حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

سكنت (الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (١٠٨) صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل في مشيها (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أحدا (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أن يشفع له (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) بأن يقول لا إله إلا الله (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمور الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) من أمور الدنيا (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١١٠) لا يعلمون ذلك (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) خضعت (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي الله (وَقَدْ خابَ) خسر (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) أي شركا (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً) بزيادة في سيئاته (وَلا هَضْماً) (١١٢) بنقص من حسناته (وَكَذلِكَ) معطوف على كذلك نقص أي مثل إنزال ما ذكر

____________________________________

بعضهم. قوله : (إلى عرض الرحمن) أي العرض عليه. قوله : (لا عِوَجَ لَهُ) أي لا يزيغون عنه يمينا ولا شمالا ، بل يأتونه سراعا. قوله : (لِلرَّحْمنِ) أي لجلاله وهيبته. قوله : (إِلَّا هَمْساً) مفعول به وهو استثناء مفرغ.

قوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) من مفعول به ، وهي واقعة على المشفوع له أو على الشفيع ، فقول المفسر (أن يشفع له) أي أو يشفع في غيره. قوله : (بأن يقول لا إله إلا الله) أي مع عديلتها وهي محمد رسول الله ، والمعنى أن من مات على الإسلام ، فقد رضي الله قوله ، وأذن له أن يشفع في غيره ، وأن يشفع غيره فيه. قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي الخلق عموما. قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ) أي بما بين أيديهم وما خلفهم. قوله : (لا يعلمون ذلك) أي لا تفصيلا ولا إجمالا ، وإنما يعلمه الله سبحانه وتعالى.

قوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) عنا فعل ماض ، والتاء للتأنيث و (الْوُجُوهُ) فاعل وأصله عنوت ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، فهو من باب سما يسمو سموا ، وأما عنى كرضي يعني عنا فهو بمعنى تعب ، وليس مرادا هنا ، بل المراد خضعت وذلت ، وأل في الوجوه للاستغراق أي كل الوجوه ، والمراد أصحابها ، وخصت الوجوه بالذكر ، لأن الذل أول ما يظهر فيها. قوله : (لِلْحَيِ) أي الذي حياته أبدية ، لا أول لها ولا آخر. قوله : (الْقَيُّومِ) أي القائم على كل نفس بما كسبت ، فيجازيها على الخير والشر.

قوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أشار بذلك إلى أن الخلائق تنقسم في القيامة قسمين : أهل سعادة ، وأهل شقاوة ، وكلاهما في خضوع وذل لله جل جلاله ، لكن أهل السعادة خضوعهم إجلالا وهيبة ورغبة في الله ، وأهل الشقاوة خضوعهم رهبة وإشفاقا من عذاب الله ، ويأسا من رحمة الله ، قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ). قوله : (خسر) أي ظهر خسرانه. قوله : (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي تحمله وارتكبه ، وهذه الآية باعتبار ظاهرها ، تدل على أن أهل الظلم خائبون خاسرون ، أي معرضون لذلك ، ففي الحديث : «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإن الظالم ربما أداه ظلمه إلى الكفر والعياذ بالله تعالى ، فإذا مات على ذلك ، فهو مخلد في النار ، وإن مات على الإسلام ، فقد نقص عن مراتب المطهرين بسبب الزيادة في سيئاته والنقص من حسناته. قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الجملة حالية. قوله : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) أي وبضدها تتميز الأشياء ، فالعاصي الظالم يخاف

٤٤١

(أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا) كررنا (فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الشرك (أَوْ يُحْدِثُ) القرآن (لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣) بهلاك من تقدمهم من الأمم فيعتبرون (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) عما يقول المشركون (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) أي بقراءته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي يفرغ جبريل من إبلاغه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤) أي بالقرآن ، فكلما أنزل عليه شيء منه

____________________________________

زيادة سيئاته ونقص حسناته لما ورد أنه «يؤخذ من حسناته للمظلوم ، فإن لم يبق له حسنات ، طرح من سيئات المظلوم عليه». قوله : (أي مثل إنزال ما ذكر) أي الآيات المشتملة على تلك القصص العجيبة الغريبة.

