البراهين الجليّة - ج ٢

السيّد حسن الصدر

البراهين الجليّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد حسن الصدر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-629-5
ISBN الدورة:
978-964-319-618-9

الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

منيعاً » (١) وقوله : « ولا يزال الدين قائماً » (٢) صريح في أنّ عزّة الدين وقوّته ودوامه بوجود أحد الاثنى عشر ، فهو يقويه و يحفظه و يحرسه دائماً بما أعطاه اللَّه تعالى من العلوم الإلهاميّة الغيبيّة أي لا تنال بالاكتساب .

وثانياً : فحاله حال كلّ من غاب واختفى من الأنبياء من الأعداء حال غيبته ، كصالح النبيّ‏ عليه‌السلام غاب كهلاً ورجع شيخاً بحيث لم يعرفوه (٣) ، وموسى بن عمران‏ عليه‌السلام غاب عن أهله وقومه ثمان وعشرين سنة وهو خائف يترقّب (٤) ، وإبراهيم‏ عليه‌السلام لمّا اعتزل الناس (٥) ، و يونس بن متّى عليه‌السلام فإنّه غاب شابّاً ورجع كبير السنّ (٦) ، و يوسف‏ عليه‌السلام غاب عن خاصّته وعامته واختفى من إخوته (٧) ، وأمثالهم من الأنبياء الذين غابوا (٨) ، قال تعالى : ( لتركبنّ طبقاً عن طبق ) (٩) أي سنناً على سنن من كان قبلكم فقوله : فهو ضرر على أهل الأرض ، فيه ردّ على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من وجوه عديدة ، لأنّ محمّد بن الحسن المهدي الذي فرض وجوده أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، وقد تقدّم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لجابر بن عبد اللَّه الأنصاري لمّا سأله هل ينتفعون به شيعته في أيّام غيبته ؟ فقال له : « أي والذي بعثني

__________________

(١) مسند أحمد ٥ : ٩٩ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٥٣ / ٩ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٠٦ / ٤٢٨٠ .

(٢) مسند أحمد ٥ : ٨٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٥٣ / ٨ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٠٦ / ٤٢٧٩ .

(٣) كمال الدين وتمام النعمة ١ : ١٣٦ / ٦ .

(٤) نفس المصدر ١ : ١٤٥ / ١٢ .

(٥) نفس المصدر ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨ / ٧ .

(٦) نفس المصدر ١ : ٣٢٧ / ٧ .

(٧) نفس المصدر ١ : ١٤١ ب ٥ .

(٨) مثل إدريس النبيّ عليه‌السلام ، كمال الدين وتمام النعمة ١ : ١٢٧ / ١ .

(٩) سورة الانشقاق ٨٤ : ١٩ .

٨١

بالنبوّة أنّهم يستضيئون بنوره ، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن علاها سحاب ، يا جابر هذه أسرار اللَّه المكنونة فلا تذعها لغير أهلها » (١) .

قال بعض شرّاح هذا الحديث : أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله بتشبيهه بالشمس المجلّلة بالسحاب إلى اُمور :

الأوّل : أنّ نور العلم والهداية يصل إلى الخلق بتوسّطه وبركته ، ولولاه لم تظهر العلوم والمعارف على الخلق ، وبه يكشف اللَّه البلاء عن الناس لأنّه الغوث الأعظم .

الثاني : كما أنّ الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون انكشافها في كلّ آن ليكون انتفاعهم بها أكثر ، فكذلك أيّام غيبة المهدي ينتظرون شيعته خروجه وظهوره في كلّ وقت وزمان ولا ييأسون منه .

الثالث : أنّ منكر وجوده مع وفور ظهور آثاره كمنكر الشمس إذا غيّبها السحاب عن الأبصار .

الرابع : أنّ الشمس قد تكون غيبتها في السحاب أصلح للعباد من ظهورها لهم بغير حجاب ، كذلك غيبة المهدي أصلح لهم في تلك الأزمان فلذا غاب عنهم .

الخامس : أنّ الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب وربما عمي بالنظر إليها لضعف الباصرة عن الإحاطة بها ، فكذلك شمس ذاته المقدّسة ربّما تكون أضرّ لبصائرهم و يكون سبباً لعماهم عن

__________________

(١) راجع ص : ٧٥ ـ ٧٦ .

٨٢

الحقّ ، وتحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته كما ينظر الإنسان إلى الشمس من تحت السحاب ولا يتضرّر بذلك .

السادس : أنّ الشمس قد تخرج من السحاب و ينظر إليها واحد دون واحد ، فكذلك يمكن أن يظهر في أيّام غيبته لبعض الخلق دون بعض كما حكاه غير واحد من المشايخ وأهل المعرفة .

السابع : أنّه كالشمس في عموم النفع و إنّما لا ينتفع به من كان أعمى كابن تيميّة وأمثاله .

الثامن : أنّ الشمس كما أنّ شعاعها يدخل البيوت بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك و بقدر ما يرتفع عنها من الموانع ، فكذلك الخلق إنّما ينتفعون بأنوار المهدي وهدايته بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسهم ومشاعرهم ـ التي هي روازن قلوبهم ـ من الشهوات النفسانيّة والعلائق الجسمانيّة ، و بقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولائيّة إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب ، فقد فتحت لك من هذه الجنّة الروحانية ثمانية أبواب ، ولقد فتح اللَّه عليّ بفضله ثمانيّة اُخرى تضيق العبارة عن ذكرها (١) ، انتهى .

