البراهين الجليّة - ج ٢

السيّد حسن الصدر

البراهين الجليّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد حسن الصدر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-629-5
ISBN الدورة:
978-964-319-618-9

الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

عليّ ، من أعظم الدعاوي الكاذبة ، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنّها لم تنزل في عليّ بخصوصه ، وأنّ عليّاً لم يتصدّق بخاتمه في الصلاة ، وأجمع أهل العلم بالحديث على أنّ القصّة المرويّة في ذلك من الكذب الموضوع (١) ، انتهى .

أقول : لا يبعد دعوى إجماع أهل العلم بالحديث على نزولها في عليّ عليه‌السلام لاستفاضة الحديث بذلك وتواتره كما عرفت ، ولم يرو أحد من أهل العلم بالحديث ما يناقض ذلك ، أقصى ما عن بعضهم في إحدى الروايتين عموم ( الذين آمنوا ) .

قال ابن جرير في تفسيره ـ في الجزء السادس في صفحة ١٦٥ المطبوع بمصر ـ ما لفظه : وأمّا قوله : (وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُمْ رَ كِعُونَ) فإنّ أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به :

فقال بعضهم : عني به عليّ بن أبي طالب .

وقال بعضهم : عني به جميع المؤمنين .

ذكر من قال ذلك :

حدّثنا محمّد بن الحسين ، قال : حدّثنا أحمد بن المفضّل ، قال : حدّثنا أسباط ، عن السدّي ، قال : ثمّ أخبرهم من يتولّاهم فقال : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُمْ رَ كِعُونَ ) (٢) هؤلاء جميع المؤمنين ، ولكن عليّ بن أبي طالب مرّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه (٣) .

__________________

(١) منهاج السنّة ٧ : ١١ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٥ .

(٣) تفسير السدّي الكبير : ٢٣١ .

١٦١

حدّثنا هناد بن السري ، قال : حدّثنا [ عبدة ] (١) ، عن عبد الملك ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن هذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُمْ رَ كِعُونَ ) قلنا : مَن الذين آمنوا ؟ قال : « الذين آمنوا » قلنا : بلغنا أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب . قال : « عليّ من الذين آمنوا » .

حدّثنا ابن وكيع ، قال : حدّثنا المحاربي ، عن عبد الملك قال : سألت أبا جعفر عن قول اللَّه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ) وذكر نحو حديث هناد عن عبدة .

حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي ، قال : حدّثنا أيوب بن سويد ، قال : حدّثنا عتبة بن حكيم في هذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ) قال : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام .

حدّثني الحارث ، قال : حدّثنا عبد العزيز ، قال : حدّثنا غالب بن عبيد اللَّه ، قال : سمعت مجاهداً يقول : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ) نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام تصدّق وهو راكع ، انتهى ما في تفسير ابن جرير (٢) .

أقول : اذا قال الصحابي نزلت هذه الآية في كذا بسبب كذا دخل في المسند بإجماع أهل العلم ، و إذا وقع هذا من تابعي فهو مرفوع أيضاً لكنه مرسل ، فقد يقبل إذا صحّ المسند إليه وكان من أئمّة التفسير الآخذين عن

__________________

(١) في النسختين : عبد اللَّه ، والمثبت عن المصدر ولما سيأتي ، وعبدة : لقب غلب على عبد الرحمن بن سليمان الكلابي ، المتوفّي سنة ٨٧ ه . التاريخ الكبير ٦ : ١١٥ ، والتعديل والتخريج ٣ : ١٠٤٩ .

(٢) جامع البيان عن تأويل آي القرآن ( تفسير الطبري ) ١٠ : ٤٢٥ بتحقيق أحمد شاكر ومحمّد شاكر ، وتحقيق عبد اللَّه التركي ٨ : ٥٣٠ .

١٦٢

الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، أو اعتضده مرسل آخر وذلك كما ذكره في الإتقان (١) .

وأمّا إذا قال : عنى بهذه الآية كذا فليس من المسند بل يجري مجرى التفسير من قائله ، خصوصاً إذا كان القائل غير الصحابي ، ولم يكن ممّن شاهد التنزيل ووقف على الأسباب..

فإذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الذين قالوا : إنّها نزلت في عليّ عليه‌السلام وذكروا السبب وهو تصدّقه بخاتمه في حال الركوع في الصلاة ، ثمان من كبار الصحابة ممّن شاهدوا التنزيل ووقفوا على السبب ، ومثل مجاهد (٢) وعكرمة (٣) وعتبة بن أبي حكيم (٤) وغالب بن عبد اللَّه (٥) ، وقد صحّ المسند إليهم كما عرفت ، فأين يقع بعد هذا ما عن بعض تبّع التابعين : من إنّ

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ١١٥ ـ ١١٧ .

(٢) ابن جَبْر ، و يقال : ابن جبير ، أبو الحجاج المكّي ، فقيه مقرئ ، مولى عبد اللَّه بن السائب القارئ ، و يقال : مولى قيس بن الحارث المخزومي ، روى عن ابن عبّاس وغيره ، روى عنه طاووس وعطاء وعكرمة ، توفي سنة ١٠٢ أو ١٠٤ أو ١٠٧ أو ١٠٨ ه . انظر طبقات ابن سعد ٥ : ٤٦٦ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٤٩ / ١٧٥ .

