاشغال فتنمو على ذلك نمائا رديا وتنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع ، وقد أيدت التجربة ذلك.

٢٧٥

قلت : وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الانسان نباتا حسنا أمر آخر ، والذي أصيب به الاسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الاولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الاحكام ، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعي : أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين ، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الاولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بامورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل ، فهذا معاوية ، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله : إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإنما كنت أقاتلكم لا تامر عليكم وقد فعلت ، وهذا غيره من الامويين والعباسيين فمن دونهم. ولو لا استضائة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.

( حرية المرأة في المدنية الغربية )

لا شك ان الاسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الاسارة ، وإعطائها الاستقلال في الارادة والعمل ، وأن امم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الاسلام ـ وان اساؤوا التقليد والمحاذاة ـ فإن سيرة الاسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة ، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الازمنة بعد ان اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.

والرأي العام عندهم تقريبا : أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجه عليه : أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل

٢٧٦

في الجملة ، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الاحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما ، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدم الاسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء ، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي آخر )

عمل النكاح من اصول الاعمال الاجتماعية ، والبشر منذ أول تكونه وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي ، وقد عرفت أن هذه الاعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتدائا أو بالاخرة.

وقد وضع الاسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة ـ وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاناث ـ لم يوضع هبائا باطلا ، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الانسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الاناث وكذا العكس ، وأن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك ، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلقة به تدور مدارها ، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع ، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدة والاولاد والارث ونحو ذلك.

وأما القوانين الاخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة ، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك ، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشئ مما تعرض له الاسلام من أحكام العفة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرع عليه من انواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة اصلا ، فإن غاية ما نجده

٢٧٧

في الانسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى امور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده ان يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع ، والاشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الاشغال ونحو من انحاء الاعمال متفرقة في الافراد يحصل من مجموعها مجموع الاشغال والاعمال.

وهذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه ، فبناء ـ الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الامر على هذا ، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الاحكام الاجتماعية بشيء اصلا إلا الاحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون ، وفي ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا وإبطال أحكام الانساب والمواريث كما التزمته الشيوعية ، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الانسان ، وسنزيده إيضاحا في محل يناسبه إنشاء الله ، هذا إجمال الكلام في النكاح ، واما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الاسلامية ، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه ، واما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز.

وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى ادخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن.

* * *

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ـ ٢٤٣.

٢٧٨

( بيان )

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت ، الرؤية ههنا بمعنى العلم ، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى : ألم تر ان الله خلق السموات والارض بالحق إبراهيم ـ ١٩ ، وقوله تعالى : ( ألم تر كيف خلق الله سبع سموات طباقا ) نوح ـ ١٥.

وقد ذكر الزمخشري ان لفظ ألم تر جري مجرى المثل ، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا : ألم تر كذا وكذا معناه الا تعجب لكذا وكذا ، وحذر الموت مفعول له ، ويمكن ان يكون مفعولا مطلقا والتقدير يحذرون الموت حذرا.

قوله تعالى : فقال لهم الله موتوا ثم احياهم ، الامر تكويني ولا ينافي كون موتهم واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات : ان ذلك كان بالطاعون ، وإنما عبر بالامر ، دون ان يقال : فاماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الامر ، فإن التعبير بالانشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالاخبار كما ان التعبير بصورة الاخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الانشاء ، ولا يخلو قوله تعالى : ثم أحياهم عن الدلالة على ان الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم ، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف ، على ان قوله تعالى بعد : إن الله لذو فضل على الناس ، يشعر بذلك ايضا.

قوله تعالى : ولكن اكثر الناس لا يشكرون ، الاظهار في موضع الاضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم ، على ان هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالاحياء طائفة خاصة ، وليس المراد كون الاكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الاكثر من جميع الناس ، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال ، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها.

وقد ذكر بعض المفسرين ان الآية مثل ضربه الله لحال الامة في تأخرها وموتها باستخزاء الاجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها ، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها.

٢٧٩

قال ما حاصله : ان الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل عليه اكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الاشارة إلى كونهم من بني إسرائيل ، وإلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع ان الآية خالية عن ذلك ، على ان التوراة ايضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا وآله و عليه‌السلام فليست الروايات إلا من الاسرائيليات التي دستها اليهود ، مع ان الموت والحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ) الدخان ـ ٥٦ ، وقوله تعالى : ( وأحييتنا اثنتين ) المؤمن ـ ١١ ، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا ، فالآية مسوقة سوق المثل ، والمراد بها قوم هجم عليهم اولوا القدرة والقوة من اعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم الوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل ، فإن الجهل والخمود موت كما ان العلم وإباء الضيم حياة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) الانفال ـ ٢٤ ، وقال تعالى : ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الانعام ـ ١٢٢.

وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكن الاعداء منهم ويبقون امواتا ، ثم أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق انفسهم واستقلوا في امرهم ، وهؤلاء الذين احياهم الله وإن كانوا بحسب الاشخاص غير الذين اماتهم الله الا ان الجميع امة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين ، وقد عد الله تعالى القوم واحدا مع اختلاف الاشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل : ( انجيناكم من آل فرعون ) الاعراف ـ ١٤١ ، وقوله تعالى : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) البقرة ـ ٥٦ ، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر ، انتهى ما ذكره ملخصا.

وهذا الكلام كما ترى مبني اولا : على انكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مر اثباتها ، على ان ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن انكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحته من طريق العقل.

٢٨٠