لكن ابن تيميّة قد أعماه اللَّه عن نور المهدي ( وَ مَن كَانَ فِى هَذِهِ‏ى أَعْمَى فَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (٢) ولو لم يكن كذلك لما قال : فهو شرّ محض لا خير فيه ، وخلق مثل هذا ليس من فعل الحكيم العادل (٣) ،

__________________

(١) الشارح هو العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٥٢ : ٩٣ .

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٧٢ .

(٣) منهاج السنّة ٤ : ٩٠ .

٨٣

انتهى .

مع أنّه هو الحافظ لأهل الأرض من البلاء ، وهو حافظ الدين من تحريف الضالّين وانتحال المبطلين من حيث لا يعلم الناس ، و به يدفع العذاب العام عن أهل الأرض ، وهو مع ذلك قد أعطاه اللَّه إغاثة الملهوفين ، و إجابة المضطرّين ، و إعانة المكروبين إذا توسّلوا به وتمسّكوا بعروته عند الحوائج الدينيّة والدنيويّة وعند الشدّة والكربة والبلاء .

فقد أخرج عبد الرحمن النور الجامي في رسالته مناسك الحجّ والشيخ عبد الحقّ الدهلوي الحنفي الحافظ المعروف في كتابه جذب القلوب تاريخ المدينة الطيّبة عن كتاب فصل الخطاب لمحمّد پارسا البخاري قال : قيل للإمام الرضا عليه‌السلام : علّمني قولاً بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم ، فعلّمه الرضا قال : « قل : السلام عليكم يا أهل بيت الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، وخزّان العلم ، ومنتهى الحلم ، ومعدن الرحمة ، واُصول الكرم ، وقادة الأمم ، وعناصر الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وأبواب الإيمان ، واُمناء الرحمن ، وسلالة خاتم الأنبياء ، وعترة صفوة المرسلين ، ورحمة اللَّه وبركاته ، السلام على أئمّة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وأعلام التقى ، وذوي الحجى والنهى ، ورحمة اللَّه و بركاته ، السلام على محال معرفة اللَّه ، ومساكن بركة اللَّه ، ومعادن حكمة اللَّه ، وحفظة سرّ اللَّه ، وحملة كتاب اللَّه ، وورثة رسول اللَّه » (١) إلى آخره .

وابن تيميّة يصفه بالشرّ ، نعوذ باللَّه من العمى والضلال والكفر والإلحاد في آل محمّد ، إلى هذه الدرجة التى ارتقاها ابن تيميّة المحروم ،

__________________

(١) فصل الخطاب ( مخطوط ) ، جذب القلوب إلى ديار المحبوب : ١٧٢ .

٨٤

فإنّه بهذا الكلام صار من أشدّ الناصبة ، وأعظم المشنّعين المنتقصين لأهل البيت ، فهو كفر بالاتّفاق كما عرفت .

ثمّ قال المحروم : وإذا قالوا : إنّ الناس بسبب ظلمهم احتجب عنهم .

قيل أوّلاً : الظلم كان في زمن آبائه ولم يحتجبوا .

وقيل ثانياً : المؤمنون به طبقوا الأرض فهلّا اجتمع بهم في بعض الأوقات أو أرسل إليهم رسولاً يعلّمهم شيئاً من العلم والدين (١) .

أقول : أمّا الجواب عن أوّله فبالفرق الواضح بينه وبين آبائه ، فإنّه الذي شاع حديث تملّكه ودولته وظهوره على كافة الممالك والعباد والبلاد بخلاف آبائه لم يحتمل في أحدهم ذلك ، بل كلّهم كانوا يخبرون عنه بأنّه الذي يكون صاحب الزمان ، ولذا لمّا مات أبوه أخذوا في الفحص عنه ، وفي ذلك حكايات وكرامات له مذكورة في كتب أهل السنّة والشيعة فراجع من كتب السنّة كفصل الخطاب لخواجه محمّد پارسا (٢) ، وشواهد النبوة للنور الجامي (٣) ، والفصول المهمّة للشيخ ابن الصبّاغ المالكي (٤) ، وكتاب البيان للكنجي الشافعي (٥) ، ونور الأبصار للشيخ الشبلنجي (٦) ، والإتحاف بحبّ الأشراف لمحمّد بن عامر الشبراوي (٧) ، وأمثالها ، وأمّا كتب الشيعة

__________________

(١) منهاج السنّة ٤ : ٩٠ .

(٢) فصل الخطاب ( مخطوط ) .

(٣) شواهد النبوّة : ٢٥٨ ـ ٢٦٣ .

(٤) الفصول المهمّة في معرفة الأئمة : ٢٩٠ .

(٥) البيان الملحق بكتاب كفاية الطالب : ٥٢١ . والبيان الملحق بكتاب إلزام الناصب للحائري ٢ : ٢٤٠ .

(٦) نور الأبصار في مناقب آل النبيّ المختار : ١٨٥ .

(٧) الإتحاف بحبّ الأشراف : ١٧٩ .

٨٥

فكلّ كتاب يتعلّق بالثاني عشر فيه تلك الحوادث والحكايات .

وأمّا الجواب عن قوله : وقيل : ثانيّاً إلى آخره ، قد عرفت أنّه قد اجتمع به في الغيبة الصغرى ـ وهي سبعين سنة ـ كثير من الناس وكان له نواب ووكلاء في البلاد قد ذكرهم ابن الأثير في تاريخ الكامل (١) ، وأبو الفداء في مختصر أخبار البشر (٢) وغيرهم من المؤرّخين عند ذكرهم لحوادث السنين (٣) ، وأيضاً ذكرهم بأسمائهم من علماء السنّة جماعة من المحدّثين ، منهم : سبط ابن الجوزي ، وابن الصبّاغ المالكي ، ومحمّد بن طلحة الشافعي ، والحافظ الكنجي في مصنّفاتهم في مناقب أهل البيت ، وقد تقدّم أسماء كتبهم (٤) .

