الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٤٨

وثانيا : على دعوى ان القرآن يدل على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدل بمثل قوله تعالى : ( لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى ) الدخان ـ ٥٦ ، وقوله تعالى : أحييتنا اثنتين ) المؤمن ـ ١١.

وفيه ان جميع الآيات الدالة على احياء الموتى كما في قصص ابراهيم وموسى وعيسى وعزير ، بحيث لا تدفع دلالتها ، يكفي في رد ما ذكره ، على ان الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد احسن الاستفادة من قصة عزير ، حيث لم يتنبه لموته الممتد ، والمراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة.

وثالثا : على ان الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم وتشخيص النبي الذي احياهم.

وانت تعلم ان مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة ، والكلام كما ربما يجري مجرى الاطناب كذلك يجري مجرى الايجاز ، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى : قتل اصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود البروج ـ ٧ ، وقوله تعالى : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) الاعراف ـ ١٨١.

ورابعا : على ان الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى ، وانت تعلم ان نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض الا ما كان منها ظاهر الارتباط ، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

فالحق ان الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة ، وليت شعري اي بلاغة في ان يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى اكثر الناظرين فيه الا انه قصة من قصص الماضين ، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة.

مع ان دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله : ( مثلهم كمثل الذي ) البقرة ـ ١٧ ، وقوله : ( انما مثل الحياة الدنيا ) يونس ـ ٢٤ ، وقوله : ( مثل الذين حملوا ) الجمعة ـ ٥ ، إلى غير ذلك.

٢٨١

( بحث روائي )

في الاحتجاج عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال عليه‌السلام : أحيى الله قوما خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون ، لا يحصى عددهم ، فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم ، وتقطعت أوصالهم ، وصاروا ترابا ، فبعث الله في وقت احب ان يرى خلقه نبيا يقال له : حزقيل ، فدعاهم فاجتمعت ابدانهم ، ورجعت فيها ارواحهم ، وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لايفتقدون في اعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا.

أقول : وروي هذا المعنى الكليني والعياشي بنحو ابسط ، وفي آخره : وفيهم نزلت هذه الآية.

* * *

وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ ٢٤٤. مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ـ ٢٤٥. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ـ ٢٤٦ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ـ ٢٤٧. وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ

٢٨٢

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ـ ٢٤٨. فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ـ ٢٤٩. وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ـ ٢٥٠. فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ـ ٢٥١. تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ـ ٢٥٢.

( بيان )

الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال ، والترغيب في القرض الحسن ، والمعنى المحصل من قصة طالوت وداود وجالوت يعطي ان هذه الآيات نزلت دفعة واحدة ، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة ، والروح الذي به تقدم الامة في حياتهم الدينية ، والدنيوية ، وسعادتهم الحقيقية ، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد ، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدة والقوة ، وسماه إقراضا لله لكونه في سبيله ، مع ما فيه من كمال الاسترسال والايذان بالقرب ، ثم يقص قصة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا ان الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما ، والخزى والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما ، فإن بني إسرائيل ، وهم اصحاب القصة ، كانوا

٢٨٣

أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني ، فلما قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحق وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم ، وتولى اكثرهم عند إنجاز القتال أو لا ، وبالاعتراض على طالوت ثانيا ، وبالشرب من النهر ثالثا ، وبقولهم : لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعا ، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقر الملك فيهم ، وعادت الحياة إليهم ، ورجع إليهم سؤددهم وقوتهم ، ولم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده ، وهي قولهم : ربنا افرغ علينا صبرا وانصرنا على القوم الكافرين ، فكذلك ينبغي للمؤمنين ان يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين ، فهم الاعلون إن كانوا مؤمنين.

قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الآية ، فرض وأيجاب للجهاد ، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم ولا يستقر في الخيال ان هذه الوظيفة الدينية المهمة لايجاد السلطة الدنيوية الجافة ، وتوسعة المملكة الصورية ، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الاسلامي من الاجتماعيين وغيرهم ، بل هو التوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم.

وفي قوله تعالى : واعلموا ان الله سميع عليم ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير ان لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشيء ، ولا يضمروا نفاقا كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في امر طالوت فقالوا : أنى يكون له الملك علينا الخ ، وحيث قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، وحيث فشلوا وتولوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله اضعافا كثيرة ، القرض معروف وقد عد الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر انه للترغيب ، ولانه إنفاق في سبيله ، ولانه مما سيرد إليهم اضعافا مضاعفة.

