البراهين الجليّة - ج ٢

السيّد حسن الصدر

البراهين الجليّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد حسن الصدر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-629-5
ISBN الدورة:
978-964-319-618-9

الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

من الصلاة ولا يفوت إعطاؤه ، فلعلّه كان يفوت إعطاؤه ، وفي الحديث : أنّه لمّا طال سؤاله ولم يعطه أحد شيئاً (١) ، وظاهر هذا أنّه كان يريد الخروج من المسجد فكان يفوت إعطاؤه مع التأخير إلى ما بعد الفراغ من الصلاة .

وأمّا قوله : و إنّ في الصلاة لشغلاً ، فهو من قلّة المعرفة بأولياء اللَّه الكاملين ، فإنّهم في ذلك كما قال الشاعر :

يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته

عن النديم ولا يلهو عن الكأس (٢)

ثمّ قال ابن تيميّة : الوجه الثامن : أنّه لو قدّر أنّ هذا مشروع في الصلاة لم يختصّ بالركوع ، بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع ، فكيف يقال : لا وليَّ إلّا الذين يتصدّقون في حال الركوع ، فلو تصدّق المتصدّق في حال القيام والقعود أما كان يستحقّ هذه الموالاة ؟ !

فإن قيل : هذه أراد بها التعريف بعليّ على خصوصه .

قيل له : أوصاف عليّ التي يعرف بها كثيرة ظاهرة ، فكيف يترك تعريفه بالاُمور المعروفة و يعرّفه بأمر لا يعرفه إلّا مَن سمع هذا وصدقه ؟ وجمهور الاُمّة لا تسمع هذا الخبر ولا هو في شي‏ء من كتب المسلمين المعتمدة ، لا الصحاح ولا السنن ولا الجوامع ولا المعجمات ولا شي‏ء من الاُمّهات ، فأحد الأمرين لازم : إن قصد به المدح بالوصف فهو باطل ، و إن قصد به التعريف فهو باطل (٣) ، انتهى .

هذا لعمر اللَّه اُمّ الكبائر فإنّه ردّ على الآية في الحقيقة .

__________________

(١) تقدّم حديث أبي ذرّ في ص : ١٤٢ و ١٥٤ ـ ١٥٥ ، وراجع تفسير الثعلبي ١١ : ٣٩١ ـ ٣٩٤ ، شواهد التنزيل للحسكاني ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩ .

(٢) البيت ليحيى بن نصر بن عبد الرزّاق ، كما في مرآة الزمان ٢١ : ١١٢ .

(٣) منهاج السنّة ٧ : ١٦ ـ ١٧ .

١٨١
١٨٢

خاتمة :

في بعض المفسدين في الدين

من الذين هم من سيّئات ابن تيميّة ، ومن شيّع عقائده

منهم : ابن زفيل (١) : رجل من الحنابلة حدث من أصحاب ابن تيميّة ، صاحب النونيّة قصيدة تبلغ ستّة الآف بيت ، ردّ فيها على الأشعري وغيره من أئمّة السنّة ، وجعلهم جهميّة تارةً وكفّاراً اُخرى ، أوّلها :

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فعليك إثم الكاذب الفتّان

جهم بن صفوان وشيعته الاُولى

جحدوا صفات الخالق الديّان

بل عطّلوا منه السماوات العلى

والعرش أخلوه من الرحمن

والعبد عندهم فليس بفاعل

بل فعله كتحرّك الرجفان (٢)

وقد ردّ عليها شيخ الإسلام التقي السبكي في كتاب أسماه السيف الصقيل في ردّ قصيدة ابن زفيل ، قال بعد ذكره ابن تيميّة بما تقدّم نقله عنه في المقصد الأوّل ما لفظه : ثمّ أحدث من أصحابه من يشيع عقائده ، ويعلم مسائله ، ويلقي ذلك إلى الناس سرّاً ويكتمه جهراً ، فعمّ الضرر بذلك ، حتّى وقفت في هذا الزمان على قصيدة نحو ستّة آلاف بيت ، ويذكر

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣١ . والمعروف أنّ ابن زفيل هو ابن القيم ، والقصيدة المذكورة هي المسمّاة بالشافية الكافية لابن القيم الجوزيّة ، وفي مقدمة كتاب السيف الصقيل : ٧ ، قال : وكان ابن زفيل الزارعي المعرّف بابن القيم يسايره في شواذه كلّها حيًّا وميّتًا و يقلِّده فيها تقليدًا أعمى في الحقّ والباطل .

(٢) انظر السيف الصقيل رد ابن زفيل : ٢٦ .

١٨٣

فيها عقائده وعقائد غيره ، و يزعم بجهله أنّ عقائده عقائد أهل الحديث ، فوجدت هذه القصيدة تصنيفاً في علم الكلام الذي نهى العلماء من النظر فيه لو كان حقّاً ، ( فكيف وهي تقرير العقائد الباطلة فيه وبوح بها ) (١) ، وزيادة على ذلك وهي حمل العوام على تكفير كلّ من سواه وسوى طائفته ، فهذه ثلاثة اُمور هي مجامع ما تضمّنته هذه القصيدة :

والأوّل من الثلاثة حرام ، لأنّ النهي عن علم الكلام إن كان نهي تنزيهٍ فيما تدعو الحاجة إلى الردّ على المبتدعة فيه ، فهو نهي تحريم فيما لا تدعو الحاجة إليه ، فكيف فيما هو باطل .