وأمّا الصوفيّة من علماء السنّة فقد عرفت اجتماعهم به (٥) .

وأمّا الشيعة الإماميّة فقد كتبوا كتباً مفصّلةً في أسماء من رأوه ، ومن أخذ عنه ، ومن اجتمع به ، وأسماء نوّابه ووكلائه الممدوحين والمذمومين ، فهذا شيخهم محمّد بن الحسن الطوسي له كتاب الغيبة ذكر كلّ ذلك بطرقه ورجاله (٦) ، وكذا الطبرسي في كتابه اعلام الورى (٧) ، وكذلك ابن طاووس (٨) ،

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٨ : ١٠٩ .

(٢) المختصر في أخبار البشر ١ : ٣٩٥ .

(٣) انظر تاريخ ابن أبي طي ، حكاه عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٥ : ٢٢٢ / ٨٥ ، الوافي بالوفيات ١٢ : ٣٦٦ / ٣٥١ ، لسان الميزان ٢ : ٢٨٣ / ١١٨٧ .

(٤) راجع ص : ٢٦ وما بعدها .

(٥) راجع ص : ٥٢ .

(٦) الغيبة : ٢٥٣ ، ٣٤٥ .

(٧) إعلام الورى ٢ : ٢٧٣ .

(٨) انظر كتاب ابن طاووس التشريف بالمنن في التعريف بالفتن .

٨٦

والنعماني (١) ، والشيخ ابن المعلّم المعروف فيهم بالمفيد في مصنّفاتهم في الغيبة (٢) ، والكليني عقد باباً في تسميّة من زاره في كتاب الحجّة من الكافي (٣) ، وقد روى الطبرسي في كتاب الاحتجاج جملة من التوقيعات الخارجة من المهدي إلى الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (٤) ، وعقد في كتاب الإرشاد باب ذكر من رأى الإمام الثاني عشر (٥) ، وطرف من دلائله و بيّناته وأخرج فيه جملة وافرة ، وكذلك ابن بابويه في كتاب إكمال الدين و إتمام النعمة (٦) ، وقد جمع بعضهم جوابات مسائل الشيعة التي أجاب عنها المهدي عليه‌السلام (٧) ، وجمع بعضهم صحيفة من أدعية التي أنشأها المهدي مثل صحيفة جدّه زين العابدين‏ عليه‌السلام (٨) أمّا في الغيبة الكبرى فقد عرفت المصنّفات فيمن اجتمع وانتفع من نور علمه ، مثل كتاب جنّة المأوى ، وكتاب النجم الثاقب في مناقب الإمام الغائب للمحدّث النوري ، ومثل المجلّد الثالث عشر من كتاب بحار الأنوار لمحمّد باقر المجلسي .

__________________

(١) انظر كتاب الغيبة للنعماني : ١٩ .

(٢) وللشيخ المفيد أربع رسائل في الغيبة طبعت ضمن مصنّفاته في الجزء السابع تحقيق علاء آل جعفر .

(٣) الكافي ١ : ٣٢٩ .

(٤) الاحتجاج ٢ : ٤٩٥ .

(٥) الإرشاد ٢ : ٣٥١ .

(٦) كمال الدين وتمام النعمة : ٤٣٤ الباب ٤٣ .

(٧) ككتاب التوقيعات للمجلسي‏قدس سره انظر الذريعة في تصانيف الشيعة ٤ : ٥٠٠ ـ ٥٠١ .

(٨) كالصحيفة المهدوية التي جمعها الميرزا محمّد الطهراني‏قدس سره ، انظر الذريعة ١٥ : ٢٤ / ١٢١ ، وأيضاً ما جمعه العلم التقي الشيخ إبراهيم بن الشيخ محسن الكاشاني ، وقد طبع في قم المقدسة ضمن منشورات مدرسة الإمام المهدي عليه‌السلام .

٨٧

فكيف يتقوّل ابن تيميّة و يقول : طبقوا الأرض فهلّا اجتمع بهم ، إلى آخره .

لكنّه يريد أن يروّج كذبه على عوام الحشويّة ، ولا يعبأ بسواد الوجه بالكذب عند المسلمين ، ولا يظنّ به أنّه لا يدري ما ذكرنا ، ولو فرضنا أنّه لا يدري ذلك فلا يمكن أن يقول : فهلّا اجتمع بهم بعض الأوقات أو أرسل إليهم رسولاً يعلمهم شيئاً من العلم والدين.

لأنّ كتاب الكافي من كتب الشيعة لمحمّد بن يعقوب الكليني في الشهرة مثل صحيح البخاري ، وقد عقد في كتاب الحجّة منه باباً في تسمية من رآه ، وأخرج أخباراً كثيراً فلا يمكن أن لا يطلع عليه ابن تيميّة .

وفي هذا الكتاب : روي عن عليّ بن محمّد ، عن محمّد بن شاذان بن نعيم ، عن خادمة لإبراهيم بن عبده النيسابوري أنّها قالت : كنت واقفة على الصفا فجاء عليه‌السلام حتّى وقف على إبراهيم وقبض على كتاب مناسكه وحدّثه بأشياء (١) .