وقد غير سياق الخطاب من الامر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله : وقاتلوا في سبيل الله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ، ولم يقل : قاتلوا في سبيل الله واقرضوا ، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الامر غير الخالي من كلفة

٢٨٤

التكليف إلى حيز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.

قوله تعالى : والله يقبض ويبصط واليه ترجعون ، القبض الاخذ بالشئ اليك ويقابله البسط ، والبصط هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء.

وايراد صفاته الثلاث أعني : كونه قابضا وباسطا ومرجعا يرجعون إليه للاشعار بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا ولا يستبعد تضعيفه اضعافا كثيرة فإن الله هو القابض الباسط ، ينقص ما شاء ، ويزيد ما شاء ، واليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

قوله تعالى : ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إلى قوله : في سبيل الله ، الملا كما قيل : الجماعة من الناس على رأى واحد ، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة وأبهة.

وقولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، على ما يعطيه السياق يدل على ان الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم ، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلة من الديار والاولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون ، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه ، وبلغ من اشتداد الامر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة ، وعاد إلى انفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيهم ان يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير ، ويقاتلوا تحت امره في سبيل الله.

قوله تعالى : قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا ، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيهم ان يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي بل الامر في ذلك إلى الله سبحانه ، ولذلك ارجع نبيهم الامر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى ، ولم يصرح باسمه تعظيما لان الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى ان الامر منه واليه تعالى بقوله : إن كتب ، والكتابة وهي الفرض انما تكون من الله تعالى.

وقد كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام

٢٨٥

ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم : ومالنا ان لا نقاتل في سبيل الله.

قوله تعالى : قالوا : وما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا ، الاخراج من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه ، ومنعهم عن التصرف فيها والتمتع بها ، كني به عن مطلق التصرف والتمتع ، ولذلك نسب الاخراج إلى الابناء أيضا كما نسب إلى البلاد.

قوله تعالى : فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ، تفريع على قول نبيهم : هل عسيتم الخ ، وقولهم : وما لنا ان لا نقاتل ، وفي قوله تعالى : والله عليم بالظالمين ، دلالة على ان قول نبيهم لهم : هل عسيتم ان كتب عليكم القتال الا تقاتلوا ، انما كان لوحى من الله سبحانه : انهم سيتولون عن القتال.

قوله تعالى : وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث إلى قوله : من المال في جوابه عليه‌السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا : اسأل الله ان يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.

وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك ، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى يكون له الملك علينا ونحن احق بالملك منه ، ومن المعلوم ان قولهم هذا لنبيهم ، ولم يستدلوا على كونهم احق بالملك منه بشيء يدل على ان دليله كان أمرا بينا لا يحتاج إلى الذكر ، وليس إلا ان بيت النبوة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت ، وبعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولامن بيت النبوة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا ، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوة معا ، أحق بالملك منه لان الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا ، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفى البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا : يد الله مغلولة غلت أيديهم ، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله : إن الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم ، والصفة الثانية ما

٢٨٦

في قولهم : ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيرا ، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله : وزاده بسطة في العلم والجسم الخ.

قوله تعالى : قال : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو ، والبسطة هي السعة والقدرة ، وهذان جوابان عن اعتراضهم.

أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم ، فجوابه : ان هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان احق بالملك منهم ، وكان الشرف والتقدم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم ، فإنما الفضل يتبع تفضيله تعالى.

واما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال ، فجوابه : ان الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغر الوحيد منه أن يتلائم الارادات المتفرقة من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحد الازمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذالك فرد من غير حق ، ولا يتأخر فرد من غير حق.

وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به ، ويدفع كل ما يمانع ذللك ، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران : أحدهما : العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها ، وثانيهما : القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة ، وهما اللذان يشير اليهما قوله تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم ، وأما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل.

ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى : والله يؤت ملكه من يشاء ، وهو أن الملك لله وحده ليس لاحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الاضافة في قوله تعالى ، يؤتي ملكه ، وإذا كان كذالك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد ، ليس لاحد أن يقول : لماذا أو بماذا ( أي ان يسئل عن علة التصرف لان الله تعالى هو السبب المطلق ، ولا عن متمم العلية واداة الفعل لان الله تعالى تام لا يحتاج لامتمم ) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت

٢٨٧

إلى بيت ، أو تقليده احدا ليس له اسبابه الظاهرة من الجمع والمال.