والثاني من الثلاثة : العلماء مختلفون في التكفير به ولم ينته إلى هذا الحدّ ، أمّا مع هذه المبالغة ففي بقاء الخلاف فيه نظر .

وأمّا الثالث : فنحن نعلم بالقطع أنّ هؤلاء الطوائف الثلاثة الشافعيّة والمالكيّة والحنفيّة وموافقيهم من الحنابلة مسلمون وليسوا بكافرين ، فالقول بأنّ جميعهم كفّار وحمل الناس على ذلك كيف لا يكون كفراً وقد قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا قال المسلم لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما » (٢) ، والضرورة أوجبت العلم بأن بعض من كفّرهم مسلم والحديث اقتضى أنّه يبوء بها أحدهما ، فيكون القائل هو الذي باء بها ، انتهى موضع الحاجة من كلام التقي السبكي في السيف الصقيل بحروفه (٣) .

أقول : وللتاج بن التقي السبكي قصيدة نونيّة جمع فيها المسائل

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في النسخ : ( وفي تقرير العقائد الباطلة فيه وبرع بها ) والمثبت عن المصدر .

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٢ : ١٨ ، ٤٧ ، ٦٠ ، ١١٣ ، البخاري ٨ : ٣٥٣ الباب ٥٩٥ ، صحيح مسلم ١ : ٧٩ / ب ٢٦ / ١١١ .

(٣) السيف الصقيل رد ابن زفيل : ٢٠ .

١٨٤

الخلافية منها قوله :

كذب ابن فاعلة يقول بجهله

اللَّه جسم ليس كالجسمان

وأعلم بأنّ الحقّ ما كانت عليه

صحابة المبعوث من عدنان

قد نزّهوا الرحمن عن شبه وقد

دانوا بما جاء في القرآن (١)

قال السيّد محمّد الزبيدي الشهير بمرتضى في الإتحاف شرحه لإحياء العلوم بعد ذكره بعض هذه القصيدة ما لفظه : وهذه القصيدة على وزان قصيدة لابن زفيل رجل من الحنابلة ، وهي ستّة آلاف بيت ، ردّ فيها على الأشعري وغيره من أئمّة السنّة ، وجعلهم جهميّة تارةً وكفار اُخرى ، وقد ردّ عليها شيخ الإسلام التقي السبكي في كتاب سمّاه السيف الصقيل ، وما أظنّ ولده التاج أراد في قصيدته المذكورة :

كذب ابن فاعلة يقول بجهله

اللَّه جسم ليس كالجسمان

إلّا الإشارة إلى هذا الرجل وإن لم يصرّح به ، انتهى موضع الحاجة من كلام صاحب إتحاف السادّة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين (٢) .

ومنهم : ابن قيم (٣) وهو من أعظم سيئات ابن تيميّة ، وأشدّهم عداوة لأهل السنّة ، بل عدّهم في المبتدعين والكفّار الضالّين الظانّين باللَّه غير الحق ظنّ الجاهلية ، والظانّين ظنّ السوء ، والجاهلين بصفاته ، والغافلين عن

__________________

(١) طبقات الشافعیة ٣ : ٣٧٩ ـ ٣٨٤ .

(٢) إتحاف السادّة المتقین بشرح إحیاء علوم الدین ٢ : ٨ ـ ١١ ، نقل القصیدة بطولها .

(٣) هو ابن زفيل المتقدم والعبارة توهم أنّه شخص آخر راجع ص : ٣١ و ص : ٥٧٩ الهامش ٠١ وقال ابن حجر واصفاً ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في الفتاوى الحديثية : ٢٠٣ : و إيّاك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيّم الجوزية وغيرهما ـ ممن اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللَّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللَّه ـ وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود .. .

١٨٥

تعظيمه وتمجيده وتقديسه .

قال في كتاب زاد المعاد في هدى خير العباد عند تفسيره قوله تعالى : ( وَ طَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَهِلِيَّةِ ) (١) ما لفظه : قد فسّر هذا الظنّ الذي لا يليق باللَّه عزّ وجلّ : بأنّه سبحانه لا ينصر رسله ، وأنّ أمره سيضمحلّ ، وأنّه يسلمه للقتل .

وقد فسّر بعضهم : أنّ ما أصابهم لم يكن بقضاء اللَّه وقدره ولا حكمة له فيه ، ففسّر بإنكار الحكمة ، و إنكار القدر ، و إنكار أن يتمّ أمر رسوله و يظهره على الدين كلّه ، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول : ( وَ يُعَذِّبَ الْمُنَفِقِينَ وَ الْمُنَفِقَتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سَآءَتْ مَصِيرًا )(٢) .

وإنّما كان هذا ظنّ السوء وظنّ الجاهليّة وهو الظنّ المنسوب إلى أهل الجهل وظنّ غير الحقّ ، لأنّه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرّأة من كلّ عيب وسوء ، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرّده بالربوبيّة والإلهيّة ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، و بكلمته التي سبقت لرسله أنّه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنّهم هم الغالبون ، فمن ظنّ به أنّه لا ينصر رسوله ولا يتمّ أمره ولا يؤيّده ولا يؤيّد حزبه و يعليهم و يظفرهم بأعدائهم و يظهرهم عليهم ، وأنّه لا ينصر دينه وكتابه وأنّه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحقّ إدالة مستقرّة يضمحلّ معها التوحيد

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٥٤ .