(٣) البربري أبو عبد اللَّه المدني ، مولى ابن عباس ، أصله من البربر ، كان لحصين بن أبي الحرّ العنبري فوهبه لابن عباس لمّا ولي البصرة لعلي عليه‌السلام ، روى عن مولاه والإمام علي والإمام الحسن عليهما‌السلام وغيرهم ، قالوا : كان يرى رأي الخوارج مات سنة ١٠٦ ه . انظر طبقات ابن سعد ٥ : ٢٨٧ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٢ / ٩ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٢٦٣ / ٤٦٩ .

(٤) أبو العباس الهمداني الأردني الشامي ثمّ الطبراني ، توفّي بصور سنة ١٤٧ ه . انظر تاريخ دمشق ٣٨ : ٢٢٨ / ٤٥٤٢ ، تهذيب الكمال ١٩ : ٣٠٠ / ٣٧٧١ .

(٥) الجزري العقيلي ، كان من أهل قرقيسيا ـ مدينة على نهر الخابور ـ نزل خراسان ، توفّي سنة ١٣٥ ه . انظر ضعفاء العقيلي ٣ : ٤٣١ / ١٤٧٤ ، والفائق في رواة أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ٢ : ٥٤٦ / ٢٥٤٨.

١٦٣

المعنيّ بها جميع المؤمنين بعد فرض صحّة المسند إليهم ، مع أنّ السدّي (١) المدّعي عمومها قد قال : لكن عليّ بن أبي طالب مرّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه (٢) ، وهذا رواية ، ودعوى العموم منه ليست رواية حينئذ فلا معارضة حينئذ ولا مخالفة في الرواية .

وما يحكى عن أبي جعفر من دعوى العموم (٣) ، لم يصحّ المسند إليه عند أهل العلم بالحديث ، وصحّ روايته نزولها في عليّ عليه‌السلام كما سيأتي(٤) .

وممّا ذكرنا ظهر فضيحة ابن تيميّة في قوله : بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنّها لم تنزل في عليّ بخصوصه ، وأنّ عليّاً لم يتصدّق بخاتمه في الصلاة ، وأجمع أهل العلم بالحديث على أنّ القصّة المرويّة في ذلك من الكذب الموضوع . ولا برهان على شدّة ملكة ابن تيميّة على الكذب والافتراء والنصب أحسن وأقوى من هذا .

يا محروم ، تنقل عن أهل العلم بالحديث ما صرّحوا بنقيضه ، ولم يفُه أحد منهم بما كذبته عليهم في كتاب من كتب الإسلام ، إن لم يصحّ عندك ما أسنده أئمّة الحديث عن الصحابة في نزولها في خصوص عليّ بسبب تصدّقه بالخاتم فلا يمكن إنكار ما في صحيح النسائي ، فإنّه من المجمع

__________________

(١) أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة القرشي الكوفي الأعور ، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة . وقيل : مولى بنى هاشم ، أصله حجازي سكن الكوفة ، وكان يقعد في سدّة باب الجامع بالكوفة فسمّي السدّي ، وهو السدّي الكبير ، رمي بالتشيّع ، روى عن أنس بن مالك وغيره ، توفي سنة ١٢٧ أو ١٢٨ ه . انظر تهذيب الكمال ٣ : ١٣٢ / ٤٦٢ ، ميزان الاعتدال للذهبي ١ : ٢٣٦ / ٩٠٧ .

(٢) تفسير السدّي الكبير : ٢٣١ .

(٣) راجع ص : ١٦١ .

(٤) سيأتي في ص : ١٦٩ .

١٦٤

عليه عند أهل العلم بالحديث ، وابن أبي حاتم ، ومحمّد بن جرير الطبري ، وعبد بن حميد ، وعبد الرزّاق من أهل العلم الكبار في التفسير عندك ، وقد رووا أنّها نزلت في عليّ حين تصدّق بخاتمه في حال الصلاة عن الصحابة والتابعين بإسنادهم إلى كلّ واحد كما تقدّم عن تفسير الدرّ المنثور في الوجه الأوّل من وجوه الجواب عن وجهه الأوّل (١) .

ومن ذكر ذلك في الموضوعات يا محروم ؟ ! ومن ادّعى الإجماع الذي ذكرت ؟ ! هذه كتب أهل العلم بالحديث ، أتحسب أنّك تروّج كذبك على أهل العلم يا محروم ، إنّما يروّج على أوباش الحشويّة ، و بقر الشام من الحنابلة .