والايتاء والافاضة الالهية وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافا خالية عن الحكم والمصالح ، فإن المقصود من قولنا : إنه تعالى يفعل ميشاء ، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافا ولا محذور لان الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا ، فإن هذا مما يبطله الظواهر الدينية والبراهين العقلية.

بل المقصود بذلك : ان الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الاشياء مخلوقه له تعالى ، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها ، كما أننا في أفعالنا كذلك ، فإذا فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا ولا يفعل إلا الجميل ، ولا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم ولامقهور للمصلحة.

ومن هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه ، اعني اجتماع قوله تعالى : والله يؤتي ملكه من يشاء ، مع قوله تعالى : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، فإن الحجة الاولى مشتملة على التعليل بالمصالح والاسباب ، والحجة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء ، ولو لا ان اطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون افعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.

وقد اوضح هذا المعنى احسن الايضاح تذئيل الآية بقوله تعالى : والله واسع عليم فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل وإيتاء اصلا والعليم يدل على ان فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء ولا يفعل إلا فعلا ذا مصلحة.

والوسعة والسعة في الاصل حال في الجسم به يقبل اشياء أخر من حيث التمكن كسعة الاناء لما يصب فيه ، والصندوق لما يوضع فيه ، والدار لمن يحل فيها ثم استعير للغنى ولكن لا كل غنى ومن كل جهة ، بل من جهة إمكان البذل معه كأن المال يسع

٢٨٨

بذل ما اريد بذله ، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه ، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما اراد بذله بل يقدر على ذلك.

قوله تعالى : وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ، التابوت هو الصندوق ، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لان الانسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع.

( كلام في معنى السكينة )

والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الانسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الانسان الحكيم ( من الحكمة باصطلاح فن الاخلاق ) صاحب العزيمة في أفعاله ، والله سبحانه جعلها من خواص الايمان في مرتبة كماله ، وعدها من مواهبه السامية.

بيان ذلك : ان الانسان بغريزته الفطرية يصدر افعاله عن التعقل ، وهو تنظيم مقدمات عقلية مشتملة على مصالح الافعال ، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه ، ثم استنتاج ما ينبغي ان يفعله وما ينبغي أن يتركه.

وهذا العمل الفكري إذا جرى الانسان على اسلوب فطرته ولم يقصد إلا ما ينفعه نفعا حقيقيا في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل ، وأما إذا أخلد الانسان في حياته إلى الارض واتبع الهوى اختلط عليه الامر ، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في افكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة ، وتردده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الامور وهزاهزها أخرى.

والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرك وركن لا ينهدم. بانيا اموره على معارف حقة لاتقبل الشك والريب ، مقدما في أعماله عن تكليف الهي لا يرتاب فيها ، ليس إليه من الامر شيء حتى يخاف فوته ، أو يحزن لفقده ، أو يضطرب في تشخيص خيره من شره.

٢٨٩

وأما غير المؤمن فلا ولي له يتولى امره ، بل خيره وشره يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الافكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى والخيال والاحساسات المشؤومة ، قال تعالى : ( والله ولي المؤمنين ) آل عمران ـ ٦٨ ، وقال تعالى : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم ) محمد ـ ١١ ، وقال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) البقرة ـ ٢٥٧ ، وقال تعالى : ( انا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) الاعراف ـ ٢٧ ، وقال تعالى : ( ذلكم الشيطان يخوف أوليائه ) آل عمران ـ ١٧٥ ، وقال تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة ) البقرة ـ ٢٦٨ ، وقال تعالى : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ـ إلى أن قال ـ وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ) النساء ـ ١٢٢ ، وقال تعالى : ( ألا إن اولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون ) يونس ـ ٦٢ ، والآيات كما ترى تضع كل خوف وحزن واضطراب وغرور في جانب الكفر ، وما يقابلها من الصفات في جانب الايمان.

وقد بين الامر أوضح من ذلك بقوله تعالى : ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الانعام ـ ١٢٢ ، فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعا في الظلمات لا يبصر شيئا ، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه ، ويدرك به خيره وشره ، وذلك لان الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر ، وتلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به ، وفي معناه قوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم ) الحديد ـ ٢٨.

