الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٤٨

وفي الدر المنثور أيضا عن يحيى : أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا : يارسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله : ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام : العفو الوسط.

وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق عليه‌السلام : الكفاف. وفي رواية أبي بصير : القصد.

وفيه أيضا عن الصادق عليه‌السلام : في الآية : الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، قال : هذه بعد هذه ، هي الوسط.

وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : العفو ما فضل عن قوت السنة.

اقول : والروايات متوافقة ، والاخيرة من قبيل بيان المصداق.

والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الاحصاء ، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى : عن الصادق عليه‌السلام قال : إنه لما نزلت : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ) : ( ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) ، أخرج كل من كان عنده يتيم ، وسالوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله : يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ( وإن الذين يأكلون أموال اليتامى ) الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

اقول : وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.

٢٠١

* * *

وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ـ ٢٢١.

( بيان )

قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، قال الراغب في المفردات : أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع ، ومحال ان يكون في الاصل للجماع ثم استعير للعقد لان أسماء الجماع ، كلها كنايات ، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه ، انتهى ، وهو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود.

والمشركات اسم فاعل من الاشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه ، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان ، فالقول بتعدد الاله واتخاذ الاصنام والشفعاء شرك ظاهر وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة ـ وخاصة ـ إنهم قالوا : عزير ابن الله أو المسيح ابن الله ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحبائه وهو شرك ، وأخفى منه القول باستقلال الاسباب والركون إليها وهو شرك ، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله عزت ساحته ، فكل ذلك من الشرك ، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به ، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا ، قال تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ( إلى أن قال ) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين آل ) عمران ـ ٩٧ ، وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة ، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافر بالحج ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين ، وكالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل

٢٠٢

الافعال المشاركة لها في مادتها ، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم ، ولاسناد الفعل حكم آخر.

على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الاطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) البينة ـ ١ ، وقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) التوبة ـ ٢٨ ، وقوله تعالى : ( كيف يكون للمشركين عهد ) التوبة ـ ٧ ، وقوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة ) التوبة ـ ٣٦ ، وقوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) التوبة ـ ٥ إلى غير ذلك من الموارد.

وأما قوله تعالى : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) البقرة ـ ١٣٥ ، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى : ( ماكان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) آل عمران ـ ٦٧ ، ففي إثبات الحنف له عليه‌السلام تعريض لاهل الكتاب ، وتبرئه لساحة إبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى معنوية النصارى محضا بل هو عليه‌السلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا المشركين عبدة الاوثان.

وكذا قوله تعالى : ( وما يؤمن أكثر هم بالله إلا وهم مشركون ) يوسف ـ ١٠٦ ، وقوله تعالى : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) فصلت ـ ٧ ، وقوله تعالى : ( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) النحل ـ ١٠٠ ، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن ، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين ، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الاولياء المقربون من صالحي عباد الله.

فقد ظهر من هذا البيان على طوله : ان ظاهر الآية أعني قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات ، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب.

ومن هنا يظهر : فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى :

٢٠٣

( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية ) المائدة ـ ٦.

أو أن الآية أعني قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات ، وآية الممتحنة اعني قوله تعالى : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) الممتحنة ـ ١٠ ، ناسختان لآية المائدة ، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة.

وجه الفساد : ان هذه الاية اعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها ، وكذا آية الممتحنة وإن اخذ فيها عنوان الكوافر وهو اعم من المشركات ويشمل اهل الكتاب ، فإن الظاهر ان اطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) البقرة ـ ٩٨ إلا أن ظاهر الاية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الامساك بعصمتها أي إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها ، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.

ولو سلم دلالة الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتدائا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة ، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف ، على ما يعطيه التدبر في سياقها ، فهي ابية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة ، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.

على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة ، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.

قوله تعالى : ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم ، الظاهر أن المراد بالامة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الاماء ويعيرون من

٢٠٤

تزوج بهن ، فتقييد الامة بكونها مؤمنة ، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الاماء واستذلالهن ، والتحرز عن التزوج بهن يدل على ان المراد أن المؤمنة وان كانت أمة خير من المشركة وان كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب الانسان بحسب العادة.