ثمّ قال ابن تيميّة : وأمّا ما ينقله عن تفسير الثعلبي فقد أجمع أهل العلم بالحديث أنّ الثعلبي روى طائفة من الأحاديث الموضوعة ، كالحديث الذي يرويه في أوّل كلّ سورة عن أبي اُمامة في فضل تلك السورة ، وكأمثال ذلك ، ولهذا يقولون : هو كحاطب ليل ، وهكذا الواحدي تلميذه وأمثالهما من المفسّرين ينقلون الصحيح والضعيف ، ولهذا لمّا كان البغوي عالماً بالحديث أعلم به من الثعلبي والواحدي وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئاً من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي ولا ذكر تفاسير أهل البدع الذي ذكرها الثعلبي ، مع أنّ الثعلبي فيه خير ودين ، لكنّه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث ، ولا يميّز بين السنّة والبدعة في كثير من الأقوال (٢) ، انتهى .

أقول : لقد عضضت بالجندل ، قد كتب العلماء في الموضوع والواهي

__________________

(١) تقدّم في ص : ١٤٦ .

(٢) منهاج السنّة ٧ : ١١ ـ ١٢ .

١٦٥

بعد الثعلبي ، وبوّبوه ، وصنّفوا فيه المطوّلات والمختصرات والكلّ بأيدينا ، فلم نجد فيها أنّ حديث تصدّق عليّ بخاتمه في المسجد ونزول الآية موضوع أو واه ، فنسبة الوضع إلى هذا الحديث من ابن تيميّة زندقة و إلحاد .

وأمّا الإمام الثعلبي فقد تقدّم (١) نصّ العلماء على أنّه صحيح الحديث ثقة ، وأنّه إمام في التفسير ، وأنّ كتابه لا نظير له ، وأنّ الاُ مّة عملت به وأخذوه بالقبول .

وأمّا قوله : أنّه ذكر تفاسير أهل البدع . فهو أيضاً افتراء آخر عليه ، فإنّ الثعلبي في خطبة كتابه التفسير الكبير يقول ما يكذّب سفسطة ابن تيميّة الكذوب ، قال ما لفظه : و إنّي منذ فارقت المهد إلى أن بلغت الرشد اختلف إليّ طبقات الناس ، واجتهدت في الاقتباس من هذا العلم الذي هو للدين الأساس وللعلوم الشرعية الرأس ، ووصلت الظلام بالضياء ، والصباح بالمساء ، بعزم أكيد وجهد جهيد ، حتّى رزقني اللَّه تعالى وله الحمد من ذلك ما عرفت به الحقّ من الباطل ، والمفضول من الفاضل ، والصحيح من السقيم ، والحديث من القديم ، والبدعة من السنّة ، والحجّة من الشبهة ، فألفيت المصنّفين في هذا الباب فرقاً على طرق :

فرقة هم أهل البدع والأهواء ، معوجّة المسالك والآراء ، مثل : البلخي ، والجبائي ، والأصفهاني ، والرمّاني ، وقد اُمرنا بمجانبتهم ، وترك مخالطتهم ، ونُهينا عن الاقتداء بأقوالهم وأفعالهم ، والعلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم .

وفرقة ألّفوا فأحسنوا ، غير أنّهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين ، فجمعوا بين الدرة والبعرة عثرة وغفلة لا عقداً ونيّة ،

__________________

(١) راجع ص : ١٥٥ .

١٦٦

مثل : أبي بكر القفّال ، وأبي حامد المقرئ ، وهما من الفقهاء الكبار والعلماء الخيار ولكن لم يكن التفسير حرفتهم ، ولا علم التأويل صنعتهم ، ولكلّ علم رجال ، ولكلّ مقام مقال .

وفرقة اقتصروا على الرواية والنقل دون الدراية والنقد ، مثل : الشيخين أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، وأبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الأنماطي ، وبيّاع الدواء محتاج إلى الأطبّاء .

وفرقة حذفوا الإسناد الذي هو الركن والعماد فنقلوا من الصحف والدفاتر ، وجروا على هوس الخواطر ، وذكروا الغثّ والسمين والواهي والمتين ، وليسوا في عداد العلماء ، فصنت الكتاب عن ذكرهم ، إلى آخر ما ذكر(١) .

فعلى مثل هذا يطعن ابن تيميّة بعدم الخبر ، وعدم التميّز بين الصحيح والسقيم ، والبدعة والسنّة ، لكن لما كان الإمام الثعلبي عدوّ الحشويّة ، وسيف اللَّه عليهم في تزييفه عقيدتهم الزائغة ، صار ابن تيميّة يرميه بالعظائم ، والحمد للَّه الذي فضحه ونصر أولياءه .

ثمّ قال ابن تيميّة الكذّاب : وأمّا أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمّد بن جرير الطبري ، و بقي بن مخلّد ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم وأمثالهم ، فلم يذكروا بها مثل هذه الموضوعات .

إلى قوله : ولا يذكر مثل هذه عبد بن حميد ، ولا عبد الرزّاق مع أنّ عبد الرزّاق كان يميل إلى التشيّع ، و يروي كثيراً من فضائل عليّ و إن كانت

__________________

(١) الكشف والبيان عن تفسير القرآن ( تفسير الثعلبي ) ٢ : ٧ ـ ١١ .

١٦٧

ضعيفة ، لكنّه أجلّ قدراً من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر (١) ، انتهى .

أقول : قد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ) الآية قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢) .

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سلمة بن كهيل قال : تصدّق عليّ بخاتمه وهو راكع فنزلت : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ) الآية (٣) .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ) الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب ، تصدّق وهو راكع (٤) .

وأخرج ابن جرير عن السدّي وعتبة بن حكيم مثله ، كذا في الدرّ المنثور للحافظ السيوطي في الصفحة ١٩٣ من الجزء الثاني المطبوع بمصر (٥) .

فالحمد للَّه الذي أخزى ابن تيميّة بكثرة الكذب و إنكار الواضحات من الروايات .

ثمّ قال ابن تيميّة : فياليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الاُمور (٦) . انتهى .

__________________

(١) منهاج السنّة ٧ : ١٣ .

(٢) انظر المناقب لابن مردويه : ٣٣٣ / ٢٣٥ ، تفسير الطبري ٨ : ٥٣٠ ، تفسير ابن كثير ٥ : ٢٦٦ ، تفسير الدرّ المنثور ٥ : ٣٥٩ .

(٣) انظر تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم ٤ : ١١٦٢ / ٦٥٥١ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٥٧ ، تفسير الدرّ المنثور ٥ : ٣٦٠ .

(٤) جامع البيان ( تفسير الطبري ) ٨ : ٥٣١ ، انظر الدرّ المنثور ٥ : ٣٦١ .

(٥) الدرّ المنثور ٣٦١ : ٦ ، وراجع جامع البيان ( تفسير الطبري ) ٨ : ٥٣٠ ـ ٥٣١ .

(٦) منهاج السنّة ٧ : ١٤ .

١٦٨

أقول : الإجماع قد يكون محصّلاً من تتبّع اتّفاق أقوال العلماء بطبقاتهم ، وقد يكون منقولاً ، والمصنّف (١) ادّعى الإجماع على نزول الآية في عليّ فهو إجماع محصّل لا منقول ، وقد قلنا : إنّ تتبّع الروايات وكتب التفسير يشهد بصحّة هذا الإجماع ، فإنّهم كلّهم رووا عن ثمان من الصحابة والجمّ الغفير من التابعين الراوين عن الصحابة وهكذا حتّى انتهى إلى المصنّف أنّ الآية نزلت في عليّ عليه‌السلام حين تصدّق بخاتمه في المسجد ، ولم ينقل ما يضادّه في كتاب من كتب الإسلام ، فصحّ دعوى الإجماع على رغم أنف ابن تيميّة .

نعم لو كان قد نقل الإجماع كان عليه الإسناد ، وقد تقدّم المصنّف في دعوى الإجماع على ذلك الإمام الفضل الطبرسي في مجمع البيان في تفسير هذه الآية وقال : إنّه إجماع علماء أهل البيت (٢) .

قال ابن تيميّة : الوجه الثالث أن يقال : هؤلاء المفسِّرون الذين ينقل من كتبهم هم ومن هم أعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدّعى (٣) ، انتهى .

قد عرفت أوّلاً : أنّ المنقول عن بعض المفسّرين عموم « الذين آمنوا » وهذا غير مناقض لما ورد من سبب النزول ، وأنّه لمّا تصدّق علي عليه‌السلام بخاتمه في حال الركوع في المسجد نزلت الآية .

وأمّا ثانياً : فإنّه لم يرو عن أحد من الصحابة أنّ المعنيّ بالآية جميع المؤمنين ، و إنّما هو رأي السدّي في إحدى الروايتين عنه وأبي جعفر ،

__________________

(١) فقد قال : وقد أجمعوا على أنّها نزلت في علي عليه‌السلام . منهاج الكرامة : ١٤٠ .

(٢) مجمع البيان في تفسير القرآن ٢ : ٢١٠ .

(٣) منهاج السنّة ٧ : ١٤ .

١٦٩

ومثل هذا لو صحّ لم يعارض المتواترات عن الصحابة وكبار التابعين أنّها في عليّ خاصّة ، ولا ينافي دعوى الإجماع أيضاً لأنّه الذي اعتمدوه وصحّحوه دون غيره كما لا يخفى على المتتبّع البصير ، وفي الذي نقلتها الكفاية ، فإن من ادّعى عموم الآية لا ينكر أنّها نزلت بسبب تصدّق عليّ عليه‌السلام بخاتمه في الركوع أقصاه يدّعي أنّ المعنيّ بها عليّ وغيره من المؤمنين ، وهذا اجتهاد لا رواية ، و إنّما الرواية عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والنزول أنّها في عليّ عليه‌السلام بسبب تصدّقه في ركوع الصلاة ، فهو المتيقّن على جميع الأقوال دون غيره كما هو الظاهر .

قوله : الوجه الرابع : إنّا نعفيه عن الإجماع ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح ، وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناد ضعيف فيه رجال متّهمون ، وأمّا نقل ابن المغازلي الواسطي فأضعف وأضعف ، فإنّ هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعة ما لا يخفى أنّه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا (١) ، انتهى .