ثم قال تعالى : ( لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو ابناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ) المجادلة ـ ٢٢ ، فأفاد ان هذه الحياة إنما هي بروح منه ، وتلازم لزوم الايمان واستقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع استقرار الايمان في قلوبهم ، والحياة الجديدة في قوالبهم ، والنور المضئ قدامهم.

٢٩٠

وهذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما ) الفتح ـ ٤ ، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة وازدياد الايمان على الايمان في هذه على كتابة الايمان في تلك ، ويؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية : ولله جنود السموات والارض ، فإن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة والروح.

ويقرب من هذه الآية سياقا قوله تعالى : ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ) الفتح ـ ٢٦ ، وكذا قوله تعالى : ( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) التوبة ـ ٤٠.

وقد ظهر مما مر انه يمكن ان يستفاد من كلامه تعالى ان السكينة روح إلهي أو تستلزم روحا إلهيا من امر الله تعالى يوجب سكينة القلب واستقرار النفس وربط الجأش ، ومن المعلوم ان ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر واستعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب وعدم اضطرابه في الروح الالهي ، وبهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.

قوله تعالى : وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة الخ آل الرجل خاصته من اهله ويدخل فيهم نفسه إذا اطلق ، فآل موسى وآل هرون هم موسى وهرون وخاصتهما من اهلهما ، وقوله : تحمله الملائكة ، حال عن التابوت ، وفي قوله تعالى : ان في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين ، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبر به : ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا.

قوله تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود قال ان الله مبتليكم بنهر إلى قوله منهم ، الفصل ههنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى : ( فلما فصلت العير ) يوسف ـ ٩٤ ، وربما استعمل بمعنى القطع وهو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى : ( وهو خير الفاصلين ) الانعام ـ ٥٧ ، فالكلمة ممايتعدى ولا يتعدى.

والجند المجتمع الغليظ من كل شيء وسمي العسكر جندا لتراكم الاشخاص فيه وغلظتهم ، وفي جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به

٢٩١

وخاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر وتفرق الناس ، ونظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود.

وفي مجموع الكلام إشارة إلى حق الامر في شأن بني إسرائيل وإيفائهم بميثاق الله ، فإنهم سألوا بعث الملك جميعا وشدوا الميثاق ، وقد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إلا قليلا منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنودا ، وهذه الجنود أيضا لم تغن عنهم شيئا بل تخلفوا بشرب النهر ولم يبق إلا القليل من القليل مع شائبة فشل ونفاق بينهم من جهة المغترفين ، ومع ذلك كان النصر للذين آمنوا وصبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.

والابتلاء الامتحان ، والنهر مجرى الماء الفائض ، والاغتراف والغرف رفع الشئ وتناوله ، يقال : غرف الماء غرفة واغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله ويشربه.

وفي استثناء قوله تعالى : إلا من اغترف غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة ، وقد كان الظاهر أن يقال : فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم ومعناه الذوق أوجب تحولا في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت ، والشرب يوجب انقطاع جمع منه والاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال وأما لو اضيفت الجملة الثانية ، أعني قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني إلى الجملة الاولى كان مفاد الكلام أن الامر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إلا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم ، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين ويشخصهما فيعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر ، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه ، وإذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء الا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لان ذلك انما كان مفادا لو كان المذكور هناك الجملة الاولى فقط ، واما مع وجود الجملتين فيتعين الطائفتان : اعني الذين ليسوا منه وهم الشاربون ، والذين هم منه وهم غير الطاعمين ، ومن المعلوم ان الاخراج من الطائفة الاولى إنما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية ، ولازم ذلك ان الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف : الذين ليسوا منه ،

٢٩٢

والذين هم منه ، والمغترفون ، وعلى هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان : الذين هم منه ، والذين ليسوا من الخارجين ، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر والجزع والاعتماد بالله والقلق والاضطراب.

قوله تعالى : فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه إلى آخر الآية ، الفئة القطعة من الناس ، والتدبر في الآيات يعطي ان يكون القائلون : لا طاقة لنا ، هم المغترفون ، والمجيبون لهم هم الذين لم يطعموه اصلا ، والظن بلقاء الله إما بمعنى اليقين به واما كناية عن الخشوع.

ولم يقولوا : يمكن ان تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله ، بل قالوا : كم من فئة الخ ، أخذا بالواقع في الاحتجاج بإرائة المصداق ليكون أقنع للخصم.

