السيّد حسن الصدر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-629-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤١٦
يغزو بلدة من البلدان كتب كتاباً بقدر الخنصر فتجيبه العربان وتلبّي دعوته من كلّ مكان ، و يتحمّلون على أنفسهم كلّ ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب وملبس ومركب لا يكلّفونه بشيء ، وإذا نهبوا شيئاً من الناس يدفعون له الخمس و يأخذون الأربعة الأخماس و يسيرون معه أينما يسير ، لا يستطيعون مخالفته في نقير ولا قطمير ، فإذا ملك قبيلة من العرب سلّطها على من دنا منها واقترب ، وسلّط الاُخرى على ما بعدها حتّى تبدّد شملها ، فملك أوّلاً الشرق بأكمله ، ثمّ إقليم الأحساء ، والبحرين ، وعمان ، ومسكت ، وقَرُبَ ملكُه بغداد والبصرة هذا حدّه من الشمال ، ثمّ رجع إلى الجنوب فملك الحرار بأسرها ، ثمّ الخيون ذوات النخيل ، وملك الحربيّة ، والفرع ، وجهينة ، ثمّ ملك جميع ما بين مدينة النبيّ صلىاللهعليهوآله والشام حتّى قَرُبَ ملكُه من الشام وحلب ، وملك العربان الذين بين الشام وبغداد ، وملك عربان المشرق والحجاز والقبائل التي حول الطائف ، ثمّ ملك الطائف وكذا القبائل التي حول مكّة ، ثمّ دخل مكّة بالصلح وكانت الحرب بينه وبين سيدنا الشريف غالب رحمهالله من سنة خمس إلى سنة عشرين بعد المائتين والألف إلى أن عجز مولانا الشريف غالب عن حربه ، ولم يبق أحد إلّا صار من حزبه ، فدخل مكّة بالصلح سنة عشرين واستمرّ فيها إلى غاية سنة سبع وعشرين حين جهزّت الدولة العليّة عليه بعساكرها المنصورة ، ووجهت الأمر إلى الوزير المفخّم محمّد علي پاشا صاحب مصر (١) ، فأتاه بجيوش من العساكر المنصورة ، فطهّر الأرض منه ومن أتباعه ، ثمّ جهّز ابنه إبراهيم
__________________
(١) المعروف بمحمد علي الكبير ، مؤسّس آخر دولة ملكية بمصر ، ألباني الأصل ، ولد في قولة ( باليونان ) وكان اُمّياً ، تعلّم القراءة في الخامسة والأربعين من عمره ، ولي مصر سنة ١٢٢٠ ه ، وتوفّي سنة ١٢٦٥ ه ودفن بالقاهرة . الأعلام للزركلي ٦ : ٢٩٩ .
پاشا (١) فوصل بجيوشه إلى الدرعيّة سنة ثلاث وثلاثين بعد المائتين والألف ، فأفنى وأباد من بقي منهم ، وكان تاريخ خروجهم من مكّة سنة ألف ومائتين وسبع وعشرين ، وقد أرّخ ذلك مفتي مكّة المفتي عبد الملك القلعي (٢) لمّا سأله مولانا الشريف غالب : هل أرّخت خروجهم ؟ فقال : ( قطع دابر الخوارج ) .
قال : سيأتي إن شاء اللَّه الكلام على محاربات مولانا الشريف غالب له (٣) .
في ردّ شبه ابن عبد الوهّاب
ولكن ينبغي أوّلاً أن نذكر الشبهات التي تمسّك بها في إضلال العباد ، ثمّ نذكر الردّ عليه ببيان أنّ كلّ ما تمسّك به زور وافتراء وتلبيس على العوام الموحّدين .
فمن شبهاته التي تمسّك بها :
الاُولى : زعمه أنّ الناس مشركون في توسّلهم بالنبي صلىاللهعليهوآله و بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين ، وفي زيارتهم قبره صلىاللهعليهوآله وندائهم له بقول :
__________________
(١) قائد من ولاة مصر ، ولد في ( نصرتلي ) بالقرب من ( قولة ) قدم مصر سنة ١٢٢٠ ه فتعلّم بها ، وأرسله أبوه سنة ١٢٣٠ ه بحملة إلى الحجاز ونجد ، ونزل له أبوه عن الإمارة سنة ١٢٦٤ ه ، ومرض بعد أيّام فتوفي قبل وفاة أبيه . الأعلام للزركلي ١ : ٧٠ .
(٢) ابن عبد المنعم بن تاج الدين الحنفي . فقيه أقام بمكّة وأفتى بها ، وتوفّي بها سنة ١٢٢٩ ه ، من آثاره : الكواكب الدرّيّة من فتاوى القلعية . معجم المؤلّفين ٦ : ١٨٥ .
(٣) خلاصة الكلام في بيان اُمراء البلد الحرام : ٣١٣ ـ ٣١٤ ، وكشف الارتياب في أتباع محمّد بن عبد الوهّاب : ٤٠ .
يا رسول اللَّه نسألك الشفاعة ، وزعم أنّ ذلك كلّه إشراك ، وحمل الآيات القرآنيّة التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين كقوله تعالى : ( فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) (١) ، وقوله تعالى : ( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُو إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ وَ هُمْ عَن دُعَآلِهِمْ غَفِلُونَ * وَ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَ كَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَفِرِينَ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( وَ لَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَ لَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّلِمِينَ ) (٤) ، وقوله تعالى : ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ إِلَّا كَبَسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَلِغِهِ وَ مَا دُعَآءُ الْكَفِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَلٍ ) (٥) ، وقوله تعالى : ( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (٦) ، وقوله تعالى : ( قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَ لَا تَحْوِيلاً * أُوْلَئكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُو إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) (٧) وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن ، كلّها حملها على
__________________
(١) سورة الجنّ ١٧٢ : ١٨ .٨ : ٧٢ .