قوله : (أَنْزَلْناهُ) أي على لسان جبريل ، مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع. قوله : (عَرَبِيًّا) أي بلغة العرب ، ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر. قوله : (مِنَ الْوَعِيدِ) أي التخويف. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الشرك) أي يجعلون بينهم وبين الشرك وقاية بأن يؤمنوا. قوله : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي موعظة في القلوب ، فينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكرار المواعظ في القرآن من مزيد رحمته بعباده ، سيما مع إمهالهم وعدم معاجلتهم بالأخذ ، ولذلك يقال للكفار يوم القيامة : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ). قوله : (الْمَلِكُ) أي النافذ حكمه وأمره. قوله : (الْحَقُ) أي الثابت الذي لا يقبل الزوال أزلا ولا أبدا.

قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) المعنى لا تتعجل بقراءة ما ألقاه عليك جبريل في قلبك ، حتى يقرأه عليك ، وسبب ذلك : أن جبريل كان يأتي للنبي بالقرآن ، فيلابس جسمه ويضعه في قلبه ، فيريد النبي التعجيل والنطق به ، فأمره الله أن لا ينطق به حتى يقرأه جبريل باللسان عليه ظاهرا ، وهذا معنى قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) والحكمة في تلقي رسول الله عن جبريل ظاهرا ، أنه يكون سنة متبعة لأمته ، فهم مأمورون بالتلقي من أفواه المشايخ ، ولا يفلح من أخذ العلم أو القرآن من السطور ، بل التلقي له سر آخر.

قوله : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل ربك الاستزادة من العلوم بسبب توالي نزول القرآن ، فإنها أفضل ما يسأل وأعز ما يطلب ، ومن هنا أمر المشايخ المريدين بتلاوة القرآن والتعبد به ، بعد كمالهم ونظافة قلوبهم ، وما داموا لم يكملوا ، يأمرونهم بالمجاهدة بالذكر ونحوه لتخلص قلوبهم ، والحكمة في ذلك ، أن الغفلة في الذكر أخف منها في القرآن لما في الأثر : رب قارى للقرآن والقرآن يلعنه ، فجعل العارفون للتوصل للقرآن طرقا يجاهدون أنفسهم فيها ، ليزدادوا بقراءتهم القرآن علوما ومعارف وأخلاقا ، وحينئذ فليس تركهم القراءة في المبدإ ، لكون غيره أفضل منه ، بل لينظفوا أنفسهم للقراءة. قوله : (وصيناه أن لا يأكل من الشجرة) أي نهيناه عن الأكل منها ، وحتمنا عليه الأكل منها ، فغلب مرادنا على أمرنا. قوله : (ترك عهدنا) أي متأولا حيث غلطه إبليس بقوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وقاسمهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فظن أنه لا يحلف أحد بالله كذبا.

٤٤٢

زاد به علمه (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) وصينا أن لا يأكل من الشجرة (مِنْ قَبْلُ) أي قبل أكله منها (فَنَسِيَ) ترك عهدنا (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) حزما وصبرا عما نهيناه عنه (وَ) اذكر (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) وهو أبو الجن كان يصحب الملائكة ويعبد الله معهم (أَبى) (١١٦) عن السجود لآدم قال أنا خير منه (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء بالمد (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧) تتعب بالحرث والزرع والحصد والطحن والخبز وغير ذلك واقتصر على شقائه لأن الرجل يسعى على زوجته (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) (١١٨) (وَأَنَّكَ) بفتح الهمزة وكسرها عطف على اسم إن وجملتها (لا تَظْمَؤُا فِيها) تعطش (وَلا تَضْحى) (١١٩) لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي التي يخلد من يأكل منها (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠) لا يفنى وهو لازم الخلد (فَأَكَلا) أي آدم وحواء (مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره وسمى كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه (وَطَفِقا يَخْصِفانِ) أخذا يلزقان (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ليستترا به (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١٢١)

____________________________________

قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن ، تعليما للعباد امتثال الأمر واجتناب النهي ، وعطف هذه القصة على ما قبلها ، من عطف السبب على المسبب ، لأن هذه القصة سبب في عداوة إبليس لآدم. قوله : (فَسَجَدُوا) أي جميعا ، وتقدم الجواب عن سجود الملائكة بأوضح وجه. قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل أو منقطع. قوله : (كان يصحب الملائكة) الخ ، توجيه للاتصال لكونه لم يعبر بلكن. قوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) النهي لإبليس صورة ، والمراد نهيهما عن تعاطي أسباب الخروج ، فيتسبب عن ذلك حصول التعب له في الدنيا. قوله : (واقتصر على شقائه) أي مع أن النهي لهما معا.