قوله تعالى : ولما برزوا لجالوت وجنوده الخ البروز هو الظهور ، ومنه البراز وهو الظهور للحرب ، والافراغ صب نحو المادة السيالة في القالب والمراد افاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة ، وكذا تثبيت الاقدام كناية عن الثبات وعدم الفرار.

قوله تعالى : فهزموهم بإذن الله الخ ، الهزم الدفع.

قوله تعالى : ولو لادفع الله الناس بعضهم ببعض إلى آخر الآية ، من المعلوم أن المراد بفساد الارض فساد من على الارض اي فساد الاجتماع الانساني ولو استتبع فساد الاجتماع فسادا في أديم الارض فإنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات ، وهذه حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن.

بيان ذلك : أن سعادة هذه النوع لا تتم الابالاجتماع والتعاون. ومن المعلوم أن هذا الامر لايتم إلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع وأجزائه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل وينفعل عن نفس واحدة وبدن واحد ، والوحدة الاجتماعية ومركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون ومركبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود ، ومن المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنما هي نتيجة التأثير والتأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الاسباب التكوينية وغلبة بعضها على بعض واندفاع بعضها الآخر عنه ومغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها

٢٩٣

ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له ، وعند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.

كذلك نظام الاجتماع الانساني لو لم يقم على أساس التأثير والتأثر ، والدفع والغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض ، ولم يتحقق حينئذ نظام وبطلت سعادة النوع ، فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى ، وهو الغلبة وتحميل الارادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر ( سواء منافعه المشروعة أو غيرها ) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه ويلائمها وهكذا ، وبذلك تنقطع الوحدة من بين الاجزاء وبطل الاجتماع ، وهذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر : أن الاصل الاول الفطري للانسان المكون للاجتماع هو الاستخدام ، وأما التعاون والمدنية فمتفرع عليه وأصل ثانوي ، وقد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة ) البقرة ـ ٢١٣.

وفي الحقيقة معنى الدفع والغلبة معنى عام سار في جميع شئون الاجتماع الانساني وحقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الانسان ، ودفعه عما يزاحمه ويمانعه عليه ، وهذا معنى عام موجود في الحرب والسلم معا ، وفي الشدة والرخاء ، والراحة والعناء جميعا ، وبين جميع الافراد في جميع شعوب الاجتماع ، نعم إنما يتنبه الانسان له عند ظهور المخالفة ومزاحمة بعض الافراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات والميول ونحوها ، فيشرع الانسان في دفع الانسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه ومعلوم أن هذا على مراتب ضعيفة وشديدة ، والقتال والحرب إحدى مراتبه.

وأنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع والغلبة من الاصول الفطرية عند الانسان أصل فطري أعم من ان يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك ، إذ لو لم يكن في فطرة الانسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه ، لادفاع مشروع على الحق لا غيره ، فإن أعمال الانسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه سابقا فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن والكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.

وهذا الاصل الفطري ينتفع به الانسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان ، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره وتمالك ما بيده تغلبا وبغيا ، وينتفع به

٢٩٤

في دفعه واسترداد ما تملكه تغلبا وبغيا ، وينتفع به في إحياء الحق بعد موته جهلا بين الناس وتحميل سعادتهم عليهم ، فهو أصل فطري ينتفع به الانسان أكثر مما يستضر به.

وهذا الذي ذكرناه لعله هو المراد بقوله تعالى : ولو لادفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ، ويؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى : ولكن الله ذو فضل على العالمين.

وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أن المورد أيضا كذلك ، وربما أيده أيضا قوله تعالى : ( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله ) الحج ـ ٤٠.

وفيه : أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الارض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة كقصة طالوت وقصص أخرى يسيرة معدودة.

وربما ذكر آخرون : أن المراد بها دفع الله العذاب والهلاك عن الفاجر بسبب البر ، وقد وردت فيه من طرق العامة والخاصة روايات كما في المجمع والدر المنثور عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده واهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ، وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا ، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا ، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا الحديث ، ومثلهما غيرهما.

وفيه : أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إلا أن تنطبق عليهما من جهة أن موردهما أيضا من مصاديق دفع الناس.

وربما ذكر بعضهم : ان المراد دفع الله الظالمين بالظالمين ، وهو كما ترى.

قوله تعالى : تلك آيات الله الخ كالخاتمة يختم بها الكلام والقصة غير أن آخر الآية : وإنك لمن المرسلين ، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.