وعن عليّ بن محمّد ، عن محمّد بن عليّ بن إبراهيم ، عن أبي عبد اللَّه ابن صالح : أنّه رآه عند الحجر الأسود والناس يتجاذبون عليه وهو يقول : « ما بهذا اُمروا » (٢) .

وعن عليّ بن محمّد ، عن أبي عليّ أحمد بن إبراهيم بن إدريس ، عن أبيه أنّه قال : رأيته‏ عليه‌السلام بعد مضي أبي محمّد حين أيفع وقبّلت يديه ورأسه (٢) .

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣١ / ٦ .

(٢) نفس المصدر ١ : ٣٣١ / ٧ .

(٣) نفس المصدر ١ : ٣٣١ / ٨ .

٨٨

وعن عليّ بن محمّد ، عن أحمد بن راشد ، عن بعض أهل المدائن قال : كنت حاجّاً مع رفيق لي فوافينا الموقف ، فإذا شاب قاعد عليه إزار ورداء وفي رجليه نعل أصفر ، قومت الإزار والرداء بمائة وخمسين ديناراً ، وليس عليه أثر السفر ، فدنا منّا سائل فرددناه ، فدنا من الشاب فسأله فحمل شيئاً من الأرض وناوله ، فدعا له السائل واجتهد في الدعاء وأطال ، فقام الشاب وغاب عنّا ، فدنونا من السائل فقلنا له : و يحك ما أعطاك ؟ فأرانا حصاة ذهب مضرّسة قدّرناها عشرين مثقالاً ، فقلت لصاحبي : مولانا عندنا ونحن لا ندري ، ثمّ ذهبنا في طلبه فدرنا الموقف كلّه فلم نقدر عليه ، فسألنا من كان حوله من أهل مكّة والمدينة ؟ فقالوا : شاب علوي يحجّ في كلّ سنة ماشياً (١) .

وعن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام قال : « لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة ، ولا بدّ له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة ، وما بثلثين من وحشة » (٢).

وعن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن إسحاق بن عمّار قال : قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام : « للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والاُخرى طويلة ، الغيبة الاُولى لا يعلم بمكانه إلّا خاصّة شيعته ، والاُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصّة مواليه » (٣) إلى غير ذلك ممّا في هذا الكتاب المشهور .

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣٢ / ١٥ .

(٢) نفس المصدر ١ : ٣٤٠ / ١٦ .

(٣) نفس المصدر ١ : ٣٤٠ / ١٩ .

٨٩

و إنّما ذكرت هذه الروايات حتّى تعرف كذب ابن تيميّة في دعوى : إنّه لم يجتمع به أحد منهم .

فهذه رواياتهم في الاجتماع به منهم ، وفي المجاميع الاُخر منها الكثير كما سمعت أسماء بعضها ، فلا كذب أقبح من هذا في الفضيحة على صاحبه ينسب إليهم ما المتواتر خلافه عنهم ومصنّفاتهم مملوءة بخلافه ، واللَّه يمقت الكاذب .

ثمّ قال ابن تيميّة : وقيل ثالثاً : قد كان يمكنه أن يأوي إلى كثير من المواضع التي فيها شيعته كجبال الشام التي كان فيها الرافضة عاصية وغير ذلك من المواضع العاصية (١) .

أقول : إذا كان هو المهدي الموعود فلا يظهر إلّا بأمر من اللَّه عزّ وجلّ ولا يسكن إلّا فيما يأمره اللَّه عزّ وجلّ ، وهذا الكلام من ابن تيميّة يلحق بالهذيان وكأنّه من ضيق الخناق وإلّا فالمأمور بالغيبة ولزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها كيف يلوذ ببعض العصاة فاللَّه يحجبه قال اللَّه تعالى : ( وَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ) (٢) وقال تعالى : ( وَ جَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) (٣) فلا حاجة للمهدي في التحصّن عن الأعداء بما ذكره ابن تيميّة ، والمهدي حجّة اللَّه ووليّه وابن رسوله فيستره بالحجاب عن أعين الأعداء كما ستر جدّه رسول اللَّه بالحجاب عن عين العوراء بنت حرب ، وقد عقد جلال الدين السيوطي في الخصائص الكبرى

__________________

(١) منهاج السنّة ٤ : ٩٠ .

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٤٥ .

(٣) سورة يس ٣٦ : ٩ .

٩٠

لذلك باب ستره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجاب عن عين عوراء بنت الحرب ، وأخرج الحديث بذلك من عدّة وجوه (١) فراجعه حتّى تعرف عناية اللَّه بأوليائه محمّد وعترته ، ولا تفوّه بما قلت يابن تيميّة ، لا يأوي المهدي إلى أهل الضلال وقد حرمك اللَّه من ولايته ونور طلعته .

وقد رووا بأسانيد متعدّدة عن إبراهيم بن مهزيار أنّه وصل إلى خدمته وتشرّف بلقائه في بعض فلوات الطائف فقال له من جملة كلامه : « إنّ أبي عهد إليّ أن لا اُوطن من الأرض إلّا أخفاها وأقصاها إسراراً لأمري وتحصيناً لمحلّي من مكائد أهل الضلال والمردة من أحداث الاُمم الضوال ، فنبذني إلى عالية الرمال » .

إلى أن قال : « اعلم يا أبا إسحاق إنّه صلوات اللَّه عليه قال : يابني إنّ اللَّه جلّ ثناؤه لم يكن ليخلي أطباق أرضه وأهل الجدّ في طاعته بلا حجّة يستعلي بها و إمام يؤتمّ به و يقتدى بسبيل سننه ومنهاج قصده ، وأرجو يا بنيّ أن تكون أحد من أعدّه اللَّه لنشر الحقّ ووطي الباطل و إعلاء الدين و إطفاء الضلال ، فعليك يا بني بلزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها » (٢) الحديث .