وقيل : ان المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية امة الله وعبده ، وهو بعيد.

قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن الخ ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

قوله تعالى : اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى والمغفرة والجنة بإذنه ، اشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم ، وهو ان المشركين لاعتقادهم بالباطل ، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق ، والمعمية عن أبصار طريق الحق والحقيقة ، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك ، والدلالة إلى البوار ، والسلوك بالاخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار ، والمؤمنون ـ بخلافهم ـ بسلوكهم سبيل الايمان ، وتلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنة والمغفرة باذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الايمان ، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدي إلى الجنة والمغفرة.

وكان حق الكلام أن يقال : وهؤلاء يدعون إلى الجنة الخ ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على ان المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجودية إلى ربهم ، لا يستقلون في شيء من الامور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه : ( والله ولي المؤمنين ) آل عمران ـ ٦٨.

وفي الآية وجه آخر : وهو ان يكون المراد بالدعوة إلى الجنة والمغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن الخ ، فان جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والانس به الا البعد من الله سبحانه ، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة امره ونهيه دعوة من الله إلى الجنة ، ويؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى : ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ، ويمكن ان يراد

٢٠٥

بالدعوة الاعم من الوجهين ، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

( بحث روائي )

في المجمع في الآية : نزلت في مرئد بن ابى مرئد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان قويا شجاعا ، فدعته امرأة يقال لها : عناق إلى نفسها فابى وكانت بينهما خلة في الجاهلية ، فقالت : هل لك ان تتزوج بي؟ فقال : حتى استاذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما رجع استاذن في التزوج بها.

اقول : وروي هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس.

وفي الدر المنثور اخرج الواحدي من طريق السدي عن ابى مالك عن ابن عباس في هذه الآية : ولامة مؤمنة خير من مشركة ، قال : نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له امة سوداء وانه غضب عليها فلطمها ثم انه فزع فاتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبره خبرها ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماهي يا عبد الله؟ قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد ان لا إله إلا الله وانك رسوله فقال يا عبد الله ، هذه مؤمنة فقال عبد الله : فو الذي بعثك بالحق لاعتقها ولاتزوجها ، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح امة ، وكانوا يريدون ان ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في احسابهم فانزل الله فيهم : ولامة مؤمنة خير من مشركة

وفيه ايضا عن مقاتل في الآية ولآمة مؤمنة ، قال بلغنا انها كانت أمة لحذيفة فاعتقها وتزوجها حذيفة.

اقول : لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في اسباب النزول لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها ، وهنا روايات متعارضة مروية في كون قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، الآية ناسخا لقوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، أو منسوخا به ، ستمر بك في تفسير الآية من سورة المائدة.

* * *

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ

٢٠٦

يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ـ ٢٢٢. نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ـ ٢٢٣

( بيان )

قوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى الخ المحيض مصدر كالحيض يقال : حاضت المرئة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء ، ولذلك يقال هي حائض كما يقال : هي حامل.

والاذى هو الضرر على ما قيل ، لكنه لا يخلو عن نظر ، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما ان الضرر مقابل النفع وليس بصحيح ، يقال : دواء مضر وضار ، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر ، وايضا قال تعالى : ( لن يضروكم الا اذى ) آل عمران ـ ١١١ ، ولو قيل لن يضروكم إلاضررا لفسد الكلام ، وايضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في امثال قوله تعالى : ( ان الذين يؤذون الله ورسوله ) الاحزاب ـ ٥٧ ، وقوله تعالى : ( لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم ) الصف ـ ٥ ، فالظاهر ان الاذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.

وتسمية المحيض اذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للارضاع ، واما على قولهم : ان الاذى هو الضرر فقد قيل : ان المراد بالمحيض اتيان النساء في حال الحيض ، والمعنى : يسألونك عن اتيانهن في هذه الحال

فاجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الاطباء ان الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم واعداده للحمل ، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.