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٦ .

١٨٦

والحقّ اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً ، فقد ظنّ السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته ، فإن حمده وعزته وحكمته و إلهيته تأبى ذلك أن يذلّ حزبه وجنده ، وأن يكون النصرة المستقرّة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به ، فمن ظنّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله ..

كذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره ، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ..

وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحقّ الحمد عليها ، وأنّ ذلك إنّما صدر عن مشيّة مجرّدة عن الحكمة وغاية مطلوبة هي أحبّ إليه من فوتها ، وأنّ تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحبّ و إن كانت مكروهة له فما قدرها سدىً ولا أنشأها عبثاً ولا خلقها باطلاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ..

وأكثر الناس يظنّون باللَّه غير الحقّ ظنّ السوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلّا من عرف اللَّه ، وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته ، فمن قنط من رحمته وآيس من روحه فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن جوّز عليه أن يعذّب أولياءه مع إحسانهم و إخلاصهم و يسوّي بينهم وبين أعدائه فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن ظنّ أنّه يترك خلقه سدى معطّلين عن الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كأنعام فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن ظنّ أنّه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسي‏ء بإساءته و يبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه

١٨٧

ويظهر للعالمين كلّهم صدقه وصدق رسله وأنّ أعداءه كانوا الكاذبين فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن ظنّ أنّه يضيِّع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره و يبطله عليه بلا سبب من العبد ، أو أنّه يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظنّ به أنّه يجوز عليه أن يؤيّد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبياءه ورسله و يجريها على أيديهم يضلّون بها عباده وأنّه يحسن منه كلّ شي‏ء حتّى تعذيب من أفنى عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، و ينعم من استنفذ عمره في عداوة رسله ودينه فيرفع إلى عليّين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا يُعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلّا بخبر صادق ، و إلّا فالعقل لا يقتضي قبح أحدهما وحسن الآخر ، فقد ظنّ به ظنّ السوء (١) ، انتهى .

أتراه كيف جعل حال أهل السنّة في العقيدة مطابقاً لقوله تعالى : ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ) (٢) .

ألم تره صرّح بأنّ من نفى الحكمة والمصلحة من أفعال اللَّه وجوّز عليه العبث كان ممّن ظنّ باللَّه ظنّ السوء ، وظنّه ظنّ الذين كفروا الداخلين النار خالدين فيها ، ومعلوم لديك أنّ الأشعريّة لا يرون اشتمال أحكامه على المصالح لأنّ اللَّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد ، و يلتزمون عبثاً كما نصّ المسلّم في شرحه لعبد العلي (٣) .

كذلك ذكر عبد العلي (٤) في الشرح المذكور : و يجوز نسخ وجوب

__________________

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ .

(٢) سورة ص ٣٨ : ٢٧ .

(٣) فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت ٢ : ٦٧ .

(٤) هو عبد العلي بن محمّد بن نظام الدين محمّد الأنصاري الهندي ، المتوفّي سنة ١٢٢٥ ه . انظر إيضاح المكنون ٢ : ٤٨١ .

١٨٨

الإيمان وحرمة الكفر عند الأشاعرة ، ومنهم الشافعيّة إذ لا حسن ولا قبح عندهم إلّا شرعاً ، فالإيمان والكفر سيان عندهم ، وما أوجب الشرع فهو حسن وما حرّم فهو حرام ، ومن ثمّة جوزوا نسخ جميع التكاليف عقلاً (١) ، انتهى .

وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند قوله تعالى : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٢) ما لفظه : مذهبنا أنّه يجوز من اللَّه تعالى أن يدخل الكفّار في الجنّة ويدخل الزهّاد والعباد في النار ، لأنّ الملك ملكه ، والملك يفعل في ملكه ما يشاء لا اعتراض لأحد عليه (٣) ، انتهى .

وبالجملة ابن القيم وشيخه وأتباعهما يكفّرون الأشعريّة ، والأشعريّة هم أهل السنّة ، قال الخيّالي في حاشيته على شرح العقائد : الأشاعرة هم أهل السنّة والجماعة ، هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار ، وديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريديّة أصحاب الإمام أبي منصور ، و بين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل كمسألة التكوين وغيرها (٤) ، انتهى .

وقال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب : وأنا أعلم أن المالكيّة كلّهم أشاعرة لا استثني أحداً ، والشافعيّة غالبهم أشاعرة لا استثني إلّا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال ممّن لا يعبأ اللَّه به ، والحنفيّة كلّهم أشاعرة

__________________

(١) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ٢ : ٧٩ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١٨ .

(٣) التفسير الكبير ١٢ : ١٣٦ ـ ١٣٧ .

(٤) حاشية الخيالي على العقائد النسفية ( مخطوط ) الورقة : ٩ ، وعنه في إتحاف السادة المتّقين ٢ : ٦ ، ونخبة اللآلي : ٤٧ .