ثمّ قال المحروم ابن تيميّة : وقيل رابعاً : فإذا كان هو لا يمكنه أن يذكر شيئاً من العلم والدين لأحد لأجل هذا الخوف لم يكن في وجوده لطف ولا مصلحة ، فكان هذا مناقضاً لما أثبتوه ، بخلاف من اُرسل من الأنبياء وكُذِّبَ فإنّه بلّغ الرسالة وحصل لمن آمن به من اللطف والمصلحة ما

__________________

(١) الخصائص الكبرى ١ : ٢١٣ ، وراجع أيضاً مجمع الزوائد ٧ : ١٤٤ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ : ٢٥٦ ، سيرة ابن هشام ١ : ٣٨١ ، الخرائج والجرائح للراوندي ٢ : ٧٧٥ .

(٢) كمال الدين وتمام النعمة : ٤٤٨ ، مدينة المعاجز للبحراني ٨ : ١٩٦ ، بحار الأنوار ٥٢ : ٣٥ / ٣٨ .

٩١

هو من نعم اللَّه عليه ، وهذا المنتظر لم يحصل به لطائفته إلّا الانتظار لمن لا يأتي ، ودوام الحسرة والألم ، ومعاداة العالم ، والدعاء الذي لا يستجيبه اللَّه ؛ لأنّهم يدعون له بالظهور والخروج من مدّة أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ولم يحصل شي‏ء من هذا (١) ، انتهى ما أردنا نقله .

أقول : مَن أخبرك يا محروم أنّه لا يمكنه أن يذكر شيئاً من العلم والدين ؟ ! وأين هذا الكلام ؟ ! لم لا تدلّ على قائله أو الكتاب الذي ذكر فيه ذلك ؟ ! هذه كتب علماء السنّة وعلماء الإماميّة قد نصّوا فيها على الانتفاع به ، والكتابة عنه ، وتعلّم الذكر منه ، وعلى جواب المسائل في الدين ، وقد جمعت ودوّنت ، وقد تقدّم شرح ذلك واعتقاد الشيعة فيه ، وعد من تشرّف منهم بخدمته وكذلك علماء الصوفيّة وأهل الحقّ والحقيقة ، وأنّه لا يمكن القطع من أحد على نفي ذلك كيف وقد رووا : أنّ المهدي يحضر الموسم في كلّ سنة (٢) ، ورآه جماعة كثيرة تزيد على سبعين في أيّام غيبته الصغرى التي كانت له فيها نواب مخصوصة يخرج إليهم التوقيعات ابتداءً وجواباً عن المسائل التي كانوا يسألونها ، وقد ذكروها في كتبهم ، وكذلك في الغيبة الكبرى كما لا يخفى على من راجع جنّة المأوى وكتاب النجم الثاقب .

فهو كما قال نصير الدين الطوسي : وجوده لطف ، وتصرّفه لطف آخر ، وغيبته منّا (٣) . فإنّ اللطف يقتضي أن يخلق اللَّه الماء لرفع العطش ، فإذا خلق الماء حصل اللطف ، ولا يجب على اللَّه أن يوجر الماء في حلق العطشان ،

__________________

(١) منهاج السنّة ٤٠ : ٩٠ ـ ٩١ .

(٢) الكافي ١ : ٣٣٢ / ١٥ ، كمال الدين وتمام النعمة : ٤٤٠ /  ٨ ، بحار الأنوار ٥٢ : ١٥٢ / ٤ .

(٣) تجريد الاعتقاد : ٢٢١ ، وانظر كشف المراد : ٣٦٢ .

٩٢

بل عليه أن يذهب و يحصل الماء ، فإذا هو سدّ على نفسه باب الماء حتّى مات من العطش كان المانع منه لا من اللَّه ، وقد عرفت أنّ خواص شيعته الذين هم أهل السرّ لا مانع فيهم عن الملاقاة له والانتفاع به ، فليس هو بغائب عنهم كما قال : «ليس بمحجوب عنكم ، و إنّما حجبه سوء أعمالكم » (١) على أنّ ظهور تمام اللطف ـ الذي خلق اللَّه له ـ له وقت معلوم لو أراد المهدي الخروج قبله لا يمكنه ذلك ولا يقدر عليه ، كما اعترفت به أنت في الصفحة العاشرة من الجزء الأوّل من منهاج السنّة حيث قلت : ومن المعلوم أنّه لو كان موجوداً وقد أمره اللَّه بالخروج فإنّه يخرج سواء نادوه أو لم ينادوه ، و إن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم (٢) ، انتهى .

ولذلك الوقت علامات وآيات لا بدّ أنّ تظهر قبل ظهوره مترتّبات منظومات يتبع بعضها بعضاً كخروج الدجّال والسفياني والصيحة وأمثال ذلك ممّا صرّحت به الصحاح وتواترت به الروايات (٣) ، فالمهدي قبل ظهور تلك العلامات كجدّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة ، وأيضاً لا بدّ أن يخرج ودائع اللَّه كما في حديث : « أنّ القائم لن يظهر أبداً حتّى تخرج ودائع اللَّه عزّ وجلّ فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء اللَّه عزّ وجلّ فقتلهم » (٤) .