أقول : سفسطة وربّ الكعبة ، فإنّ ابن تيميّة يعلم علماً يقينيّاً أنّ أئمّة العلم بالحديث الذين لا يروون إلّا عن العدل المأمون من الكذب قد رووا نزول الآية في عليّ عليه‌السلام أكثر من مائة طريق ، وهو مع ذلك يكابر و ينكر روايتهم له ، ألم ينكر في الوجه الثاني من وجوه جوابه أن يكون ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وعبد الرزّاق وأمثالهم من أهل العلم الكبار وأهل التفسير رووا نزولها في خصوص عليّ عليه‌السلام ، مع أنّك عرفت أنّ هؤلاء جميعاً قد رووا ذلك ، وأخرج السيوطي طرق رواية هؤلاء وغيرهم

__________________

(١) منهاج السنّة ٧ : ١٥ .

١٧٠

كابن مردويه وأبي الشيخ والطبراني عن عليّ وعمّار بن ياسر وعبد اللَّه بن عبّاس وسلمة بن كهيل ومجاهد وأبي رافع مولى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تقدّم كلّ ذلك منّا في الوجه الأوّل من جوه الجواب عن أوّل وجوه جواب ابن تيمية (١) ، وأخرجت أيضاً ما أخرجه رزين في الجمع بين الصحاح الستّة من صحيح النسائي عن عبد اللَّه بن سلام في ذلك ، وما أخرجه ابن جرير في تفسيره ، وما أخرجه أبو نعيم عن كلّ هؤلاء الصحابة وتابعيهم ، فأي واقعة فيها أكثر من هذه الطرق والروايات المتواترات المتكثّرة المستفيضة ، أَ بَعدَ كلّ ذلك يطلب إسناداً واحداً يكون صحيحاً ، إنّما يقول هذا حتّى ينظر إلى كتابه عوام الحشويّة وبقر الشام فيكذّبون مدّعي نزولها في عليّ عليه‌السلام ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَ هِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلآَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ ) (٢) .

أمّا قوله : وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناد ضعيف فيه رجال متّهمون ..

فهو من نمط ما قبله من الكذب ، فقد تقدّم ذكر إسناد الثعلبي ، وأنّ رجاله كلّهم عدول أجلّاء ليس فيه متّهم بالكذب ولا مجهول ، وأنّه لم يتفرّد الثعلبي في هذا المتن ولا في هذا الإسناد ، بل تابعه أبو القاسم الحسكاني بهذا الحديث و بنفس هذا الإسناد كما تقدّم (٣) ، وكذلك الفضل الطبرسي المفسّر شيخ علماء الشيعة في مجمع البيان (٤) ، وهذه كتب الجرح

__________________

(١) راجع ص : ١٤٤ .

(٢) سورة التوبة ٩ : ٣٢ .

(٣) تقدم في ص : ١٥٩ .

(٤) مجمع البيان ٢ : ٢١٠ .

١٧١

والتعديل حاكمة بيننا ، وتقدّم نصّ العلماء بأنّ الثعلبي صحيح النقل ثقة متين الحديث إمام في التفسير ، ونقلت عبائرهم بألفاظهم في الوجه الثالث من وجوه ردّ الوجه الأوّل فراجعه (١) .

وأمّا قوله : وأمّا ما نقل ابن المغازلي الواسطي فأضعف وأضعف (٢) ، انتهى .

أيضاً من نمط ما قبله من الكذب الفاضح لابن تيميّة فها أنا اُخرّج ما أخرحه ابن المغازلي بإسناده حتّى تعرف صحته .

قال : أخبرنا محمّد بن أحمد بن أحمد بن عثمان ، قال : أخبرنا أبو أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان البزّاز إذناً ، قال : حدّثنا الحسن بن علي العدوي ، قال : حدّثنا سلمة بن شبيب ، قال : حدّثنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا مجاهد ، عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُمْ رَ كِعُونَ ) نزلت في عليّ عليه‌السلام(٣) انتهى .

وأخرجه عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس بهذا اللفظ ، كما تقدّم من الدرّ المنثور (٤) .

ثمّ قال ابن المغازلي : وأخبرنا أبو نصر أحمد بن موسى الطحّان إجازة ، عن القاضي أبي الفرج الحوطي ، حدّثنا عبد الحميد بن موسى العبّاد ، حدّثنا محمّد بن إسحاق الخزّاز ، حدّثنا عبد اللَّه بن بكار ، حدّثنا عبيد

__________________

(١) راجع من ص : ١٥٥ .

(٢) منهاج السنّة ٧ : ١٥ .

(٣) المناقب لابن المغازلي : ٣١١ / ٣٥٤ .

(٤) راجع ص : ١٤٦ و١٦٨ .

١٧٢

ابن أبي الفضل ، عن محمّد بن الحسن ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ عليه‌السلام في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُمْ رَ كِعُونَ ) (١) قال : « ( الَّذِينَ ءَامَنُواْ ) : علي ابن أبي طالب (٢) » ، انتهى .

أقول : قد تقدّم أنّ ابن مردويه وأبا الشيخ أخرج كلّ واحد منهما بإسناده عن عليّ عليه‌السلام ذلك (٣) ، وذكر كلّ ذلك في الدرّ المنثور .