٢٠٧

قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة ، يقال : عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الانصباء ، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن ، والمراد بالاعتزال ترك الاتيان من محل الدم على ما سنبين.

وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى : فكانت اليهود تشدد في أمره ، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع ، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض ، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك ، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه ، واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيء من ذلك غير ان العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في امر المحيض والتشديد في امر معاشرتهن في هذا الحال ، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.

وكيف كان فقوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ، وان كان ظاهره الامر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود ، ويؤكده قوله تعالى ثانيا : ولا تقربوهن ، إلا ان قوله تعالى اخيرا فأتوهن من حيث امركم الله ـ ومن المعلوم انه محل الدم ـ قرينة على ان قوله : فاعتزلوا ولا تقربوا ، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الاتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ.

فالاسلام قد اخذ في امر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والاهمال المطلق الذي عليه النصارى ، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض ، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال : فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الاول اريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الاول ، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

قوله تعالى : حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، الطهارة وتقابلها النجاسة ـ من المعاني الدائرة في ملة الاسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية ، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من

٢٠٨

الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الاصول.

وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الانسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.

فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمأرب العيش فالانسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى ، ويرغب فيه لذلك ، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد.

وربما عرض للشئ عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه ، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللون ، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه ، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الانسان الشئ فيجتنبه ، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاولي من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة ، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الاشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها ، أو صفه توجب كراهتها واستقذارها.

وقد كان أول ما تنبه الانسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للامور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالانساب والافعال والاخلاق والعقائد والاقوال.

هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس ، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات ، والنزاهة أصلها البعد ، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة ، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات ، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة ، لكن الاصل في القذارة معنى البعد ، يقال : ناقة قذرور تترك ناحية من الابل وتستبعد ويقال : رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم ، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس ، ويقال : قذرت الشئ بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته ، وعلى

٢٠٩

هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعد الانسان عنه ، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء ، وكأن الاصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.

وقد اعتبر الاسلام معنى الطهارة والنجاسة ، وعممهما في المحسوس والمعقول ، وطردهما في المعارف الكلية ، وفي القوانين الموضوعة ، قال تعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية ، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم ، وقال تعالى : ( وثيابك فطهر ) المدثر ـ ٤ ، وقال تعالى : ( ولكن يريد ليطهركم ) المائدة ـ ٦ ، وقال تعالى : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) المائدة ـ ٤١ ، وقال تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) الواقعة ـ ٧٩.

وقد عدت الشريعة الاسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الانسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة ، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلوة وفي الاكل وفي الشرب ، وقد عد من الطهارة أمور كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الاعيان النجسة ، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.

وقد مر بيان أن الاسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد ، وينشر الاصل الواحد في فروعه.

ومن هنا يظهر : أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه ، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للانسان ، وبعد ذلك أصول الاخلاق الفاضلة ، وبعد ذلك الاحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة ، وعلى هذا الاصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى : ( يريد ليطهركم ) المائدة ـ ٦ ، وقوله تعالى : ( ويطهركم تطهيرا ) الاحزاب ـ ٣٣ ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

ولنرجع إلى ماكنا فيه فقوله تعالى : حتى يطهرن ، أي ينقطع عنهن الدم ، وهو الطهر بعد الحيض ، وقوله تعالى : فإذا تطهرن اي ، يغسلن محل الدم أو يغتسلن ، قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله ، امر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر ، وهو

٢١٠

كناية عن الامر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الادب الالهي البارع ، وتقييد الامر بالاتيان بقوله امركم الله ، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا ولهوا فقيده بكونه مما امر الله به امرا تكوينيا للدلالة على انه مما يتم به نظام النوع الانساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من اصول النواميس التكوينية.