أقول : من جملة تلك الودائع النطف في أصلاب بعض الناس الذين إذا ظهر المهدي قتلهم ، فلا بدّ من مضي زمان تخرج ودائع اللَّه من أصلاب

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٥٤١ ، بحار الأنوار ٥٣ : ٣٢٠ ، مكيال المكارم ١ : ٣٢٤ .

(٢) منهاج السنّة ١ : ٤٦ .

(٣) انظر كتاب الفتن لنعيم بن حماد ، وكتاب السنن الواردة في الفتن للداني ، وكتاب العرف الوردي في أخبار المهدي للسيوطي .

(٤) كمال الدين وتمام النعمة : ٦٤١ ، علل الشرائع ١ : ١٤٧ / ٢ ـ ٤ .

٩٣

رجال يطهّر المهدي الأرض منهم ، وتخرج الرجال الذين اصطفاهم اللَّه للمهدي فإذا خرجوا جاء أمره بالظهور ، وهيأ له كلّ سبب على ما صرّحت به الروايات .

وأمّا انتظار الفرج بظهوره فقد جاء الأمر به وكذلك الدعاء لقوله تعالى : ( قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَآؤُكُمْ ) (١) .

وكلّ ما ذكره ابن تيميّة في التشنيع لا يلحق أولياء المهدي منه شي‏ء ، قل لي يابن تيميّة لو كنت قد تعرفت الحال كما عرفه أهل الحال واعتقدت كما اعتقدوه في الحجّة بن الحسن أنّه المهدي الموعود وكان الحال عندك ما هم عليه من الحبّ والولاء ما كنت تقول لمن دعا اللَّه في تعجيل ظهوره ، وهل في الإسلام أحد من المعتقدين به يعتقد أنّ أمر ظهوره بيد نفسه متى شاء ظهر ؟ ! كلّا بل الكلّ مجمعون أنّه بيد اللَّه لا بيده ، فلا أحسن ولا أوقع من الدعاء وتوقّع الفرج بظهوره ، فلا وقع لهذا التشنيع البارد .

نعم ، لو كان المعتقدون به يقولون : إنّا وعدنا أن إذا دعونا في مدّة كذا يظهر المهدي ، ومضت المدّة كان التشنيع عليهم في محلّه ، وأمّا إذا كان الحال فيه ما ذكرنا فلا وقع للتشنيع إلّا الدلالة على جهل المشنّع .

ثمّ هذا التشنيع لا يخصّ الشيعة بل يعمّ مشايخ أهل السنّة الموافقين في العقيدة للشيعة في محمّد بن الحسن العسكري مثل الشيخ ابن العربي ، وصدر الدين القونوي ، وابن الصبّاغ ، والحافظ الكنجي ، وشيخه (٢) في الطريقة عليّ المتّقي صاحب كنز العمّال ، ومعاصره عبد الوهاب الشعراني ،

__________________

(١) سورة الفرقان ٢٥ : ٧٧ .

(٢) المراد بالشيخ ابن حجر المكّي ، والعبارة مأخوذة من كشف الأستار : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ .

٩٤

ومحمّد خواجه پارسا ، والنور الجامي ، والشيخ الحمويني ، وكلّ من تقدّم ذكره ونقلنا نصّه من طبقات العلماء (١) ، فلا أقل أن يرعى قدماء العرفاء القائلين به حسبما حكاه الإمام أبو بكر البيهقي في شعب الإيمان ، وقد عرفت نصّه على ذلك (٢) ، ما كلّ هؤلاء بمجانين ، فالمنصف إن لم يحصل ما حصلوا ينبغي له التوقّف وعدم الإنكار والتكذيب ؛ إذ لا استبعاد في ذلك عند التأمّل ، ولا طريق عقلي ولا نقلي على القطع بالعدم ، فليس مسلك ابن تيميّة إلّا مسلك المعاندين الناصبين ، نعوذ باللَّه من ذلك .

إنكار ابن تيميّة طول الأعمار في هذه الاُمّة :

ثمّ قال ابن تيميّة : ثمّ عمر واحد من المسلمين هذه المدّة أمر يعرف كذبه بالعادة المطّردة في اُمّة محمّد ، فلا يعرف واحد ولد في زمن الإسلام عاش مائة وعشرين سنة فضلاً عن هذا العمر ، وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في آخر عمره : « أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنّ على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممّن هو اليوم عليها أحد » (٣) فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائة سنة قطعاً ، و إذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتجاوز هذا الحدّ فما بعده من الأعصار أولى بذلك في العادة الغالبة العامة ، فإنّ أعمار بني آدم في الغالب كلّما تأخّر الزمان قصرت ولم تطل ، فإنّ نوحاً عليه‌السلام لبث في قومه

__________________

(١) راجع من ص : ١٩ وما بعدها .

(٢) راجع ص : ٥٢ ـ ٥٣ .

(٣) مسند أحمد ٢ : ١٢١ ، صحيح البخاري ١ : ١٢٠ ب ٨٤ / ١١٤ ، صحيح مسلم ٤ : ١٩٦٥ / ٢٥٣٧ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٢٥ .

٩٥

ألف سنة إلّا خمسين عاماً (١) ، وآدم عليه‌السلام عاش ألف سنة كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصححّه (٢) ، فكان العمر في ذلك الزمان طويلاً ، ثمّ أعمار هذه الاُمّة ما بين الستّين إلى السبعين وأقلّهن من يجوز ذلك كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح (٣) (٤).