١٨٩

أعني يعتقدون عقيدة الأشعري لا يخرج منهم إلّا مَن لحق منهم بالمعتزلة ، والحنابلة أكثر فضلاء متقدّميهم أشاعرة لا يخرج منهم إلّا من لحق بأهل التجسيم وهم في هذه الفرقة من الحنابلة أكثر من غيرهم (١) ، انتهى .

أقول : قال عبد اللَّه الميورقي ما لفظه : ولم يكن أبو الحسن الأشعري أوّل متكلّم بلسان أهل السنّة ، إنّما جرى على سنن غيره ، أو على نصرة مذهب معروف فزاد المذهب حجّة و بياناً ، ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهباً انفرد به ، ألا ترى أنّ مذهب أهل المدينة تنسب إلى مالك ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له : مالكي ، ومالك إنّما جرى على سنن من كان قبله ، وكان كثير الاتّباع لهم إلّا أنّه لما زاد المذهب بياناً وبسطاً عزى إليه ، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق ، ليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتواليفه في نصرته ، انتهى موضع الحاجة (٢) .

فابن تيميّة وابن القيم وأتباعهما يكفّرون كل الخلف والسلف عند التحقيق ، فاعرف عظم جرمهما وعظم جرأتهما على أهل السنّة .

ذكر الوهابية :

ومنهم : محمّد بن عبد الوهاب النجدي المبدع العنيد ، كان تولّده سنة ألف ومائة و إحدى عشرة بفرغانة قرية بنجد ومنشؤه هناك ، وأكثر مزاولة كتب ابن تيميّة وابن القيّم حتّى رسخ في قلبه عقيدته الفاسدة ، وألفت نفسه الخبيثة الإلحاد والضلال ، وتلك البدع والحشو مزجت بلحمه وعروقه

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ٣ : ٣٧٧ .

(٢) عنه في طبقات الشافعية الكبرى ٣ : ٣٦٧ ، وانظر : تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري لابن عساكر : ١١٨ .

١٩٠

ودمه ، وتردّد في ابتداء أمره على مكّة والمدينة ، وأخذ عن جماعة من علماء البلدين ، وكانوا يتفرّسون فيه الإلحاد والضلال ، و يقولون : سيضلّ هذا و يضلّ اللَّه به من أبعده وأشقاه ، فكان الأمر كذلك ، فأظهر العقيدة الزائغة بنجد سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين ، وأشتهر أمره بعد الخمسين ، وأشاع بدعته في تلك النواحي ، وصارت فتنته من أعظم الفتن التي ظهرت في الإسلام ، طاشت من بلاياها العقول ، وحار فيها أرباب المعقول .

قال شيخ الإسلام ملك العلماء الأعلام إمام الحرمين وزين الزمان المرحوم بكرم اللَّه المنّان السيد أحمد بن زيني دحلان (١) في كتابه خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام عند ذكره غزوات الشريف غالب (٢) مع الوهابيّة واستطراده الردّ عليهم ما هذا لفظه :

وكان في أوّل أمره ـ يعني محمّد بن عبد الوهاب ـ مولعاً بمطالعة أخبار من ادّعى النبوّة كاذباً كمسيلمة الكذّاب (٣) وسجاح (٤) والأسود

__________________

(١) المكّي الشافعي ، فقيه ، مؤرّخ ، ولد بمكّة سنة ١٢٣٢ ه ، وتولّى فيها الإفتاء والتدريس للشافعيّة ، وتوفّي فيها سنة ١٣٠٤ه ، ومن مؤلّفاته المطبوعة : السيرة النبويّة ، الفتوحات الإسلاميّة ، الجداول المرضية في تاريخ الدولة الإسلاميّة ، خلاصة الكلام في أُمراء البلد الحرام . الأعلام للزركلي ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠ .

(٢) ابن مساعد بن سعيد الحسني ، أحد اُمراء وشرفاء مكّة المكرّمة ، توفّي سنة ١٢٣١ ه ، كان فيه دهاء ، وغزواته مع الوهابيّة وآل سعود كثيرة . فتنة الوهابية لأحمد زيني دحلان : ١١ . الأعلام للزركلي ٥ : ١١٥ .

(٣) مسليمة بن حبيب الكذاب ، ادّعى النبوّة في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرسل كتابًا إلى النبيّ : أن أشركني في النبوّة وإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك ، فأجابه النبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأنّ الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده . قتل في السنة الثانية عشرة . الكامل ٢ : ٢٩٨ ـ ٣٦٤ ، العبر ١ : ١١ ، البداية والنهاية ٥ : ٥٢ .

(٤) بنت الحارث بن سويد بن عقفان التيميّة ، ادّعت النبوة بعد وفاة رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجزيرة

١٩١

العنسي (١) وطليحة الأسدي (٢) وأضرابهم (٣) ، فكان يضمر في نفسه دعوى النبوّة ، ولو أمكنه إظهار هذه الدعوى لأظهرها ، وكان يسمّي جماعته من أهل بلده الأنصار ، وسمّى من تبعه من الخارج المهاجرين ، و إذا تبعه أحد وكان قد حجّ حجّة الإسلام يقول له : حجّ ثانياً فإنّ حجّتك الاُولى فعلتها وأنت مشرك فلا تقبل ولا تسقط عنك الفرض ، و إذا أراد أحد أن يدخل دينه يقول له بعد الإتيان بالشهادتين : اشهد على نفسك أنّك كنت كافراً ، واشهد على والديك أنّهما ماتا كافرين ، واشهد على فلان وفلان يسمّي له جماعة من أكابر العلماء الماضين أنّهم كانوا كفّاراً ، فإن شهدوا قبلهم وإلّا أمر بقتلهم ..