(٢) سورة الأحقاف ٤٦ : ٥ و٦ .
(٣) سورة الشعراء ٢٦ : ٢١٣ .
(٤) سورة يونس ١٠ : ١٠٦ .
(٥) سورة الرعد ١٤ : ١٣ .
(٦) سورة فاطر ٣٥ : ١٣ ـ ١٤ .
(٧) سورة الإسراء ١٧ : ٥٦ ـ ٥٧ .
الموحّدين .
قال محمّد بن عبد الوهّاب : إنّ مَن استغاث أو توسّل بالنبي أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنّه يكون مثل هؤلاء المشركين ، ويكون داخلاً في عموم هذه الآيات .
وجعل زيارة قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله أيضاً مثل ذلك (١) وقال في قوله تعالى حكاية عن المشركين في اعتذارهم عن عبادة الأصنام : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) (٢) : إنّ المتوسّلين مثل هؤلاء المشركين الذين يقولون : ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى اللَّه زلفى فإنّ المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنّها تخلق شيئاً بل يعتقدون أنّ الخالق هو اللَّه تعالى بدليل قوله تعالى : و ( وَ لَئن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (٣) ، وفي قوله تعالى : ( وَ لَئن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَ تِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (٤) ، فما حكم اللَّه عليهم بالكفر والإشراك إلّا لقولهم : ( لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ، فهؤلاء مثلهم .
هكذا احتجّ محمّد بن عبد الوهّاب ومن تبعه على المؤمنين (٥) .
وهي حجّة باطلة : فإنّ المؤمنين ما اتّخذوا الأنبياء ولا الأولياء آلهةً ، وما جعلوهم شركاء اللَّه ، بل هم يعتقدون أنّهم عبيد اللَّه مخلوقون له ، ولا يعتقدون استحقاقهم العبادة ، ولا أنّهم يخلقون شيئاً ، ولا أنّهم يملكون نفعاً
__________________
(١) راجع كشف الشبهات : ١٠ .
(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٣ .
(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٣٨ .
(٥) راجع مصباح الظلام : ١٧ ، خلاصة الكلام : ٣١٤ ـ ٣١٥ ، الدرر السنيّة ( الوهابيّة المتطرفة ١ ) : ٣٠٨ ، فتنة الوهابيّة ( الوهابيّة المتطرفة ١ ) : ٣٣٥ ، شواهد الحقّ : ١٥٢ .
أو ضرّاً ، و إنّما قصدوا التبرّك بهم لكونهم أحبّاء اللَّه المقرّبين الذين اصطفاهم واجتباهم ، و ببركتهم يرحم اللَّه عباده ، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنّة سنذكر لك كثيراً منها (١) ، فاعتقاد المسلمين أنّ الخالق النافع الضارّ هو اللَّه وحده ولا يعتقدون استحقاق العبادة إلّا للَّه وحده ، ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه ، وأمّا المشركون الذين نزلت فيهم الآيات السابق ذكرها فكانوا يتّخذون الأصنام آلهة ، والإله معناه المستحق للعبادة ، فهم يعتقدون استحقاق الأصنام للعبادة ، فاعتقادهم استحقاقها العبادة هو الذي أوقعهم في الشرك ، فلمّا اُقيمت عليهم الحجّة بأنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً قالوا : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) .
فكيف يجوز لمحمّد بن عبد الوهّاب وأتباعه أن يجعلوا المؤمنين الموحّدين مثل اُولئك المشركين الذين يعتقدون اُلوهيّة الأصنام ؟ !
إذا علمت هذا تعلم أنّ جميع الآيات المتقدّم ذكرها (٢) وما ماثلها من الآيات خاص بالكفّار المشركين ، ولا يدخل فيها أحد من المؤمنين ؛ لأنّهم لا يعتقدون اُ لوهية غير اللَّه تعالى ولا يعتقدون استحقاق العبادة لغيره ، وقد تقدّم حديث البخاري عن ابن عمر في وصف الخوارج : « أنّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفّار فحملوها على المؤمنين » فهذا الوصف صادق على ابن عبد الوهّاب وأتباعه فيما صنعوه ، ولو كان شيء ممّا صنعه المؤمنون من التوسّل إشراكاً ما كان يصدر من النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه وسلف الاُ مّة وخلفها فإنّهم جميعهم كانوا يتوسّلون ، فقد كان من دعائه صلىاللهعليهوآله : « اللّهمّ إنّي أسألك
__________________
(١) ستأتي في هذه الصفحة وما بعدها
(٢) تقدم ذكرها آنفاً .
بحقّ السائلين عليك » (١) وهذا توسّل صريح لا شكّ فيه وكان يعلّم هذا الدعاء أصحابه و يأمرهم بالإتيان به .
فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضياللهعنه قال : قال رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله : « من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : اللّهم إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك ، وأسألك بحقّ ممشاي هذا إليك ، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة ، خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، فأسألك أن تعيذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت . أقبل اللَّه عليه بوجهه ، واستغفر له سبعون ألف ملك » (٢) .
وذكره الجلال السيوطي في الجامع الكبير (٣) ، وذكره أيضاً كثير من الأئمّة في كتبهم عند ذكر الدعاء المسنون عند الخروج إلى الصلاة (٤) ، قال بعضهم: ما من أحد من السلف إلّا وكان يدعوا بهذا الدعاء عند خروجه إلى الصلاة .
فانظر قوله : « أسألك بحقّ السائلين عليك » فإنّ فيه التوسّل بكلّ عبد مؤمن ..