في الجواب عن ذلك :

أقول : ما هذا إلّا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً فإذا جاءه لم يجده شيئاً ، لأنّ العاقل يعلم أنّ الزمان لا تأثير له في الأعمار وأنّ زيادتها ونقصانها من فعل قادر مختار يغيّرها في الأوقات بحسب ما يراه من الصلاح ، ولسنا ننكر أنّ اللَّه سبحانه قد أجرى العادة اليوم بأقدار متقاربة في الأعمار يخالف ما كان في متقدّم الزمان ، غير أنّ هذا لا يحيل طول عمر بعض الناس إذا كان ممكناً من القادر المعطي للأعمار ، وقد أتت الأخبار بذكر المعمّرين كانوا في قريب الزمان ، فلا طريق إلى دفع ما ذكرناه مع هذا الإيضاح .

وأمّا قوله : قد ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في آخر عمره : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنّ على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممّن هو اليوم عليها أحد « فليس إخباراً عن تحديد غاية أعمارهم وأنّها لا تتجاوز المائة سنة كما توهّمه ابن تيميّة تبعاً للبخاري (٥) ، و إنّما هو

__________________

(١) الكامل في التاريخ ١ : ٦٨ ، وانظر بحار الأنوار ١١ : ٢٩٠ .

(٢) سنن الترمذي ٥ : ١٢٣ / ٣٤٢٧ ، وانظر الكامل في التاريخ ١ : ٥٠ ـ ٥١ .

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٢١٣ / ٣٦٢٠ الباب ١٣ ، المستدرك للحاكم ٢ : ٤٢٧ .

(٤) منهاج السنّة ٤ : ٩٣ .

(٥) صحيح الخاري ١ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ذيل الأثر : ٥٦٧ .

٩٦

إخبار غيبي عن انقراض القرن وانخرامه جلاًّ لا كلاًّ ، ولذا عدّوه في الإخبار بالمغيّبات (١) ، وعقد له في الخصائص الكبرى باب إخباره بانخرام القرن (٢) ، فلا يتفرّع على هذا الحديث ما فرّعه ابن تيميّة ، ولا يدلّ الحديث على أنّ الأعمار في كلّ عصر لا تتجاوز هذا الحدّ بالطبع أو بالتكوين ، بل أقصى ما دلّ عليه أنّ هذا القرن (٣) ينخرم ، وكيف يدلّ على أنّ كلّ عصر يقتضي أن لا تتجاوز الأعمار فيه عن المائة سنه مع تجاوز كثير من أهل ذلك العصر عن ذلك ، والعلماء قد ذكروا جملة من المعمّرين في ذلك العصر كما يعلم ذلك من كتاب المعمّرين من العرب للإمام أبي حاتم سهل بن محمّد ابن عثمان السجستاني البصري المتوفّي سنة خمس وثلاثين ومائتين رواية أبي روق الهمداني (٤) فإنّه ذكر جملة من المعمّرين الذين أدركوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهوعمّروا في عصره و بعد ذلك .

وفي كتب التواريخ وكتب النسّابين من المعمّرين في الإسلام فهو ما لو جمع لزاد على المائة كما لا يخفى على المتضلّع في التواريخ وكتب الأخبار ، ولا تعد ّ العرب معمّراً إلّا من عاش مائة وعشرين فما فوقها ،

__________________

(١) انظر تاريخ الإسلام للذهبي ١: ٣٩٨ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ١٢١ : ٢٨٨ .

(٢) الخصائص الكبرى ٢ : ٢٤٢ .

(٣) والقرن : الحين من الدهر . وذكر الحربي الاختلاف في قدره بالسنين من عشر سنين إلى مائة وعشرين سنة ، ثمّ قال : ليس منه شي‏ء واضح ، وأرى أنّ القرن كلّ اُمّة هلكت فلم يبق منها أحد . وقال الحسن وغيره : القرن عشر سنين . وقتادة : سبعون . والنخعي : أربعون . وزرارة بن أبي أوفى : مائة وعشرين . وعبد الملك بن عمير : مائة ، وهو اختيار صاحب القاموس قال : هو الأصح لقوله‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لغلام : « عش قرناً » فعاش مائة سنة . « منه » .

(٤) البصري ، النحوي ، المقرئ ، من علماء اللغة والشعر ، وقد طبع كتاب المعمّرين بمصر تحقيق محمّد أمين الخانجي فراجعه .

٩٧

وقيل : مائة سنة وستاً وعشرين سنة فصاعداً ، وليس يشك العاقل في أنّ العادات بيد اللَّه تعالى ، وأنّه يصحّ منه تغيرها على التدريج حتّى يصير خارقاً للعادة .

و إذا جاز أن يعمّر اللَّه تعالى جماعة من خلقه من أنبيائه وأوليائه والمشركين بصحّة الأجسام وثبوت العقل والرأي كما روته أصحاب السير والآثار وتواتر به الأخبار وقبح في مثله الإنكار ، فما الذي ينكر ابن تيميّة من طول عمر صاحب الزمان وهو حجّة اللَّه على العباد وخاتم الأئمّة من ذريّة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والموعود بالبقاء حتّى يكون على يده هلاك جميع الأعداء و يصير الدين كلّه للَّه ؟ !