وكان يصرّ (٤) بتكفير الاُمّة [ من ] (٥) منذ ستمائة سنة ، وكان يكفّر كلّ من لا يتبعه و إن كان من أتقى المتّقين فيسمّيهم مشركين و يستحلّ دماءهم وأموالهم ، و يثبّت الإيمان لمن اتّبعه و إن كان من أفسق الفاسقين ، وكان ينتقص

__________________

في بني تغلب ، وتبعها رجال من قومها وجماعة من بنى تميم وهذيل ، فلمّا بلغها خبر تنبّؤ مسيلمة سارت إلية وسلّمت عليه بالنبوة . وانظر أخبارها في الأغاني ١٨ : ١٦٦ ، والفتوح لابن أعثم ١ : ٢٢ ، الإصابة لابن الاثير ٧ : ١٥٩ / ١١٣٥٥ .

(١) هو عيهلة بن كعب بن عوف العنسيّ ، وعنس بطن من مذحج ، وكان الأسود يلقّب بذا الخمار ؛ لأنّه كان معتماً متخمّر أبداً ، لمّا دعا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجة الوداع تمرّض من السفر غير مرض موته فبلغ ذلك الأسود فادّعى النبوّة ، وكان مشعبذاً يريهم الأعاجيب فاتبعته مذحج . الكامل في التاريخ حوادث سنة ١١ من الهجرة ٢ : ٣٣٦ ، الأعلام للزركلي ٥ : ١١١ .

(٢) طليحة بن خويلد الأسدي ، أسلم سنة ٩ ه ، ثمّ ارتدّ وادعى النبوّة ، كانت له وقائع مع المسلمين ، ثمّ أسلم وقدم مكة معتمراً زمن عمر بن الخطّاب ، شهد اليرموك وبعض حروب الفرس ، قتل بنهاوند سنة ٢١ ه . انظر اُسد الغابة ٣ : ٩٤ / ٢٦٤١ .

(٣) كالحارث الكذّاب الذي ادّعى النبوة كما حكاه في تلبيس إبليس : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ .

(٤) في المصدر : يصرح بدل : يصرّ .

(٥) الزيادة من المصدر .

١٩٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيراً بعبارات مختلفة ويزعم أن قصده المحافظة على التوحيد (١) .

فمنها : أن يقول : إنّه طارش (٢) ، وهو في لغة أهل الشرق بمعنى الشخص المرسل من قوم إلى آخرين ، بمعنى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حامل كتب مرسلة معه ، أي غاية أمره أنّه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره في أمر لاُناس ليبلّغهم إيّاه ثمّ ينصرف .

ومنها : أنّه كان يقول نظرت في قصّة الحُدَيبيَة (٣) فوجدت بها كذا وكذا كذبة ، إلى غير ذلك ممّا يشبه هذا ..

حتّى أنّ أتباعه كانوا يفعلون ذلك أيضاً ويقولون مثل قوله ، بل يقولون أقبح ممّا يقوله ، و يخبرونه بذلك فيظهر الرضا ، وربّما أنّهم تكلّموا بذلك بحضرته فيرضى به ..

حتّى أنّ بعض أتباعه كان يقول : عصاي هذه خير من محمّد لأنّها ينتفع بها في قتل الحيّة ونحوها ومحمّد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلاً وإنّما هو طارش ومضى (٤) .

قال بعض العلماء (٥) : إنّ ذلك كفر في المذاهب الأربعة ، بل هو كفر عند جميع أهل الإسلام ..

ومن ذلك : أنّه كان يكره الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) و يتأذّى

__________________

(١) خلاصة الكلام : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ .

(٢) قيل : هو لفظ مولّد .

(٣) بدون تشديد الياء المحدّثون يشددودنها .

(٤) خلاصة الكلام : ٣٠٣ ، وراجع مصباح الظلام : ٤ ، وكشف الارتياب : ١٣٠ .

(٥) خلاصة الكلام في بيان اُمراء البلد الحرام : ٣٠٣ ، راجع مصباح الأنام وجلاء الظلام : ٤ و ص : ٦٥ ـ ٦٦ .

(٦) مع أنّ الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت في صحاح أهل السنّة ، وفي مسانيدهم وغيرها

١٩٣

بسماعها ، و ينهي عن الإتيان بها ليلة الجمعة ، وعن الجهر بها على المنابر و يؤذي من يفعل ذلك و يعاقبه أشدّ العقاب ، حتّى أنّه قتل رجلاً أعمى كان مؤذّناً صالحاً ذا صوت حسن نهاه عن الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنارة بعد الأذان فلم ينته وأتى بالصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر بقتله فقتل (١) ..