ثمّ قال ابن المغازلي : أخبرنا أحمد بن محمّد بن طاوان إذناً : أنّ أبا أحمد عمر بن عبد اللَّه بن شوذب حدّثهم ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد السلام ، قال : حدّثنا محمّد بن عمر بن بشير العسقلاني ، قال : حدّثنا أبي ، قال : حدّثنا مطلب بن زياد ، عن السدّي ، عن أبي عيسى ، عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه قال : مرّ سائل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي يده خاتم ، فقال : « مَن أعطاك هذا الخاتم ؟ » قال : ذاك الراكع ، وكان عليّ عليه‌السلام يصلّي . فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الحمد للَّه الذي جعلها فيّ وفي أهل بيتي ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ) » الآية . وكان على خاتمه الذي تصدّق به : « سبحان من فخري بأنّي له عبد » (٤) .

وأخبرنا أحمد بن محمّد بن طاوان ، قال : أخبرنا أبو أحمد عمر بن عبد اللَّه ابن شوذب ، قال : حدّثنا محمّد بن أحمد العسكري الدقّاق ، قال : حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا عبادة ، قال : حدّثنا عمر بن

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٥٥ .

(٢) المناقب لابن المغازلي : ٣١٢ / ٣٥٥ .

(٣) راجع ص : ١٤٦ و١٦٨ .

(٤) المناقب لابن المغازلي : ٣١٢ / ٣٥٦ .

١٧٣

ثابت ، عن محمّد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن أبن عبّاس رضي‌الله‌عنه قال : كان عليّ عليه‌السلام راكعاً فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه ، فقال رسول للَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أعطاك هذا ؟ » فقال : أعطاني هذا الراكع . فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ) الى آخر الآية (١) ، انتهى .

أقول : وأخرجه الخطيب (٢) في المتّفق عن ابن عبّاس بهذا اللفظ (٣) ، وأخرج السيوطي ذلك في الدرّ المنثور كما تقدّم (٤) .

ثم قال ابن المغازلي : وأخبرنا أحمد بن محمّد بن طاوان إذناً أنّ أبا أحمد بن عمر بن عبد اللَّه بن شوذب أخبرهم ، قال : حدّثنا محمّد بن جعفر ابن محمّد العسكري ، قال : حدّثنا محمّد بن عثمان ، قال : حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن ميمون ، قال : حدّثنا عليّ بن عابس ، قال : دخلت أنا وأبو مريم على عبد اللَّه بن عطا ، قال أبو مريم : حدّث عليّاً بالحديث الذي حدّثتني عن أبي جعفرعليه‌السلام. قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام جالساً إذ مرّ عليه ابن عبد اللَّه ابن سلام قلت : جعلني اللَّه فداك ، هذا ابن الذي عنده علم الكتاب. قال : « لا ولكنّه صاحبكم عليّ بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من الكتاب : ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) (٥) ، ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ

__________________

(١) المناقب لابن المغازلي : ٣١٣ / ٣٥٧ .

(٢) أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الأشعري الشافعي ، المعروف بالخطيب البغدادي ، المتوفّي سنة ٤٦٣ ه . الكامل لابن الأثير ١ : ٦٨ ، وفيات الأعيان لابن خلكان ١ : ١١١ .

(٣) المتّفق والمفترق ١ : ٢٥٨ / ١٠٦ .

(٤) في ص : ١٤٦ .

(٥) سورة هود ١١ : ١٧ .

١٧٤

وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ) » الآية (١) ، انتهى ما أخرجه ابن المغازلي (٢) ، وكلّ أسانيده جياد ، وقد تقدّم الأئمّة عليه في روايتها ، وتابعه جماعة من علماء الإسلام في روايتها كما عرفت (٣) .

وبعد هذا أقول : قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان : فصل : قال ابن المبارك : من ذا يسلم من الوهم . وقال ابن معين : لست أعجب ممّن يحدّث فيخطئ ، إنّما أعجب ممّن يحدّث فيصيب . قلت : وهذا أيضاً ممّا ينبغي أن يتوقّف فيه ، فإذا جرح الرجل بكونه أخطأ في الحديث أو وهم أو تفرّد لا يكون ذلك جرحاً مستقرّاً ولا يردّ به حديثه ، ومثل هذا إذا ضعف الرجل سماعه من بعض شيوخه خاصّة فلا ينبغي أن يردّ حديثه كلّه لكونه ضعيفاً في ذلك الشيخ ، وقال الشافعي : إذا روى الثقة حديثاً و إن لم يروه غيره فلا يقال : شاذ إنّما الشاذ أن يروي الثقات حديثاً على وجه فيرويه بعضهم فيخالفه فيقال : شذّ عنهم ، وهذا صواب ومع ذلك فلا يخرج الرجل بذلك عن العدالة لأنّه ليس معصوماً عن الخطأ والوهم إلّا إذا بيّن له خطأه فأصرّ (٤) ، انتهى .