قال السيّد المرتضى في الدرر والغرر بعد كلام طويل : فلا شكّ في أنّ العادات قد جرت في الأعمار بأقدار متقاربة يعدّ الزائد عليها خارقاً للعادة ، إلّا أنّه قد ثبت أنّ العادات قد تختلف في الأوقات وفي الأماكن أيضاً و يجب أن يراعى في العادات إضافتها إلى من هي عادة له في المكان والوقت ، وليس يمتنع أن يقل ما كانت العادة جارية به على تدريج حتّى يصير حدوثه خارقاً للعادة بغير خلاف ، ولا أن يكثر الخارق للعادة حتّى يصير حدوثه غير خارق لها على خلاف فيه ، و إذا صحّ ذلك لم يمتنع أن تكون العادات في الزمان الغابر كانت جارية بتطاول الأعمار وامتدادها ثمّ تناقص ذلك على التدريج حتّى صارت عاداتنا الآن جارية بخلافه وصار ما بلغ تلك الأعمار خارقاً للعادة (١) ، انتهى . فتأمّله فإنّه هو الكلام الفحل والقول الجزل .

__________________

(١) غرر الفوائد ودرر القلائد ( أمالي المرتضى ) ١ : ٢٧٣ .

٩٨

لا طريق للعقل إلى الحكم بعدم ولادته مع إمكانه وصلاحية كلّ وقت لها ، وقد تواتر النقل بتولّده كما عرفت (١) ، ولا مانع من جواز ستره عن أعين الظالمين كرجال الغيب مع أنّ القياس يحكم ببقائه لأنّه أحد الثلاثة من أشراط الساعة كما في الأخبار المتواترة (٢) وهم عيسى والمهدي والدجّال ، واثنان موجودان عيسى عليه‌السلام والدجّال مذ زمان ، فيقتضي القياس والمناسبة وجوده عليه‌السلام أيضاً ، وكلّ شبهة في وجوده عليه‌السلام فهي في وجود الدجّال أيضاً موجودة ، بل الشبهات في الدجّال أزيد ، وقد ثبت في الصحاح وجود الدجّال في حياة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه باق إلى وقت ظهور المهدي عليه‌السلام (٣) ، وقد أخرج مسلم حديثه في صحيحه بطرق ثلاثة (٤) ، وكذلك البغوي في صحاح المصابيح (٥) .

وقال الحافظ الكنجي في الباب الخامس والعشرين من كتاب البيان بعد نقله لحديث الدجّال من طريق عبد الوارث بن عبد الصمد ـ الذي رواه أيضاً مسلم ـ ما لفظه : هذا حديث صحيح متّفق على صحّته (٦) . وقد دلّ على وجود شخص كافر مضلّ في حياة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و إنّه يبقى إلى آخر

__________________

(١) راجع ص : ١٦ وما بعدها .

(٢) انظر مسند أحمد ١ : ٣١٨ ، المستدرك للحاكم ٢ : ٢٥٤ ، وراجع كتاب الفتن لنعيم ابن حماد : ٣٨٦ ، وكتاب السنن الواردة في الفتن للداني ، وكتاب العرف الوردي للجلال السيوطي .

(٣) صحيح البخاري ٩ : ٦٩٦ / ١٠٩٤ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٢٤٠ ب ١٩ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١١٥ / ٤٣١٥ ، الفتن لنعيم بن حمّاد : ٣٦٦ ، كمال الدين وتمام النعمة : ٥ / ٥٢٨

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٢٢٦١ ب ٢٤ .

(٥) مصابيح السنّة للبغوي ٣ : ٤٩٥ .

(٦) البيان الملحق بكفاية الطالب : ٥٢٦ ، البيان الملحق بكتاب إلزام الناصب ٢ : ٤٥ .

٩٩

الزمان ، فكلّ ما يكون الوجه والحكمة والمصحّح لوجوده و بقائه وعدم موته مع إخبار رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بموت كلّ من على وجه الأرض إلى مائة سنة فهو الوجه في بقاء المهدي عليه‌السلام وهو إمام الزمان.

كلامه في الخضر عليه‌السلام :

ثمّ قال ابن تيميّة : واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل ، فمن الذي يسلّم لهم بقاء الخضر ، والذي عليه سائر العلماء والمحقّقون أنّه مات (١) .

أقول : أوّلاً : هذا الحافظ العلّامة ابن حجر المكّي في الفتاوى الحديثيّة في صفحة ١٣٢ من النسخة المطبوعة بالمطبعة الميمنيّة بمصر سنة ١٣٠٧ يقول في جواب من سأله : ما المعتمد في الخضر هل هو نبي حيّ وكذا إلياس ؟ ما لفظه بحروفه : المعتمد حياتهما ونبوتهما ، وأنّهما خصّا بذلك في الأرض كما خصّ إدريس وعيسى صلّى اللَّه عليهما وسلّم ببقائهما حيّين في السماء ، انتهى .

وثانياً : عقد الحافظ المجتهد الجلال السيوطي في الخصائص الكبرى باب اجتماعه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخضر وعيسى (٢) ، وأخرج الحديث بذلك من طرق صحيحة عديدة من كتب الشيوخ كابن عدي (٣) (٤) والبيهقي (٥)

__________________

(١) منهاج السنّة ٤ : ٩٣ .

(٢) الخصائص الكبرى ٢ : ١٥١ ، والخصائص تحقيق محمّد خليل الهراس ٢ : ٣٤٨ .

(٣) أبو أحمد عبد اللَّه بن عدي بن عبد اللَّه بن محمّد الجرجاني ، كانت ولادته سنة ٢٧٧ ه ، وتوفّي سنة ٣٦٥ ه . الأنساب للسمعاني ٢ : ٦٤ / ٢٠٧١ .

(٤)الكامل لابن عدي ٧ : ١٩٦ / ١٥٩٩ ، وانظر أيضاً ٣ : ١٧٤ ـ ١٧٥ / ٤٦٢ .

(٥) دلائل النبوّة ٥ : ٤٢٣ .

١٠٠