ثمّ قال : إنّ الربابة في بيت الخاطئة ـ يعني الزانية ـ أقل إثماً ممّن ينادي بالصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنابر (٢) .

و يلبّس على أصحابه وأتباعه بأن ذلك كلّه محافظة على التوحيد ، فما أفظع قوله وما أشنع فعله ..

وأحرق دلائل الخيرات (٣) وغيرها من كتب الصلاة على النبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و يتستّر بقوله : إنّ ذلك بدعة و إنّه يريد المحافظة على التوحيد ..

كان يمنع أتباعه من مطالعة كثير من كتب الفقه والتفسير والحديث ،

__________________

من الكتب الحديثية والتفسيريّة ، و يكفي في ذلك أنّ ابن عبد الوهاب نفسه وسائر العلماء من أهل السنة في كتبهم المختلفة كلّما يذكرون الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون : صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى قيل : إنّ كلمة « وآله » أيضاً موجدة فى النسخة الأصلية من صحيح البخاري ، كما هي موجودة في صيغ الصلوات التي أمر بها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلّي بها عليه.

إن قلت : إنّه لم يمنع من أصل الصلاة و إنّما منع من الجهر بها .

قلنا : إنّ الأمر بالصلاة عليه وعلى آله مطلق يشمل الجهر والإخفات ووقوعها في أي زمان في الجمعة وغيرها وأي مكان على المنبر أو المنارة أو .. . مع أنّ ابن عبد الوهاب لم يذكر دليلاً على منعه لها في هذا الزمان أو في هذا المكان أو في هذه الحالة غير أنّه قال : إنّها بدعة كيف تكون بدعة وجاءت في الصحاح والمسانيد ؟

(١ و ٢) خلاصة الكلام : ٣٠٣ .

(٣) في كشف الظنون ١ : ٧٥٩ الكتاب للشيخ أبي عبد اللَّه محمّد بن سليمان الجزولي المتوفّي سنة ٨٥٤ ه ، وهذا الكتاب آية من آيات اللَّه في الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٩٤

وأحرق كثيراً منها (١) ..

وأذن لكلّ من يتبعه أن يفسّر القرآن حسب فهمه حتّى همج الهمج من أتباعه ، فكان كلّ واحد منهم يفعل ذلك ولو كان لا يحفظ شيئاً من القرآن ، حتّى صار الذي لا يقرأ منهم يقول لمن يقرأ : اقرأ لي شيئاً من القرآن وأنا أفسّره لك ، فإذا قرأ له شيئاً يفسّره ..

وأمرهم أن يعملوا بما فهموه منه ، وجعل ذلك مقدّماً على كتب العلم ونصوص العلماء ، وتمسّك في تكفير الناس بآيات نزلت في المشركين فحملها على الموحّدين (٢) .

إلى أن قال : إنّه وأتباعه إنّما يؤوّلون القرآن بحسب ما يوافق أهواءهم لا بحسب ما فسّره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه والسلف الصالح وأئمّة التفسير فإنّه لا يقول بذلك (٣) .

قال : وانتدب كثير من علماء الحنابلة المعاصرين له للردّ عليه ، وألّفوا في الردّ عليه رسائل كثيرة ، حتّى أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهّاب ألف رسالة في الردّ عليه (٤) .

قال : وقتل كثيراً من العلماء والصالحين وعوام المسلمين لكونهم لم يوافقوه على ابتداعه (٥) .

قال : وكان ينهي عن الدعاء بعد الصلاة و يقول : إنّ ذلك بدعة (٦) .

قال : وكان يخطب للجمعة في مسجد الدرعيّة ويقول في كلّ خطبه :

__________________

(١) خلاصة الكلام : ٣٠٤ ، وراجع الدرر السنية في الردّ على الوهابية لزيني دحلان أيضاً ( الوهابية المتطرّفة ١ : ) : ٣١٣ / ٤١ .

(٢ و ٣) خلاصة الكلام في بيان أُمراء البلد الحرام : ٣٣ ـ ٣٠٤ .

(٤ و ٥) خلاصة الكلام : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، وفيه : ما ابتدعه بدل : ابتداعه .

(٦) خلاصة الكلام في بيان أُمراء البلد الحرام : ٣٠٥ .

١٩٥

ومن توسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كفر (١) .

قال : وقال له رجل : إنّ التوسل مجمع عليه عند أهل السنّة حتّى ابن تيميّة ، فإنّه ذكر فيه وجهين ، ولم يذكر أنّ فاعله يكفر ، حتّى الرافضة والخوارج والمبتدعة كافة فإنّهم قائلون بصحة التوسل به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا وجه لك بالتكفير أصلاً . فقال محمّد بن عبد الوهاب : إنّ عمر استسقى بالعبّاس (٢) فلم يستسق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . ومقصد محمّد بن عبد الوهّاب بذلك : أنّ العبّاس كان حيّاً وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ميّت فلا يستسقى به . فقال له ذلك الرجل : هذا حجّة عليك ، فإنّ استسقاء عمر بالعباس إنّما كان لإعلام الناس صحة التوسّل بغير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف تحتج باستسقاء عمر بالعبّاس ، وعمر هو الذي روى حديث توسل آدم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يخلق ، فالتوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان معلوماً عند عمر وغيره ، و إنّما أراد عمر أن يبيّن للناس ويعلّمهم صحة التوسل بغير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبهت وتحيّر و بقي على عماوته (٣) .