وهذه الآية أعني قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله ، تماثل قوله تعالى : ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ) البقرة ـ ١٨٧ ، وقوله تعالى : ( فأتوا حرثكم انى شئتم وقدموا لانفسكم ) البقرة ـ ٢٢٣ ، من حيث السياق ، فالظاهر ان المراد بالامر بالاتيان في الآية هو الامر التكويني المدلول عليه بتجهيز الانسان بالاعضاء والقوى الهادية إلى التوليد ، كما ان المراد بالكتابة في قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم أيضا ذلك ، وهو ظاهر ، ويمكن ان يكون المراد بالامر هو الايجاب الكفائي المتعلق بالازواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد.

وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه ، فإنه مبني إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى : فأتوهن وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته ، وإما على الاستدلال بدلالة الامر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف.

على ان الاستدلال لو كان بالامر في قوله تعالى : فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب ، ولو كان بالامر في قوله تعالى : من حيث امركم الله ، فهو إن كان امرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية ، وإن كان امرا تشريعيا كان للايجاب الكفائي ، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للامر الايجابي العيني المولوي.

قوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهر هو الاخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الاصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه ، وخاصة

٢١١

في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة ، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه ، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم ، أعني قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في الميحض ، وقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله ، والآية أعني قوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه ، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى : المتطهرين ، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله : التوابين ، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعا ، أعني : إن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة ، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالاعمال الصالحة أو العلوم الحقه ، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر.

قوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، الحرث مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الارض التي يعمل فيها الحرث والزراعة ، وأنى من اسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى ، وربما استعمل في المكان أيضا ، قال تعالى : ( يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله ) آل عمران ـ ٣٧ ، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم ، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم ، وكيف كان يفيد الاطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله : شئتم ، وهذا هو الذي يمنع الامر أعني قوله تعالى : فأتوا حرثكم ، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لايجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته.

ثم إن تقديم قوله تعالى : نساءكم حرث لكم ، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن ، فإن كان الاطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية الاطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية ، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض ، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه

٢١٢

أن ينسخه آية الحرث ، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما ، ودلالتها أيضا على أن تحريم الاتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهير دائما ، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم ) المائدة ـ ٦.

ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، المشتمل أولا على التوسعة ، وهو سبب كان موجودا مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ، ومن هذا البيان يظهر : ان آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.

فمحصل معنى الآية : أن نسبة النساء إلى المجتمع الانساني نسبة الحرث إلى الانسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لابقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وابقائها كذلك النساء يحتاج اليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لان الله سبحانه جعل تكون الانسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن ، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الاصلية مائلة منعطفة إليهن ، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة ، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت ، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله ، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدموا لانفسكم.

ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية ، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الاطلاق ، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدموا لانفسكم ، بالتسمية قبل الجماع.

قوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ، قد ظهر : ان المراد من قوله : قدموا لانفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال

٢١٣

والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل ، والله سبحانه لا يريد من نوع الانسان وبقائه إلاحياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام ، قال تعالى : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) الذاريات ـ ٥٦ ، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الارض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج ، وتيههم في أودية الغي والغفلة.

فالمراد بقوله : قدموا لانفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء ، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى ابقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى انفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى : ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) يس ـ ١٢.

وبهذا الذي ذكرنا يتأيد : ان المراد بتقديمهم لانفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى : ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) النبأ ـ ٤١ ، وقال تعالى أيضا : ( وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ) المزمل ـ ٢٠ ، فقوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه الخ ، مماثل السياق لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) الحشر ـ ١٨ ، فالمراد ( والله اعلم ) بقوله تعالى : وقدموا لانفسكم تقديم العمل الصالح ، ومنه تقديم الاولاد برجاء صلاحهم للمجتمع ، وبقوله تعالى : واتقوا الله ، التقوى بالاعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله ، وبقوله تعالى : واعلموا أنكم ملاقوه إلخ الامر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية ، التقوى بمعنى الخوف ، وإطلاق الامر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام ، قال تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) الانفال ـ ٢٤ ، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان ذيل تعالى كلامه بقوله : وبشر المؤمنين ، كما صدر آية الحشر بقوله : يا أيها الذين آمنوا.