وروى الحديث المذكور أيضاً ابن السنّي بإسناد صحيح عن بلال مؤذّن رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله ورضي اللَّه عنه ولفظه : كان رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله إذا خرج إلى الصلاة قال : « بسم اللَّه آمنت باللَّه وتوكّلت على اللَّه ولا حول ولا قوّة إلّا
__________________
(١) رواه ابن القيّم الجوزية في زاد المعاد ٢ : ١٤ عن عطيّة العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عنه صلىاللهعليهوآله وفيه زيادة فى آخره .
(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٢٥٦ / ٧٧٨ .
(٣) جامع الأحاديث عن الجامع الكبير ٧ : ٢٦ : ٢٠٥٩٩ .
(٤) انظر مسند أحمد ٣ : ٩١ ، مسند ابن الجعد : ٢٩٩ / ٢٠٣١ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٦ : ٢٦ / ٢٩١٩٣ ، كتاب الدعاء للطبراني : ١٤٩ باب ٤٦ حديث ٤٢١ ، الأذكار النوويّة : ٣٠ ، كنز العمال ١٥ : ٣٩٦ / ٤١٥٣٥ .
باللَّه ، اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك ، وبحقّ مخرجي هذا ، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة ، خرجت ابتغاء مرضاتك ، واتّقاء سخطك ، أسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة » (١) .
رواه الحافظ أبو نعيم في عمل اليوم والليلة (٢) من حديث أبي سعيد بلفظ : كان رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله إذا خرج إلى الصلاة قال : « اللّهمّ .. .« إلى آخر ما تقدّم في رواية ابن السنّي .
ورواه البيهقي في كتاب الدعوات من حديث أبي سعيد أيضاً (٣) .
ومحلّ الاستدلال قوله : « بحقّ السائلين عليك » فهذا توسّل صدر منه صلىاللهعليهوآله ، وأمر أصحابه أن يقولوه ، ولم يزل السلف من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم يستعملون هذا الدعاء عند خروجهم إلى الصلاة ولم ينكر عليهم أحد في الدعاء به .
وممّا جاء عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من التوسّل قوله صلىاللهعليهوآله : « اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد ، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي » ، وهذا اللفظ قطعة من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير (٤) والأوسط (٥) ، وابن حبّان (٦) ، والحاكم (٧) وصححوه عن انس بن مالک رضياللهعنه ..
__________________
(١) عمل اليوم والليلة : ٧٥ / ٨٤ ، وعنه في الأذكار النوويّة : ٣٠ .
(٢) انظر العلل لابن أبي حاتم ٥ : ٣٦٦ / ٢٠٤٨ .
(٣) الدعوات الكبير ١ : ١٢٥ / ٦٥ .
(٤) المعجم الكبير ٢٤ : ٣٥١ / ٨٧١ .
(٥) المعجم الأوسط ١ : ١٥٢ / ١٩ .
(٦ و ٧) انظر المناقب للخوارزمي : ٤٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٥٧ ، وفاء الوفاء للسمهودي ٣ : ٢٧٧ ، وخلاصة الوفاء للسمهودي أيضاً ٢ : ٣٦٩ ، وشواهد الحقّ للنبهاني : ١٥٤ ، والدرر السنيّة ( الوهابيّة المتطرّفة ١ ) : ٢٧٠ .
وروى ابن أبي شيبة عن جابر رضياللهعنه مثل ذلك . وروى مثله ابن عبد البرّ (١) عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما ، رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس (٢) ، ذكر ذلك كلّه الحافظ السيوطي في الجامع الكبير (٣) .
ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسّل ما رواه الترمذي (٤) والنسائي (٥) والبيهقي (٦) والطبراني (٧) بإسناد صحيح عن عثمان ابن حنيف ـ وهو صحابي مشهور رضياللهعنه ـ أنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال : ادع اللَّه أن يعافيني . فقال : « إن شئت دعوت و إن شئت صبرت وهو خير » قال : فادعه . فأمره أن يتوضّأ فليحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء : « اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى ، اللّهمّ شفّعه فيّ » ، فعاد وقد أبصر .
وفي رواية قال ابن حنيف : فواللَّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضرّ قط (٨) .
وخرّج هذا الحديث أيضاً البخاري في تاريخه (٩) ، وابن ماجة (١٠) ،
__________________
(١) الاستيعاب ٤ : ١٨٢ ـ ١٨٣ .
(٢) حلية الأولياء ٣ : ٢١٢ .
(٣) الجامع الكبير ٤ : ٤٢٠ / ١٢٥٣٩ ، وانظر الدرر السنيّة لزيني دحلان : ٩ . ، وصحّحوه عن أنس بن مالك رضياللهعنه .
(٤) صحيح الترمذي ٥ : ٢٢٩ / ٣٦٤٩ .
(٥) اليوم والليلة للنسائي ١ : ٤١٧ / ٦٥٩ ـ ٦٦٠ .
(٦) دلائل النبوّة ٦ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، وعنه المقريزي في إمتاع الأسماع ١١ : ٣٢٥ .
(٧) المعجم الكبير ٩ : ٣١ / ٢٨٣١١ ، والمعجم الصغير : ١٨٣ .
(٨) المستدرك للحاكم ١ ، ٥١٩ ، عمل اليوم والليلة لابن السنّي ١ : ٥٨١ / ٨٥٩٠ .
(٩) التاريخ الكبير ٦ : ٥٦ / ٨٢٦٣ .
(١٠) سنن ابن ماجة ١ : ٤٤١ / ١٣٨٥ .
والحاكم في المستدرك (١) بإسناد صحيح ، وذكره الجلال السيوطي في الجامع الكبير (٢) والصغير (٣) ، ففي هذا الحديث التوسّل والنداء وابن عبد الوهّاب يمنع كلّاً منهما و يحكم بكفر من فعل ذلك.