ثمّ أقول لابن تيميّة في غمزه على أبي نعيم والثعلبي والنقّاش وابن المغازلي ما قاله الحافظ الذهبي لما ذكر عليّ بن المدائني وجماعة في كتاب الضعفاء ، قال بعد كلام : فما لك عقل يا عقيلي أتدري فيمن تتكلّم ، و إنّما تبعناك في هذا النمط لنذبّ عنهم ولنزيف ما قيل فيهم ، كأنّك

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٥٥ .

(٢) انظر المناقب لابن المغازلي : ٣١٣ / ٣٥٨ .

(٣) راجع من ص : ١٤٦ وما بعدها .

(٤) لسان الميزان ١ : ١٧ .

١٧٥

لا تدري أنّ كلّ واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات ، بل أوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك ، وهذا ممّا لا يرتاب فيه محدّث ، وأنا أشتهي أن تعرّفني من الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه ، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له ، وأكمل لرتبته ، وأدلّ على اعتنائه بعلم الأثر ، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها ، اللّهم إلّا أن يتبيّن غلطه ووهمه في الشي‏ء فيعرف ذلك ، فانظر أوّل شي‏ء إلى أصحاب رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الكبار والصغار ، ما فيهم أحد إلّا وقد انفرد بسنّة ، أفيقال له هذا الحديث لا يتابع عليه ، وكذلك التابعون ، كلّ واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم وما الغرض هذا فإنّ هذا مقرّر على ما ينبغي في علم الحديث ، و إن تفرّد الثقة المتقن يعدّ صحيحاً غريباً ، وإن تفرّد الصدوق ومن دونه يعدّ منكراً . و إنّ إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظاً أو إسناداً يصيّره متروك الحديث ، ثمّ ما كلّ من فيه بدعة أوله هفوة أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه ، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ ، ولكن فائدة ذكرنا كثيراً من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة أو لهم أوهام يسيرة في سعة علمهم أن يعرف أنّ غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم وخالفهم ، فزن الأشياء بالعدل والورع ، انتهى كلام الذهبي في الميزان (١) .

ثمّ أقول لابن تيميّة ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في أبي إسحاق الجوزجاني في لسان الميزان قال : فصل : وممّن ينبغي أن يتوقّف في قبول قوله في الجرح والتعديل من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد ، فإنّ الحاذق إذا تأمّل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ١٤٠ .

١٧٦

لأهل الكوفة رأى العجب ، وذلك لشدّة انحرافه في النصب في شهرة أهلها بالتشيّع ، فتراه لا يتوقّف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلق ، حتّى أنّه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد اللَّه بن موسى وهم أساطين الحديث وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثّق رجلاً ضعّفه هو قبل التوثيق (١) ، انتهى .

ومعلوم أنّ ابن تيميّة الحشوي يبغض كلّ مَن بعُد عن الحشو والنصب ، كأبي نعيم ، والثعلبي ، والنقّاش (٢) ، وابن المغازلي فإنّه من أقرب الناس إلى الحديث والسنّة وأبعد الناس عن التشبيه والتجسيم والعداوة لأهل البيت ، فلذا يثلبهم ابن تيميّة ، وهم أركان الحديث ، وأئمّة الآثار ، أمّا الثعلبي فقد عرفت ثناء الأئمّة عليه (٣) .

وأمّا ابن المغازلي فقد ذكره السمعاني في الأنساب قال : الجُلّابي ـ بضمّ الجيم وتشديد اللام وفي آخرها الباء المنقوطة بواحدة ـ هذه النسبة الى الجُلّاب ، والمشهور بهذه النسبة أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الطيّب الجُلّابي المعروف بابن المغازلي من أهل واسط العراق ، كان فاضلاً عارفاً برجالات واسط وحديثهم ، وكان حريصاً على سماع الحديث وطلبه ، رأيت له ذيل التاريخ ، بواسط وطالعته وانتخبت منه ، سمع أبا الحسن علي

__________________

(١) لسان الميزان ١ : ١٦ .

(٢) أبو بكر محمّد بن الحسن بن محمّد بن زياد النقاش الموصلي البغدادي ، وهو الذي روى حديث نزول آية : ( سَأَلَ سَآئِلُ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) في واقعة غدير خمّ في تفسيره شفاء الصدور . قال الذهبي : شيخ القرّاء . وقال ابن كثير : كان رجلاً صالحاً عابداً ناسكاً . توفّي سنة ٣٥١ ه . تذكرة الحفاظ ٣ : ٩٠٨ / ٨٧٢ ، البداية والنهاية ١١ : ٢٥٩ .

(٣) راجع من ص : ١٥٥ وما بعدها .

١٧٧

ابن عبد [ الصمد ] (١) الهاشمي ، وأبا بكر أحمد بن محمّد الخطيب ، وأبا الحسن أحمد بن المظفّر العطّار وغيرهم ، روى لنا عنه ابنه بواسط ، وأبو القاسم عليّ بن طرّاد الوزير ببغداد ، وغرق ببغداد في الدجلة في صفر سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ، وحمل ميّتاً إلى واسط فدفن بها ، وأبنه أبو عبد اللَّه محمّد بن علي بن محمّد الجُلّابي ، كان ولي القضاء والحكومة بواسط نيابة عن أبي العبّاس أحمد بن بختيار الماندائي ، وكان شيخاً عالماً فاضلاً ، سمع أباه ، وأبا الحسن محمّد بن محمّد بن مخلّد الأزدي ، وأبا عليّ إسماعيل بن أحمد ابن كماري القاضي وغيرهم ، سمعت منه الكثير بواسط في النوبتين جميعاً ، وكنت اُلازمه مدّة مقامي بواسط ، وقرأت عليه الكثير بالإجازة له عن أبي غالب محمّد بن أحمد بن بشران النحوي الواسطي (٢) ، انتهى .