٢١٤

( بحث روائي )

في الدر المنثور : أخرج احمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابو يعلى وابن المنذر وابو حاتم والنحاس في ناسخه وابو حيان والبيهقي في سننه عن انس : ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فأنزل الله : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء الا النكاح ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه ، فجاء أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ان اليهود قالت : كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ظننا ان قد وجد عليهما ، فخرجا ، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا انه لم يحد عليهما.

وفي الدر المنثور عن السدي في قوله : ويسألونك عن المحيض ، قال : الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح.

أقول : وروي مثله عن مقاتل ايضا.

وفي التهذيب عن الصادق عليه‌السلام في حديث في قوله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله الآية ، قال عليه‌السلام : هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.

وفي الكافي : سئل عن الصادق عليه‌السلام : ما لصاحب المرئه الحائض منها؟ فقال عليه‌السلام : كل شيء ما عدا القبل بعينه.

وفيه أيضا عنه عليه‌السلام : في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها ، قال عليه‌السلام : إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء ، قبل ان تغتسل ، وفي رواية : والغسل أحب إلى.

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا وهي تؤيد قرائه يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدم كما قيل : إن الفرق بين يطهرن ويتطهرن ان الثاني قبول الطهارة ، ففيه

٢١٥

معنى الاختيار فيناسب الاغتسال ، بخلاف الاول فإنه حصول الطهارة ، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم ، والمراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك ، وإن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الاتيان بعد الغسل كما أفاده عليه‌السلام بقوله : والغسل أحب إلى ، لاحرمة الاتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى ، فافهم ذلك.

وفي الكافي ايضا عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، قال : كان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار ثم احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

اقول : والاخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي بعضها : ان اول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنة.

وفيه عن سلام بن المستنير ، قال : كنت عند ابي جعفر عليه‌السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء ، فلما هم حمران بالقيام قال لابي جعفر عليه‌السلام : أخبرك أطال الله بقاك وامتعنا بك ـ : إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال ، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا ، قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام إنما هي القلوب ، مرة تصعب ومرة تسهل ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام أما إن اصحاب محمد قالوا يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال : فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولم تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت ـ وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد ان نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك ، وحتى كأنا لم نكن على شيء ، أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم انفسكم بها لصافحتكم الملائكة ، ومشيتم على الماء ، ولو لا انكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم ، ان المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله عز وجل : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وقال تعالى :

٢١٦

استغفروا ربكم ثم توبوا إليه.

أقول : وروي مثله العياشي في تفسيره ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تدومون على الحالة ، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والاشراف على ما عند الله سبحانه ، وقد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى : ( الذين إذا اصابتهم مصيبة ) البقرة ـ ١٥٦.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا انكم تذنبون الخ ، اشارة إلى سر القدر ، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الافعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الاسماء من الاقتضائات ، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) الحجر ـ ٢١ ، وسائر آيات القدر ، وقوله أما سمعت قول الله عز وجل : إن الله يحب التوابين الخ ، من كلام ابى جعفر عليه‌السلام ، والخطاب لحمران ، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس ، ورينها عن القلب ، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب ، نظير ما ورد في قوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) الواقعة ـ ٧٩ ، من الاستدلال به على ان علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت ، والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة. وكما ان الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى : ( وان من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم ) الحجر ـ ٢١ ، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل الا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك ، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية ) آل عمران ـ ٧. ومن هنا يستأنس ما مرت إليه الاشارة : ان المراد بالتوبة والتطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو ارجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه. ويظهر ايضا : معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي من قوله عليه‌السلام : انزل الله على ابراهيم عليه‌السلام الحنيفية ، وهي الطهارة ، وهي عشرة أشياء : خمسة في الرأس وخمسة في البدن ، فاما التي في الراس : فاخذ الشارب ، واعفاء اللحى ، وطم الشعر ،

٢١٧

والسواك ، والخلال ، واما التي في البدن : فأخذ الشعر من البدن ، والختان ، وقلم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء ، وهي الحنفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث ، والاخبار في كون هذه الامور من الطهارة كثيرة ، وفيها : ان النوره طهور.