٢٩٥

( بحث روائي )

في الدر المنثور : أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن اسلم ، قال : لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية ، جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا نبي الله ، ألا ارى ربنا يستقرضنا مما اعطانا لانفسنا وإن لي أرضين : إحديهما بالعالية والاخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كم من عذق مدلل لابي الدحداح في الجنة.

اقول : والرواية مروية بطرق كثيرة.

وفي المعاني عن الصادق عليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية : من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم زدني فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم زدني فأنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة ، فعلم رسول الله أن الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى.

اقول : وروى الطبرسي في المجمع والعياشي في تفسيره نظيره وروي قريب منه من طرق أهل السنة ايضا ، قوله عليه‌السلام : فعلم رسول الله ، يؤمي إليه آخر الآية : والله يقبض ويبصط ، إذ لاحد يحد عطائه تعالى ، وقد قال : ( وما كان عطاء ربك محظورا ) الاسراء ـ ٢٠.

وفي تفسير العياشي عن أبي الحسن عليه‌السلام في الآية ، قال : هي صلة الامام.

اقول : وروى مثله في الكافي عن الصادق عليه‌السلام وهو من باب عد المصداق.

وفي المجمع في قوله تعالى :إذ قالوا لنبي لهم الاية هو أشموئيل ، وهو بالعربية إسماعيل.

اقول : وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا : وشموئيل هو الذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل.

وفي تفسير القمي عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هرون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام : أن بني إسرائيل بعد موت موسى

٢٩٦

عملوا بالمعاصي ، وغيروا دين الله ، وعتوا عن أمر ربهم ، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهيهم فلم يطيعوه ، وروي أنه أرميا النبي على نبينا وآله و عليه‌السلام فسلط الله عليهم جالوت وهو من القبط ، فأذلهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارههم وأموالهم ، واستعبد نسائهم ، ففزعوا إلى نبيهم ، وقالوا : سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت ، والملك والسلطان في بيت آخر ، ولم يجمع الله النبوة والملك في بيت واحد ، فمن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، فقال لهم نبيهم : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، فكان كما قال الله : فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ، فقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، فغضبوا من ذلك وقالوا : أني يكون له الملك علينا؟ ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ، وكانت النبوة في بيت لاوي ، والملك في بيت يوسف ، وكان طالوت من ولد ابنيامين أخي يوسف لامه وأبيه ، ولم يكن من بيت النبوة ولامن بيت المملكة فقال لهم نبيهم : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ، وكان أعظمهم جسما وكان قويا وكان أعلمهم ، إلا أنه كان فقيرا فعابوه بالفقر ، فقالوا لم يؤت سعة من المال ، فقال لهم نبيهم : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة ، وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه امه وألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به ، فلما حضرموسى الوفاة وضع فيه الالواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة ، واودعه عند يوشع وصيه ، ولم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به ، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنوا إسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم ، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكا فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة ، قال : البقية ذرية الانبياء.

اقول : قوله : وروي أنه أرميا النبي ، رواية معترضة في رواية ، قوله عليه‌السلام : فكان كما قال الله الخ اي تولى الكثيرون ولم يبق على تسليم حكم القتال إلا قليل

٢٩٧

منهم ، وفي بعض الاخبار أن هذا القليل كانوا ستين الفا ، روى ذلك القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه‌السلام ، ورواه العياشي عن الباقر عليه‌السلام. وقوله : وكانت النبوة في بيت لاوى ، والملك في بيت يوسف ، وقد قيل : إن الملك كان في بيت يهوذا وقد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت وداود وسليمان حتى يكون في بيت يهوذا ، وهذا يؤيد ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت ان الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكا مما لا ينكر.

وقوله : قال والبقية ذرية الانبياء ، وهم من الراوي ، وإنما فسر عليه‌السلام بقوله : ذرية الانبياء قوله : آل موسى وآل عمران ، ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام : انه سئل عن قول الله : وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة ، فقال : ذرية الانبياء.

وفي الكافي عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن احمد ، عن محمد بن خالد ، والحسين بن سعيد ، عن النصر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن هرون بن خارجة ، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : وقال الله : إن الله مبتليكم بنهر ـ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني فشربوا منه إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، منهم من اغترف ، ومنهم من لم يشرب ، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، وقال الذين لم يغترفوا : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.