ومن قبائحه الشنيعة : أنّه منع الناس من زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبعد منعه خرج أُناس من الأحساء وزاروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و بلغه خبرهم ، فلمّا رجعوا مرّوا عليه في الدرعيّة ، فأمر بحلق لحاهم ، ثمّ أركبهم مقلوبين من الدرعيّة إلى الأحساء (٤) .

ثمّ ذكر : أنّ علماء المشرق والمغرب من أهل المذاهب الأربعة ألّفوا

__________________

(١) خلاصة الكلام في بيان أُمراء البلد الحرام : ٣٠٥ .

(٢) انظر صحيح البخاري ١ : ٣٤٢ / ٩٦٤ .

(٣) خلاصة الكلام : ٣٠٧ .

(٤) خلاصة الكلام في بيان أُمراء البلد الحرام : ٣٠٦ ـ ٣٠٨ .

١٩٦

في الردّ عليه الرسائل ، وعدّ منهم : الشيخ محمّد بن عبد الرحمن بن عفالق (١) ، صنّف كتاباً سمّاه تهكّم المقلّدين بمدّعي تجديد الدين ، وردّ عليه في كلّ مسألة من مسائله التي ابتدعها ، وأنّه كان سأله عن مسائل علميّة أدبيّة عجز عن جوابها ، وذكر جملة من تلك المسائل (٢) .

ثمّ قال : وقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هؤلاء الخوارج في أحاديث كثيرة ، فكانت تلك الأحاديث من أعلام نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كانت من الإخبار بالغيب ، وتلك الأحاديث صحيحة ، بعضها في الصحيحين و بعضها في غيرهما ، ثمّ ذكر جملة منها حديث : « سيماهم التحليق » (٣) .

إلى أن قال : وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيماهم التحليق » تنصيص على هؤلاء القوم الخارجين من المشرق التابعين لمحمّد بن عبد الوهاب فيما ابتدعه ، لأنّهم كانوا يأمرون من اتّبعهم أن يحلق رأسه ، ولا يتركونه يفارق مجلسهم إذا تبعهم حتّى يحلقوا رأسه ، ولم يقع مثل ذلك قطّ من أحد من الفرق الضالّة التي مضت قبلهم أن يلتزموا مثل ذلك ، فالحديث صريح فيهم .

وكان السيّد عبد الرحمن الأهدل (٤) مفتي زبيد يقول : لا يحتاج التأليف في الردّ على ابن عبد الوهّاب بل يكفي في الردّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيماهم التحليق » فإنّه لم يفعله أحد من المبتدعة ..

 وكان محمّد بن عبد الوهّاب يأمر أيضاً بحلق رؤوس النساء اللاتي

__________________

(١) الأحسائي ، المتوفّي ١١٦٤ ه ، من فقهاء الحنابلة ، ولد في الأحساء ، وله كتب في علم الفلك . الأعلام للزركلي ٦ : ١٩٧ .

(٣) صحيح البخاري ٩ : ٨٤١ / ٢٣٥٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦٢ / ١٧٥ .

(٤) الحسيني الطالبيّ من علماء الشافعيّة في اليمن من أهل زبيد ، المتوفّي ١٢٥٠ ه ، له مؤلّفات .. . الأعلام للزركلي ٣ : ٣٠٧ .

١٩٧

يتبعنه ، فأقامت عليه الحجّة امرأة دخلت في دينه ، و جدّدت إسلامها على زعمه ، فأمر بحلق رأسها ، فقالت له : لم تأمر بحلق اللّحى للرجال ، فلو أمرتهم بحلق اللحى لساغ لك أن تأمر بحلق رؤوس النساء ؛ لأنّ شعر الرأس للنساء بمنزلة اللحية للرجال ، فبهت الذي كفر ولم يجد لها جواباً ، لكنه إنّما فعل ذلك ليصدق عليه وعلى من اتّبعه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيماهم التحليق » فإنّ المتبادر منه حلق الرأس فقد صدق صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما قال ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أشار إلى المشرق : « من حيث يطلع قرن الشيطان » جاء في رواية : « قرنا الشيطان (١) » بصيغة التثنية (٢) ..

قال بعض العلماء (٣) : المراد من قرني الشيطان : مسيلمة الكذّاب ، ومحمّد بن عبد الوهّاب .

أقول : والأنسب أن يكون المراد من قرني الشيطان : أحمد بن تيميّة ، ومحمّد بن عبد الوهّاب .

ثمّ نقل جملة أحاديث في الفتن تنطبق على هؤلاء (٤) .

إلى أن قال : وفي رواية:«سيظهر من نجد شيطان تتزلزل جزيرة العرب من فتنته»(٥) .

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٨٩ / ٤٠٤٧ : اللهمّ بارك لنا في شامنا اللهمّ بارك لنا في يمننا ، قالوا : في نجدنا ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هناك الزلازل ، والفتن ، وبها .. » أو قال : « منها يخرج قرن الشيطان« . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب . ورواه الترمذي بسندين .

(٢) صحيح مسلم ٤ : ٢٢٢٩ .