وفي تفسير العياشي : في قوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية : عن معمر بن خلاد عن ابي الحسن الرضا (ع) انه قال : أي شيء تقولون في اتيان النساء في أعجازهن؟ قلت بلغني ان اهل المدينة لا يرون به بأسا ، قال (ع) : ان اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله : نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم انى شئتم ، يعني من خلف أو قدام ، خلافا لقول اليهود في ادبارهن.

وفيه عن الصادق (ع) في الآية فقال (ع) : من قدامها ومن خلفها في القبل.

وفيه عن ابي بصير عن ابي عبد الله (ع) قال : سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال : وإياكم ومحاش النساء ، وقال : إنما معنى نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، أي ساعه شئتم.

وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : كتبت إلى الرضا (ع) في مثله ، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.

أقول : والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة ، مروية في الكافي والتهذيب وتفسيري العياشي والقمي ، وهي تدل جميعا : ان الآية لاتدل على أزيد من الاتيان من قدامهن ، وعلى ذلك يمكن ان يحمل قول الصادق (ع) في رواية العياشي عن عبد الله بن ابي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن إتيان النساء في أعجازهن قال : لا بأس ثم تلا هذه الآية : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.

اقول : الظاهر ان المراد بالاتيان في اعجازهن هو الاتيان من الخلف في الفرج ، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم.

وفي الدر المنثور : أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله ، قال : كانت الانصار تأتي نسائها مضاجعة ، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الانصار فأراد ان يأتيها فقالت : لا إلا كما يفعل فاخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢١٨

فأنزل : فأتوا حرثكم أنى شئتم أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد ان يكون في صمام واحد.

اقول : وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية ، وقد مرت الرواية فيه عن الرضا (ع).

وقوله : في صمام واحد أي في مسلك واحد ، كناية عن كون الاتيان في الفرج فقط ، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الاتيان من أدبار النساء ، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول أئمة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم عليهم‌السلام إلا أنهم عليهم‌السلام لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية ، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط : قال : ( إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ) الحجر ـ ٧١ ، حيث عرض عليه‌السلام عليهم بناته وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشيء من القرآن.

والحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة ، فقد روي عن عبد الله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم : أنهم كانوا لا يرون به بأسا وكانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية حتى ان المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه.

ففي الدر المنثور عن الدار قطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أمسك علي المصحف يا نافع ! فقرأ حتى أتى على ، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، قال لي : تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت : لا ، قال : نزلت في رجل من الانصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية ، قلت له : من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها.

اقول : وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة ، قال : وقال ابن عبد البر : الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.

وفي الدر المنثور أيضا : أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي

٢١٩

في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزلت ، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، الآية.

وفيه أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني ، قال : سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي : الساعة غسلت رأسي عنه.

وفيه أيضا : أخرج الطحاوي من طريق إصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم ، قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني : وطى المرأة في دبرها ثم قرأ : نسائكم حرث لكم ، ثم قال : فأي شيء أبين من هذا؟

وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال : إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم إنما كان هذا الحي من الانصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب ، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من امر أهل الكتاب ان لا يأتوا النساء إلا على حرف ، وذلك أثر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحي من الانصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الانصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت : إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد.

اقول : ورواه السيوطي في الدر المنثور بطرق اخرى أيضا عن مجاهد ، عن ابن عباس.

وفيه أيضا : اخرج ابن عبد الحكم : ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك ، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له : فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال : أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها ( الاعكان جمع عكنة بضم العين : ما انطوى وثنى من لحم البطن ) أفي ذلك حرث : قال : لا ، قال ، أفيحرم؟ قال : لا ، قال : فكيف تحتج بما لا تقولون به؟

٢٢٠