وليس لابن عبد الوهّاب أن يقول : إنّ هذا إنّما كان في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لأنّ الدعاء استعمله أيضاً الصحابة والتابعون بعد وفاته صلىاللهعليهوآله لقضاء حوائجهم فقد روى الطبراني (٤) والبيهقي (٥) : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان في زمن خلافته في حاجة فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف ، فقال له : ائت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ائت المسجد فصلّ ، ثمّ قل : « اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد نبي الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك لتقضي حاجتي » وتذكر حاجتك . فانطلق الرجل فصنع ذلك ، ثمّ أتى باب عثمان رضياللهعنه ، فجاء البوّاب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه وقال : اذكر حاجتك . فذكر حاجته فقضاها ، ثمّ قال له : ما كان لك من حاجة فاذكرها . ثمّ خرج من عنده فلقى ابن حنيف فقال له : جزاك اللَّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ، كلّمته لي ؟ فقال ابن حنيف : واللَّه ما كلّمته ، ولكنّي شهدت رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره إلى آخر الحديث المتقدّم . فهذا توسّل ونداء بعد وفاته صلىاللهعليهوآله .
__________________
(١) المستدرك علي الصحيحين ١ : ٥٢٦ .
(٢) الجامع الكبير ٣ : ٢٧٢ / ٨٥٩٠ .
(٣) الجامع الصغير ١ : ٢٢٧ / ١٥٠٨ .
(٤) الدعاء : ٣٢٠ / ١٠٥٠ ، المعجم الصغير ١ : ١٨٣ ، المعجم الكبير ٩ : ٣٠ / ٨٣١١ .
(٥) دلائل النبوّة ٦ : ١٦٧ .
وروى البيهقي وابن [ أبي ] شيبة بإسناد صحيح : أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضياللهعنه ، فجاء بلال بن الحارث رضياللهعنه (١) إلى قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله وقال : يا رسول اللَّه استسق لاُمّتك فإنّهم هلكوا ، فأتاه رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله في المنام وأخبره أنّهم يسقون (٢) .
وليس الاستدلال بالرؤيا للنبي صلىاللهعليهوآله فإنّ رؤياه و إن كانت حقّاً لكن لا نثبت بها الأحكام لإمكان اشتباه الكلام على الرائي لا لشكّ في الرؤيا ، و إنّما الاستدلال بفعل بلال بن الحارث في اليقظة فإنّه من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإتيانه لقبر رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله ونداؤه له وطلبه أن يستسقي لاُ مّته دليل على أنّ ذلك جائز ، وهو من باب التوسّل والتشفّع والاستغاثة به صلىاللهعليهوآله وذلك من أعظم القربات .
وقد توسّل به صلىاللهعليهوآله أبوه آدم قبل وجوده صلىاللهعليهوآله حين أكل من الشجرة التي نهاه اللَّه عنها ، قال بعض المفسّرين في قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) (٣) : إنّ الكلمات هي توسّله بالنبي صلىاللهعليهوآله (٤) .
وروى البيهقي بإسناد صحيح في كتابه دلائل النبوّة ـ الذي قال فيه الحافظ الذهبي : عليك به فإنّه كلّه هدىً ونور (٥) ـ عن عمر بن الخطّاب
__________________
(١) بلال بن الحارث المزني ، صحابي ، كان يحمل لواء مزينة في فتح مكّة ، ثمّ سكن البصرة ، توفّي سنة ٦٠ ه وله ٨٠ سنة . الأعلام للزركلي ٢ : ٧٢ .
(٢) دلائل النبوّة ٧ : ٤٧ ، المصنّف ٦ ک ٣٥٩ / ٣١٩٩٣ .
(٣) سورة البقرة ٢ : ٣٧ .
(٤) في تفسير القرطبي ١ : ٣٢٤ : رأى آدم مكتوباً على ساق العرش : محمّد رسول اللَّه ، فتشفّع به . وراجع تفسير الجواهر الحسان للثعالبي ١ : ٦٧ ، وروح المعاني ١ : ٣٢٧ ، وانظر التبيان للشيخ الطوسي ١ : ٢٣٧ ، وجوامع الجامع للشيخ الطبرسي ١ : ٩٧ .
(٥) عنه في الرسالة المستطرفة للكتّاني : ١٠٥ .
قال : قال رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله : « لمّا اقترف آدم الخطيئة قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمّد إلّا ما غفرت لي ، فقال اللَّه تعالى : يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه ، قال : يا ربّ أنّك لمّا خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك ، فقال اللَّه تعالى : صدقت يا آدم إنّه لأحبّ الخلق إليّ وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك ، ولولا محمّد ما خلقتك » (١) .
ورواه أيضاً الحاكم وصحّحه (٢) ، والطبراني وزاد فيه : « وهو آخر الأنبياء من ذريّتك » (٣) .
و إلى هذا التوسّل أشار الإمام مالك رحمهالله للخليفة الثاني من بني العبّاس وهو المنصور جدّ الخلفاء العبّاسيين ، وذلك أنّه لمّا حجّ المنصور المذكور وزار قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله سأل الإمام مالكاً وهو بالمسجد النبوي وقال له : يا أبا عبد اللَّه ، أستقبل القبلة وأدعوا أم أستقبل رسول اللَّه ؟ فقال مالك : ولمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللَّه تعالى بل
__________________
(١) دلائل النبوّة ٥ : ٤٨٩ .
(٢) المستدرك ٢ : ٦١٥ . قال : هذا حديث صحيح الإسناد . ونقله الذهبي في التخليص إلّا أنّه قال في عبد اللَّه بن مسلم الفهري : لا أدري من ذا !