(٣) هو السيد علوي الحدّاد في مصباح الأنام ( الوهابية المتطرفة ٢ ) : ٢٢٣ .

(٤) خلاصة الكلام في بيان أُمراء البلد الحرام : ٣١٠ .

(٥) خلاصة الكلام : ٣١٠ ، وانظر الدرر السنيّة لزيني دحلان : ٥١ ، والفجر الصادق للزهاوي : ٢١ .

١٩٨

قال : قال السيّد علوي الحدّاد بن أحمد بن حسن بن القطب سيدي عبد اللَّه بن علوي الحدّاد في كتابه الذي ألّفه في الردّ على ابن عبد الوهّاب المسمّى جلاء الظلام في الردّ على النجدي الذي أضلّ العوام بعد نقل جملة من الأحاديث النبويّة : إنّ الذي ورد في بني حنيفة وفي ذمّ بني تميم ووائل شي‏ء كثير ، ويكفيك أنّ أغلب الخوارج وأكثرهم منهم (١) . وأنّ الطاغية ابن عبد الوهّاب من تميم ، وأنّ رئيس الفرقة الباغية عبد العزيز من وائل (٢) .

ثمّ نقل عن ابن عبد الوهاب التجسيم للباري‏سبحانه وتعالى ، وعقد الدروس لذلك ، وتنقيصه للرسل عليهم الصلاة والسلام وللأولياء ، ونبشه قبورهم ، وأمر في الأحساء أن تجعل قبور الأولياء محلّا لقضاء الحاجة ، وتكفير الاُمّة من ستمائة سنة ، و إحراقه الكتب الكثيرة ، وقتله لكثير من العلماء وخواص الناس وعوامهم ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات ومن الرواتب والأذكار ، ومن قراءة مولد النبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن الصلاة عليه في المنابر بعد الأذان ، وقتل من فعل ذلك .

قال : وكان يعتقد أنّ الإسلام منحصر فيه وفيمن تبعه ، وأنّ الخلق كلّهم مشركون ، وكان يصرّح في مجالسه وخطبه بكفر المتوسّل بالأنبياء والملائكة والأولياء ، بل يزعم أنّ من قال لأحد : مولانا وسيّدنا فهو كافر ، ولا يلتفت إلى قول اللَّه تعالى في سيدنا يحيى عليه‌السلام : ( وسيّداً ) (٣) ولا إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهللأنصار : « قوموا لسيّدكم » يعني سعد بن معاذ رضي‌الله‌عنه (٤) ،

__________________

(١ و ٢) خلاصة الكلام في بيان اُمراء البلد الحرام : ٣١١ ، وراجع مصباح الأنام وجلاء الظلام : ١٠ .

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٣٩ ، وفي سورة يوسف ١٢ : ٢٥ : ( سيّدها لدى الباب ) ، وفي سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٧ : ( سادتنا ) .

(٤) مسند أحمد ٣ : ٢٢ ، وفي طبقات ابن سعد ٣ : ٤٢٥ : « قوموا إلى سيّدكم » .

١٩٩

و يمنع من زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله و يجعله كغيره من الأموات (١) .

قال : ثمّ قال السيّد العلوي الحدّاد : والحاصل أنّ المحقّق عندنا من أقواله وأفعاله ما يوجب خروجه من القواعد الإسلاميّة ؛ لاستحلاله أموراً مجمعاً على تحريمها معلومة من الدين بالضرورة بلا تأويل سائغ ، مع تنقيصه الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين ، وتنقيصهم تعمّداً كفر بالإجماع عند الأئمّة الأربعة (٢) ، انتهی .

وصنّف ابن عبد الوهاب رسالة سمّاها كشف الشبهات عن خالق الأرض والسماوات كفّر بها جميع المسلمين ، وزعم أنّ الناس كفّار منذ ستمائة سنة ، وحمل الآيات التي نزلت في الكفّار من قريش على أتقياء الاُمّة ..

وكان ممّن تبعه وقبل منه كلّ ما يقول محمّد بن سعود أمير الدرعيّة ، واتّخذه وسيلة لاتّساع الملك وانقياد الأعراب له ، فصار يدعوهم إلى الدين ، وأثبت في قلوبهم أنّ جميع من هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق ، ومن قتل مشركاً فله الجنّة ، فتابعوه وصارت نفوسهم بهذا الاعتقاد مطمئنّة ، وكان محمّد بن سعود يمتثل ما يأمره ، فإذا أمر بقتل إنسان أو أخذ ماله سارع إلى ذلك ، فكان محمّد بن عبد الوّهاب معهم كالنبي في اُمّته لا يتركون شيئاً ممّا يقوله ولا يفعلون شيئاً إلّا بأمره ، و يعظّمونه غاية التعظيم ، ويبجّلونه غاية التبجيل..

ومازال يطيعه حيّ بعد حيّ من أحياء العرب وقبائلها ، فاتّسع ملك محمّد بن سعود وملك أولاده بعده حتّى ملكوا جزيرة العرب ، وإذا أراد أن

__________________

(١) خلاصة الکلام في بیان أًمراء البلد الحرام : ٣١٢ .

(٢) مصباح الأنام وجلاء الظلام : ٦٥ ، وراجع خلاصة الکلام : ٣١٢ .

٢٠٠