اقول : واما كون الباقين مع طالوت ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا بعدد اهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة والعامة ، واماكون القائلين : لا طاقة لنا ، هم المغترفين ، وكون القائلين كم من فئة الخ ، هم الذين لم يشربوا أصلا فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه : من معنى الاستثناء.

وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن ايوب عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : إن آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال : كانت تحمله في صورة البقرة.

واعلم ان الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك

٢٩٨

لان إسقاط الاسانيد فيه إنما هو لمكان موافقه القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث ، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة ولا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الاسناد ، ونحن مع ذلك نختار للايراد روايات صحيحة الاسناد أو مؤيده بالقرائن.

وفي تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : كان داود وإخوة له أربعة ، ومعهم أبوهم شيخ كبير ، وتخلف داود في غنم لابيه ، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود وهو أصغرهم ، فقال : يا بني اذهب إلى اخوتك بهذا الذي صنعناه لهم يتقووا به على عدوهم وكان رجلا قصيرا ارزق قليل الشعر طاهر القلب ، فخرج وقد ، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير ، قال سمعته يقول : فمر داود على حجر فقال الحجر : يا داود خذني واقتل بي جالوت فإني إنما خلقت لقتله ، فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي يرمي بها عن غنمه بمقذافه ، فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت ، فقال لهم داود ما تعظمون من أمره فو الله لئن عاينته لاقتلنه فحدثوا بخبره حتى أدخل على طالوت ، فقال يا فتى وما عندك من القوة؟ وما جربت من نفسك؟ قال : كان الاسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفك لحييه منها فاخذها من فيه قال : فقال : ادع لي بدرع سابغة فاتي بدرع فقذفها في عنقه فتملا منها حتى راع طالوت ومن حضره من بني إسرائيل ، فقال طالوت : والله لعسى الله أن يقتله به ، قال : فلما أن اصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس قال داود : أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين عينيه فدمغه ونكس عن دابته ، وقال الناس : قتل داود جالوت ، وملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر ، واجتمعت بنو إسرائيل على داود ، وأنزل الله عليه الزبور ، وعلمه صنعة الحديد فلينه له ، وأمر الجبال والطير يسبحن معه ، قال : ولم يعط أحد مثل صوته ، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا ، وأعطى قود في عبادته.

اقول : المقذاف المقلاع الذي يكون للرعاة يرمون به الاحجار ، وقد اتفقت ألسنة الاخبار من طرق الفريقين أن داود قتل جالوت بالحجر.

في المجمع ، قال : إن السكينة التي كانت فيه ريح هفانة من الجنة لها وجه كوجه الانسان عن علي عليه‌السلام.

٢٩٩

أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن علي عليه‌السلام وكذا عن عبد الرزاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم ، وصححه وابن عساكر والبيهقي في الدلائل من طريق أبي الاحوص عن علي عليه‌السلام مثله.

وفي تفسير القمي عن أبيه عن علي بن الحسين بن خالد عن الرضا عليه اسلام : السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الانسان.

أقول : وروى هذا المعنى أيضا الصدوق في المعاني والعياشي في تفسيره عن الرضا عليه‌السلام ، وهذه الاخبار الواردة في معنى السكينة وإن كانت آحادا إلا أنها قابلة التوجيه والتقريب إلى معنى الآية ، فإن المراد بها على تقدير صحتها : ان السكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إلى أمر الله ، وأمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الائمة ، فينطبق حينئذ على روح الايمان ، وقد عرفت في البيان السابق ان السكينة منطبقة على روح الايمان.

وعلى هذا المعنى ينبغي ان يحمل ما في المعاني عن ابي الحسن عليه‌السلام في السكينة ، قال عليه‌السلام : روح الله يتكلم ، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمهم وأخبرهم ، الحديث فإنما هو روح الايمان يهدي المؤمن إلى الحق المختلف فيه.

( بحث علمي واجتماعي )

ذكر علماء الطبيعة ان التجارب العلمي ينتج ان هذه الموجود ات الطبيعية المجبولة على حفظ وجودها وبقائها ، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الافعال ينازع بعضها البعض في البقاء ، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثر المتقابل من الغير وبالعكس كانت الغلبة للاقوى منهما والاكمل وجودا ، ويستنتج من ذلك ان الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الافراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحد للبقاء ، ويفنى سائر الافراد وينقرض تدريجا ، فهناك قاعدتان طبيعيتان : إحداهما : تنازع البقاء ، والثانية : الانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل.

٣٠٠