(٣) المعجم الصغير ٢ : ٨٢ ، وفيه : « وهو آخر النبين من ذرّيتك وأنّ اُمّته آخر الاُمم من ذريّتك ولو لاه يا آدم ما خلقتك » ، المعجم الأوسط ٧ : ٢٥٩ / ٦٤٩٨ ، وفيه : « أنّه آخر النبيين من ذريّتك وأنّ اُمّته آخر الاُمم من ذريّتك ولو لا هؤلاء يا آدم ما خلقتك » . وفي مجمع البيان ١ : ٨٩ : ١ رواية تختصّ بأهل البيت أنّ آدم رأى مكتوباً بأعلى العرش أسماء والأسماء : محمّد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، فتوسّل آدم إلى ربّه بهم . وهذا يشهد بتحريف ما في الأوسط ؛ لأنّ فيه : « ولو لا هؤلاء .. . » فإنّ كلمة هؤلاء تدلّ على الجمع مع أنّ المذكور هو محمّد صلىاللهعليهوآله فقط ، وكذلك « الكلمات » في الآية الكريمة .
استقبله واستشفع به فيشفّعه اللَّه فيك قال اللَّه تعالى : ( وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١) .
ذكره القاضي في الشفا (٢) وساقه بإسناد صحيح ، وذكره الإمام السبكي في شفاء السقام في زيارة خير الأنام (٣) ، والسيّد السمهودي في خلاصة الوفاء (٤) ، والعلّامة القسطلاني في المواهب اللدنيّة (٥) ، والعلّامة ابن حجر في تحفة الزوّار (٦) والجوهر المنظم (٧) ، وذكره كثير من أرباب المناسك في آداب زيارة النبيّ صلىاللهعليهوآله (٨) .
قال العلّامة ابن حجر في الجوهر المنظم : رواية ذلك عن الإمام مالك جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه (٩) .
وقال العلّامة الزرقاني في شرح المواهب : ورواها ابن فهد (١٠) بإسناد جيّد ، ورواها القاضي عياض في الشفا بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس في إسنادها وضّاع ولا كذّاب (١١).
__________________
(١) سورة النساء ٦ : ٦٤ .
(٢) الشفا ٢ : ٢٧٦ ، وراجع شرح الشفا للخفاجي ٤ : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ .
(٣) شفاء السقام : ٦٩ .
(٤) خلاصة الوفاء ١ : ٤٢٥ .
(٥) المواهب اللدنّيّة ٤ : ٤٨٠ .
(٦) تحفة الزوّار : ١٤١ ، وعنه في كشف الارتياب : ٣١٧ .
(٧) الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرّم ( الوهابية المتطرفة ١ ) : ١٢٩ و ١٣٩ .
(٨) راجع دفع الشبه عن الرسول صلىاللهعليهوآله للحصني : ١٤٠ ، سبل الهدى للشامي ١١ : ٤٣٩ ، تاريخ مكّة المشرّفة لابن الضياء : ٢٤٢ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ١٤ : ٦١٧ .
(٩) الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرّم ( الوهابية المتطرفة ١ ) : ١٣٩ .
(١٠) في المصدر : أبو الحسن بن فهر .
(١١) انظر شرح المواهب ١٢ : ١٩٤ .
ومراده بذلك الردّ على ابن تيميّة ومن لم يصدق رواية ذلك عن الإمام مالك ونسب له كراهية استقبال القبر ، فنسبة الكراهيّة إلى الإمام مالك مردودة .
واستسقى عمر بن الخطّاب في زمن خلافته بالعبّاس بن عبد المطلب رضياللهعنه عمّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا اشتدّ القحط عام الرمادة فسقوا ، وذلك مذكور في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك رضياللهعنه (١) ، وذلك من التوسّل .
بل في المواهب اللدنيّة للعلّامة القسطلاني : أنّ عمر لمّا استسقى بالعبّاس رضياللهعنه قال : يا أيّها الناس إنّ رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله كان يرى للعبّاس ما يرى الولد للوالد ، فاقتدوا به في عمّه العبّاس ، واتّخذوه وسيلة إلى اللَّه تعالى (٢) .
ففيه : التصريح بالتوسّل ، وهذا يبطل قول من منع التوسّل مطلقاً سواء كان بالأحياء أو بالأموات ، وقول من منع ذلك بغير النبيّ صلىاللهعليهوآله ؛ لأنّ فعل عمر حجّة لقوله صلىاللهعليهوآله : « إنّ اللَّه جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه » رواه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر (٣) ، ورواه الإمام أحمد أيضاً وأبو داوُد والحاكم في المستدرك عن أبي ذرّ رضياللهعنه (٤) ، ورواه أبو عليّ (٥) والحاكم في المستدرك أيضاً عن أبي هريرة (٦) ، ورواه الطبراني في الكبير عن بلال
__________________
(١) صحيح البخاري كتاب الاستسقاء الباب : ٦٤٠ الرقم : ٩٤٧ .
(٢) المواهب اللدنية ٣ : ٢٥٦ ، وراجع المستدرك للحاكم ٣ : ٣٣٤ ، صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان ٧ : ١١٠ ـ ١١١ / ٢٨٦١ .
(٣) مسند أحمد ٢ : ٥٣ و ٩٥ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٨٠ / ٣٧٦٥ ..
(٤) مسند أحمد ٢ : ٤٠١ عن مسور بن مخرمة ، عن أبي هريرة ، سنن أبي داوُد ٣ : ١٣٨ / ٢٩٦١ . المستدرك ٣ : ٨٧ .
(٥) كذا في النسختين ولعلّ الأنسب أبو يعلى كما في سبل الهدى والرشاد ١١ : ٢٦٦ ، وكشف الخفاء للعجلوني وغيرهما .