واعتمد الحافظ الذهبي على نقل ابن المغازلي ، قال في تذكرة الحفّاظ : قال عليّ بن محمّد بن الطيب الجُلّابي في تاريخه : ابن السقا من أئمّة الواسطيّين والحفّاظ المتقنين (٣) ، انتهى .

ونقل عنه أيضاً : نور الدين عليّ بن عبد اللَّه بن أحمد السمهودي في جواهر العقدين وأخرج له كثيراً ووصفه بالفقيه (٤) ، وكذلك كمال الدين بن فخر الدين الجهرمي في البراهين القاطعة ونقل من طريق ابن المغازلي كثيراً (٥) ، وكذلك السيّد محمّد بن محمّد بن عليّ الشيخاني القادري في

__________________

(١) الزيادة عن المصدر .

(٢) الأنساب ٢ : ١٦٩ / ٢٥٣٠ ـ ٢٥٣١ .

(٣) تذكرة الحفاظ للذهبي ٣ : ٩٦٥ / ٩٠٦ .

(٤) جواهر العقدين ٢ : ٢١٣ و ٣١٦ .

(٥) عنه في نفحات الأزهار للسيد الميلاني ٦ : ٥١ .

١٧٨

الصراط السوي (١) اعتمد حديث ابن المغازلي ، وحدّث عنه كذا أحمد بن الفضل بن محمّد باكثير في وسيلة المآل في مناقب الآل نقل عنه ووصفه بالفقيه (٢) ، وكذلك المولوي ولي اللَّه بن حبيب اللَّه في مرآة المؤمنين روى عنه واعتمد حديثه .

ثمّ قال ابن تيميّة : الوجه الخامس : أن يقال : لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أنّ عليّاً تصدّق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطاً في الموالاة ، وأن لا يتولّى المسلمون إلّا عليّاً وحده ، فلا يتولّى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم ، وهذا خلاف إجماع المسلمين (٣) ، انتهى .

هذا لعمري ممّا يضحك منه الثكلى ، مَن يقول أنّ ذلك شرط في المولاة يا محروم ! وكيف يجب أن يكون شرطاً وأنت تقول : إنّه حال من الأحوال الذين أوجب اللَّه موالاتهم ، ولم يكن في الآية ولا في الحديث ما يشمّ منه الشرطيّة ، بل هما صريحان أنّه حال من أحواله ، ثمّ الموالي لعليّ موالٍ للحسن والحسين وكلّ آل عليّ بموالاته لعليّ عليه‌السلام ، لكن ضيق الخناق بابن تيميّة يلجؤه إلى هذه الزخاريف .

ثمّ قال : الوجه السادس : أنّ قوله : « الذين » صيغة جمع فلا يصدق على عليّ وحده (٤) ، انتهى .

قال جار اللَّه العلّامة في الكشّاف : فإن قلت : كيف صحّ أن يكون

__________________

(١) حكاه عنه السيد الميلاني في نفحات الأزهار ٦ : ٥١ .

(٢) وسيلة المآل في مناقب الآل ( مخطوط ) .

(٣) منهاج السنّة ٧ : ١٥ .

(٤) نفس المصدر ٧ : ١٦ .

١٧٩

لعليّ رضي‌الله‌عنه واللفظ لفظ جماعة ؟

قلت : جي‏ء به على لفظ الجمع و إن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله ، فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء حتّى أن لو دهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروه إلى الفراغ منها (١) ، انتهى .

أقول : ومن البديهي أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التفخيم والتعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه .

ثمّ قال ابن تيميّة : الوجه السابع : أنّ اللَّه تعالى لا يثني على الإنسان إلّا بما هو محمود عنده إمّا واجب و إمّا مستحبّ ، والصدقة في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة ، و إعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدّق إذا سلّم أن يعطيه ، وأنّ في الصلاة لشغلاً (٢) ، انتهى ملخّصاً .

أقول : إذا كان لم يتكلّف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته ، بأن كان الخاتم مرجاً في خنصره ، كان طرحه للسائل من أحسن الأعمال الصالحة بالإجماع مع خوف فوات ذلك ، سبحان اللَّه ! هذا ابن تيميّة يقول : قال اللَّه وأقول ، فإنّ صريح الآية الثناء على الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون وابن تيميّة يقول : إنّ التصدّق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة مطلقاً ، ثمّ من أين علمت يا محروم أن السائل يبقى في المسجد إلى ما بعد الفراغ

__________________

(١) تفسير الكشاف ١ : ٦٤٩ .

(٢) منهاج السنّة ٧ : ١٦ .

١٨٠