(٦) المستدرك ٣ : ٨٦ ـ ٨٧ .
ومعاوية (١) .
وروى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل عن الفضل بن العبّاس : أنّ رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله قال : « عمر معي وأنا مع عمر ، والحقّ بعدي مع عمر حيث كان » (٢) ، وهذا مثل ما صحّ في حقّ عليّ عليهالسلام حيث قال رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله في حقّه : « وأدر الحقّ معه حيث دار » ، وهو حديث صحيح رواه كثير من أصحاب السنن (٣) ، فكلّ من عمر وعلي رضياللهعنه يكون الحقّ معه حيث كان (٤) .
ثمّ ذكر أدلّة اُخر على أنّ توسّل عمر بالعبّاس حجّة على الجواز .
ثمّ قال : و إنّما استسقى عمر بالعبّاس ولم يستسق بالنبي صلىاللهعليهوآله ليبيّن للناس أنّ الاستسقاء بغير النبيّ صلىاللهعليهوآله جائز ومشروع لا حرج فيه ؛ لأنّ الاستسقاء بالنبي صلىاللهعليهوآله كان معلوماً عندهم ، فلربّما يتوهّم بعض الناس أنّه لا يجوز الاستسقاء بغير النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فبيّن لهم عمر الجواز ، ولو استسقى بالنبي صلىاللهعليهوآله لأفهم أنّه لا يجوز الاستسقاء بغيره (٥) .
ولا يصحّ أن يقال : إنّما استسقى بالعبّاس ولم يستسق بالنبي صلىاللهعليهوآله لأنّ العبّاس حيّ والنبيّ صلىاللهعليهوآله قد مات لأنّ الاستسقاء إنّما يكون بالحي .
__________________
(١) المعجم الكبير ١ : ٣٥٤ / ١٠٧٧ ، والمعجم أيضاً ١٩ : ٣١٢ / ٧٠٧ ، وراجع مجمع الزوائد ٩ : ٦٦ عن أبي هريرة ، وعمر نفسه ، وابن عمر ، و بلال ، ومعاوية ، وعائشة .
(٢) المعجم الكبير ١٨ : ٢٨١ / ٧١٨ ، الكامل في الضعفاء ٥ : ٢٤٦ ، وفيه : ابن عباس بدل : الفضل بن عبّاس .
(٣) مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ١ : ١١٤ / ١٣٥ ، أرجح المطالب : ٥٩ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ / ٣٧٩٨، مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤ .
(٤) خلاصة الكلام في بيان اُمراء البلد الحرام : ٣٢٤ ـ ٣١٣ .
(٥) خلاصة الكلام في بيان اُمراء البلد الحرام : ٣٢٤ ، الدرر السنية في الردّ على الوهابيّة ( الوهابية المتطرفة ١ ) : ٢٧٥ .
لأنّ هذا القول باطل مردود بأدلّة كثيرة :
منها : توسّل الصحابة به صلىاللهعليهوآله بعد وفاته كما تقدّم في القصّة التي رواها عثمان بن حنيف (١) ، وكما في حديث بلال بن الحارث (٢) ، وكما في توسّل آدم رواه عمر كما تقدّم (٣) ، فكيف يعتقد عدم صحّته بعد وفاته ، وقد روي التوسّل به قبل وجوده مع أنّه صلىاللهعليهوآله حي في قبره (٤) .
فتلخّص من هذا : أنّه يصحّ التوسّل به صلىاللهعليهوآله قبل وجوده وفي حياته وبعد وفاته ، وأنّه يصحّ التوسّل أيضاً بغيره من الأحياء كما فعله عمر حين استسقى بالعبّاس ، وذلك من أنواع التوسّل كما تقدّم .
و إنّما خصّ عمر العبّاس من بين سائر الصحابة ، لإظهار شرف أهل بيت رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله ، ولبيان أنّه يجوز التوسّل بالمفضول مع وجود الفاضل ، فإنّ عليّاً رضياللهعنه كان موجوداً وهو أفضل من العبّاس .
قال بعض العارفين : وفي توسّل عمر بالعبّاس دون النبيّ صلىاللهعليهوآله نكتة اُخرى أيضاً زيادة على ما تقدّم وهي : شفقة عمر على ضعفاء المؤمنين
__________________
(١) راجع ص : ٢٠٨ و ٢٠٩ .
(٢) تقدّم في ص : ٢١٠ .
(٣) تقدم في ص : ٢١٠ ـ ٢١١ .
(٤) صنّف البيهقي ( ت ٤٥٨ ه ) صاحب السنن الكبرى كتاباً سمّاه حياة الأنبياء في قبورهم ، أورد فيه أحاديث ، منها : « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون » ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنّف ٢ : ٢٥٤ / ٨٦٩٧ و ٨٧٠٥ ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده ٣ : ٢١٦ / ٣٤١٢ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٣ : ١٧٣ ، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان ٢ : ٤٤ / ١٠٢٦ ، وغيرهم .
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ٦ : ١٦١ : وهو حيّ في لحده ، حياة مثله في البرزخ التي هي أكمل من حياة سائر النبيين ، وحياتهم بلا ريب أتمّ وأشرف من حياة الشهداء الذين هم بنصّ الكتاب ( أحياء عند ربّهم يرزقون ) آل عمران ٣ : ١٦٩ .
وعوامهم ، فإنّه لو استسقى بالنبي صلىاللهعليهوآله لربّما تتأخّر الإجابة لأنّها معلّقة بإرادة اللَّه ومشيته ، فإذا تأخّرت الإجابة ربّما يقع وسوسة واضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخّر الإجابة ، بخلاف ما إذا كان التوسّل بغير النبيّ صلىاللهعليهوآله فإنّه إذا تأخّرت الإجابة لا تحصل تلك الوسوسة والاضطراب .
والحاصل : أنّ مذهب أهل السنّة والجماعة صحّة التوسّل وجوازه بالنبي صلىاللهعليهوآله في حياته و بعد وفاته ، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين ، كما دلّت عليه الأحاديث السابقة ، لأنّا معاشر أهل السنّة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إ يجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا ضرّاً إلّا للَّه وحده لا شريك له ، فلا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضرّاً للنبي صلىاللهعليهوآله باعتبار الخلق والإيجاد والتأثير ، ولا لغيره من الأحياء أو الأموات ، فلا فرق في التوسّل بالنبي صلىاللهعليهوآله وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وكذا بالأولياء والصالحين . لا فرق بين كونهم أحياءً أو أمواتاً لأنّهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء و إنّما يتبرّك بهم لكونهم أحبّاء اللَّه تعالى ، والخلق والإيجاد والتأثير للَّه وحده لا شريك له.
وأمّا الذين يفرّقون بين الأحياء والأموات فإنّهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات.
ونحن نقول : اللَّه خالق كلّ شيء ( وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) (١) وهؤلاء المجوّزون التوسّل بالأحياء دون الأموات هم الذين دخل الشرك في توحيدهم لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات ، فهم الذين اعتقدوا تأثير غير اللَّه تعالى فكيف يدّعون المحافظة على التوحيد و ينسبون غيرهم
__________________
(١) سورة الصافات ٣٧ : ٩٦ .
إلى الإشراك ، سبحانك هذا بهتان عظيم ! فالتوسّل والتشفّع والاستغاثة كلّها بمعنى واحد ، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلّا التبرّك بذكر أحباء اللَّه لما ثبت أنّ اللَّه يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً ، فالمؤثّر والموجد حقيقةً هو اللَّه تعالى وهؤلاء سبب عادي في ذلك لا تأثير لهم ، وذلك مثل السبب العادي فأنّه لا تأثير له ، وحياة الأنبياء في قبورهم ثابتة بأدلة كثيرة استدلّ بها أهل السنّة (١) ، وكذا حياة الشهداء والأولياء (٢) ، وليس هذا محل بسط الكلام عليها .
وشبهة هؤلاء المانعين للتوسّل أنّهم رأوا بعض العوام يتوسّعون في الكلام و يأتون بألفاظ توهم أنّهم يعتقدون التأثير لغير اللَّه تعالى ، و يطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلّا من اللَّه تعالى ، و يقولون للولّي : افعل كذا وكذا ، وربمّا يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتّصفوا بها بل اتّصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة ، و ينسبون لهم الكرامات وخوارق عادات وأحوالاً ومقامات ليسوا بأهل لها ولم يوجد فيهم شيء منها ..
فإن أراد هؤلاء المانعون للتوسّل أن يمنعوا العامة من تلك التوسّعات دفعاً للإيهام وسدّاً للذريعة وإن كانوا يعلمون أنّ العامّة لا يعتقدون تأثيراً ولا نفعاً ولا ضرّاً لغير اللَّه تعالى ولا يقصدون بالتوسّل إلّا التبرّك ، ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فيهم تأثيراً ..
__________________
(١) مسند أبي يعلى ٣ : ٢١٦ / ٣٤١٢ ، الفوائد لابن مندة : ٧٤ / ٤٩ ، والبيهقي في كتابه الذي جمع في حياة الأنبياء في قبورهم : ٧٤ / ٣ ، تاريخ دمشق ١٣ : ٣٢٦ / ١٤٠٤ ، الكامل لابن عدي ٣ : ١٧٣ / ٤٦٠ ، تلخيص الحبير ٥ : ١٩٨ ، فتح الباري ٦ : ٣٤٥ ، مجمع الزوائد ٨ : ٢١١ ، سبل الهدى والرشاد ١٢ : ٣٥٧ .
(٢) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ٣ : ١٨٤ / ٣٠٨٩ .
فنقول لهم : إذا كان الأمر كذلك وقصدتم سدّ الذريعة فما الحاصل لكم على تكفير الاُمّة عالمهم وجاهلهم خاصّهم وعامّهم ؟ !
وما الحاصل لكم على منع التوسّل مطلقاً ؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامّة من الألفاظ الموهمة ، وتأمروهم بسلوك الأدب في التوسّل ، مع أنّ تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على الإسناد المجازي عقليّاً كما يحمل على ذلك قول القائل : هذا الطعام أشبعني ، وهذا الماء أرواني ، وهذا الدواء أو الطبيب نفعني ، فإنّ ذلك كلّه عند أهل السنّة محمول على المجاز العقلي ، فإنّ الطعام لا يشبع والمشبع هو اللَّه تعالى والطعام سبب عادي لا تأثير له وكذا ما بعده ، فالمسلم الموحّد متى صدر منه إسناد الشيء لغير من هو أهله يجب حمله على المجاز العقلي ، و إسلامه وتوحيده قرينة على ذلك كما نصّ على ذلك علماء المعاني في كتبهم وأجمعوا عليه .
وأمّا منع التوسّل مطلقاً ، فلا وجه له مع ثبوته في الأحاديث الصحيحة ، ومع صدوره من النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه وسلف الاُمّة وخلفها ، وهؤلاء المنكرون للتوسّل المانعون منه ، منهم من يجعله حراماً ، ومنهم من يجعله كفراً وشركاً ، لأنّه يؤدّي إلى اجتماع معظم الاُ مّة على الحرام أو الإشراك ، وكلّ ذلك باطل ؛ لأنّ من تتبّع كلام الصحابة والعلماء من السلف والخلف يجد التوسّل صادراً منهم ، بل ومن كلّ مؤمن في أوقات كثيرة . واجتماع أكثرهم على الحرام أو الإشراك لا يجوز ، لقوله صلىاللهعليهوآله في الحديث الصحيح : « لا تجتمع اُمّتي على ضلالة » (١) ، بل قال بعضهم : إنّه حديث
__________________
(١) مسند أحمد ٥ : ١٤٥ ، سنن أبي داوُد ٤ : ٩٨ / ٤٢٥٣ ، سنن الترمذي ٤ : ٣٦ / ٢١٦٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣ / ٣٩٥ .
متواتر (١) ، وقال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (٢) فكيف تجتمع كلّها أو أكثرها على ضلالة وهي خير اُمّة اخرجت للناس ، فاللا ئق بهؤلاء المنكرين إذا أرادوا سدّ الذريعة ومنع الألفاظ الموهمة ـ كما زعموا ـ أن يقولوا : ينبغي أن يكون التوسّل بالألفاظ التي ليس فيها إيهام ، كأن يقول المتوسّل : اللّهمّ إنّي أسألك وأتوسّل إليك بنبيّك صلىاللهعليهوآله و بالأنبياء قبله و بعبادك الصالحين أن تفعل بي كذا وكذا ، لا أنّهم يمنعون التوسّل مطلقاً ، ولا أن يتجاسروا على تكفير المسلمين الموحّدين الذين لا يعتقدون التأثير إلّا للَّه وحده لا شريك له.
وممّا تمسك به هؤلاء المنكرون للتوسّل قوله تعالى : ( لَّا تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ) (٣) فإنّ اللَّه نهى المؤمنين في هذه الآية أن يخاطبوا النبيّ صلىاللهعليهوآله بمثل ما يخاطب بعضهم بعضاً كأن ينادوه باسمه ، وقياساً على ذلك لا ينبغي أن يطلب من غير اللَّه تعالى كالأنبياء والصالحين الأشياء التي جرت العادة بأنّها لا تطلب إلّا من اللَّه تعالى ، لئلّا
__________________
ورد الحديث في كتب الإماميّة منها : الاحتجاج للطبرسي ـ ١ : ١١٥ و ٢ : ٤٥٠ ـ مرسلاً عن الإمام الصادق عليهالسلام ، لمّا تمسك أبو بكر لحقّية خلافته بالحديث ردّ عليه أمير المؤمنين عليهالسلام بعدم تحقق الإجماع ولم ينكر أصل الخبر ، وورد أيضاً مرسلاً في تحف العقول : ٤٥٨ عن الإمام الهادي عليهالسلام في أوّل رسالته في مسألة الجبر والتفويض .
(١) قال المحقّق أسد اللَّه الكاظمي في كشف القناع ) باب حجّية الإجماع ( : ٦ : أقوى ما ينبغي أن يعتمد عليه من النقل حديث « لا تجتمع اُمتّي على الخطأ » وما في معناه ، لاشتهاره وقوّة دلالته وتعويل معظمهم ولا سيّما أوائلهم عليه وتلقّيهم له بالقبول لفظاً ومعنىً ، وادّعاء جماعة منهم تواتره معنىً .. إلى آخره .
وانظر الفصول في الاُصول للجصّاص ٣ : ٢٦٤ ، وفواتح الرحموت بشرح سلّم الثبوت ( المستقصى ٢ ) :٢١٥ ، وقال : استحسنه ابن الحاجب .
(٢) سورة آل عمران ٣ : ١١٠ .
(٣) سورة النور ٢٤ : ٦٣ .
يحصل المساواة بين اللَّه تعالى وخلقه بحسب الظاهر و إن كان الطلب من اللَّه على سبيل التأثير والإيجاد ومن غيره على سبيل التسبيب والكسب ، لكنّه ربّما يوهم تأثير غير اللَّه تعالى ، فمنع من ذلك الطلب لدفع هذا الإيهام .
والجواب : أنّ هذا لا يقتضي المنع من التوسّل مطلقاً ، ولا يقتضي منع الطلب إذا صدر من موحّد فإنّه يحمل على المجاز العقلي بقرينة صدوره من موحّد ، فما وجه كونه حراماً أو شركاً ؟ ! فلو قالوا : إنّه خلاف الأدب ، وأجازوا التوسّل وشرطوا فيه أن يكون بالأدب والاحتراز عن الألفاظ الموهمة لكان له وجه ، فالمنع مطلقاً لا وجه له .
ومن الأدلّة على صحّة التوسّل به صلىاللهعليهوآله بعد وفاته ما ذكره العلّامة السيد السمهودي في خلاصة الوفاء حيث قال : روى الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال : قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت : انظروا إلى قبر رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله ، فأجعلوا منه كوّة إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف . ففعلوا فمطروا حتّى نبت العشب وسمنت الإبل حتّى تفتّقت من الشحم ، فسمي عام الفتق (١) .
قال العلّامة المراغي (٢) : وفتح الكوّة عند الجدب سنّة أهل المدينة يفتحون الكوّة في أسفل الحجرة و إن كان السقف حائلاً بين القبر الشريف والسماء (٣) .
قال السيّد السمهودي : وسنّتهم اليوم فتح الباب المواجه للوجه
__________________
(١) انظر سنن الدارمي ١ : ٤٣ وفاء الوفاء ٣٢٠ : ٢ ، وخلاصة الوفاء ٢ : ١٤٢ .
(٢) زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر القرشي العثماني المصري المراغي ، المتوفّي سنة ٨١٦ ه ، من آثاره : تحقيق النصرة في تاريخ دار الهجرة . الغدير ٥ : ١١٤ .
(٣) عن تحقيق النصرة للمراغي ، انظر وفاء الوفاء ٢ : ٣٢٠ ، وخلاصة الوفاء ٢ : ١٤٢ .