قوله : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) الخ ، قابل الله سبحانه وتعالى بين الجوع والعري ، والظمأ والضحو ، وإن كان الجوع يقابل العطش ، والعري يقابل الضحو ، لأن الجوع ذل الباطن ، والعري ذل الظاهر ، والظمأ حر الباطن ، والضحو حر الظاهر ، فنفى عن ساكن الجنة ، ذل الظاهر والباطن ، وحر الظاهر والباطن. قوله : (بفتح الهمزة وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (قالَ يا آدَمُ) بيان لصورة الوسوسة. قوله : (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي بسبب تساقط حلل الجنة عنهما ، لما أكلا من الشجرة. قوله : (يسوء صاحبه) أي يحزنه. قوله : (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي ورق التين ، فصارا يلزقان بعضه ببعض ، حتى يصير طويلا عريضا يصلح للاستتار به.

قوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أي وقع فيما نهى عنه متأولا ، حيث تخلف ما قصده بأكله من الشجرة ، وضل عن مطلوبه وهو الخلود في الجنة ، فمعصيته وقوعه في المخالفة باعتبار الواقع ، لا في القصد والنية ، بل قصده ونيته امتثال الأمر ، وتجنب ما يوجب الخروج ، وحينئذ فلا يجوز أن يطلق على آدم

٤٤٣

بالأكل من الشجرة (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) قربه (فَتابَ عَلَيْهِ) قبل توبته (وَهَدى) (١٢٢) أي هداه إلى المداومة على التوبة (قالَ اهْبِطا) أي آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما (مِنْها) من الجنة (جَمِيعاً بَعْضُكُمْ) بعض الذرية (لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) من ظلم بعضهم بعضا (فَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة (يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) أي القرآن (فَلا يَضِلُ) فى الدنيا (وَلا يَشْقى) (١٢٣) في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي القرآن فلم يؤمن به (فَإِنَّ لَهُ

____________________________________

العصيان والغواية ، من غير اقتران بالتأويل ، ولا نفي اسم العصيان عنه لصريح الآية ، وعلى كل حال ، فالله عنه راض ، وهو معصوم قبل النبوة وبعدها ، من كل ما يخالف أمر الله ، هذا هو الحق في تقرير هذا المقام. واعلم أن الخطأ والنسيان ، يقع من المعصومين للتشريع والمصالح ، كما هو معهود في نصوص الشرع ، وتسمية الله له في حقهم معصية ، من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله : (بالأكل من الشجرة) ، تقدم أنها الحنطة ، وقيل التين ، وقيل غير ذلك.

قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ) أي اصطفاه واختاره. قوله : (قبل توبته) أي بقوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الخ. قوله : (إلى المداومة على التوبة) أي الاستمرار عليها. قوله : (قالَ اهْبِطا) أي قال الله تعالى لآدم وحواء : اهبطا من الجنة ، لأن مكثهما فيها كان معلقا على عدم أكلهما من الشجرة ، وقد سبق في علمه تعالى أنهما يأكلان منها ، فهو أمر مبرم ، والمعلق على المبرم مبرم ، فإخراجهما ليس للغضب عليهما ، بل لمزيد شرفهما ورفعة قدرهما ، لأنهما خرجا من الجنة منفردين ، ويعودان إليها بمائة وعشرين صفا من أولادهما ، لا يحيط بعدة تلك الصفوف إلا الله تعالى. إن قلت : ما الحكمة في تعليق الخروج على الأكل من الشجرة ، ولم يكن بلا سبب؟ أجيب : بأن الله سبحانه وتعالى كريم ، ومن عادة الكريم ، أن لا يسلب نعمته عن المنعم إليه إلا بحجة ، قال تعالى ذلك ، بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قوله : (أي آدم وحواء) يحتمل أن (أي) حرف نداء ، و (آدم) منادى مبني على الضم في محل نصب ، و (حواء) معطوف على آدم ، ويحتمل أن أي حرف تفسير ، وآدم وحواء تفسير للضمير في اهبطا. قوله : (بما اشتملتما عليه) قصد بذلك التوفيق بين هذه الآية وآية الأعراف ، حيث جمع فيها ، وتقدم لنا وجه آخر في التوفيق بينهما ، بأن الجمع باعتبار آدم وحواء وإبليس والحية ، وعلى هذا فقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) باعتبار أن الحية وإبليس عدو لآدم وذريته. قوله : (من ظلم بعضهم بعضا) أي من أجل ظلم بعضهم بعضا لما في الحديث : «سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من سوى أنفسها فاستجاب لي».

قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) إن شرطية مدغمة في ما الزائدة و (يَأْتِيَنَّكُمْ) فعل الشرط مبني على الفتح في محل جزم لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة و (مِنِّي) متعلق بهدى و (هُدىً) فاعل ، وقوله : (فَمَنِ اتَّبَعَ) الخ ، من شرطية و (اتَّبَعَ) فعل الشرط ، وجملة (فَلا يَضِلُ) جوابه ، وقوله : (وَمَنْ أَعْرَضَ) الخ ، جملة شرطية أيضا ، والجملتان في محل جزم جواب الشرط الأول. قوله : (أي القرآن) في تفسير الهدى والذكر فيما يأتي بالقرآن قصور ، لأن الخطاب مع آدم وذريته ، وهداهم وتذكيرهم أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره من الكتب النازلة على الرسل ، فالمناسب أن يقول أي كتاب ورسول. قوله :

٤٤٤

مَعِيشَةً ضَنْكاً) بالتنوين مصدر بمعنى ضيقة ، وفسرت في حديث بعذاب الكافر في قبره (وَنَحْشُرُهُ) أي المعرض عن القرآن (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤) أي أعمى البصر (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (١٢٥) في الدنيا وعند البعث (قالَ) الأمر (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) تركتها ولم تؤمن بها (وَكَذلِكَ) مثل نسيانك آياتنا (الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦) تترك في النار (وَكَذلِكَ) ومثل جزائنا من أعرض عن القرآن (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) أشرك (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا وعذاب القبر (وَأَبْقى) (١٢٧) أدوم (أَفَلَمْ يَهْدِ) يتبين (لَهُمْ) لكفار مكة (كَمْ) خبرية مفعول (أَهْلَكْنا) أي كثيرا إهلاكنا (قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي الأمم الماضية بتكذيب الرسل (يَمْشُونَ) حال من ضمير لهم (فِي مَساكِنِهِمْ) في سفرهم إلى الشام وغيرها فيعتبروا وما ذكر من أخذ إهلاك من فعله الخالي عن حرف مصدري لرعاية المعنى لا

____________________________________

(بالتنوين) أي وصلا وإبداله ألفا وقفا ، وفي قراءة شاذة ضنكى كسكرى ، بألف بدل عن التنوين ، إجراء للوصل مجرى الوقف. قوله : (مصدر) أي وهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، بل هو بلفظ واحد للجميع ، ولذلك لم يقل ضنكة. قوله : (بعذاب الكافر في قبره) أي لما ورد أنه يضغط عليه القبر حتى تختلف أضلاعه ، ولا يزال في العذاب حتى يبعث ، وقيل المراد بالمعيشة الضنكى ، الحياة فيما يغضب الله تعالى ، وإن كان في رخاء ونعمة ، إذ لا خير في نعمة بعدها النار ، لما في الحديث : «رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا». قوله : (أي المعرض عن القرآن) المناسب أن يقول المعرض عن الهدى لما علمت. قوله : (أي أعمى البصر) أي وذلك في المحشر ، فإذا دخل النار زال عماه ، ليرى مقعده في النار وعذابه بها. قوله : (الأمر) (كَذلِكَ) قدره إشارة إلى أن كذا خبر لمحذوف. قوله : (تركتها ولم تؤمن بها) أي فالمراد بالنسيان الإعراض وعدم الإيمان بها ، وليس المراد حقيقة النسيان ، وحينئذ فلا يصح الاستدلال بهذه الآية ، على أن من حفظ القرآن ثم نسيه ، يحشر يوم القيامة أعمى ، لأنه أمر اختلف فيه العلماء ، فمذهب مالك رضي الله عنه حفظ الزائد عما تصح به الصلاة من القرآن مستحب أكيد ابتداء ودواما فنسيانه مكروه ، ومذهب الشافعي نسيان كل حرف منه كبيرة تكفر بالتوبة والرجوع لحفظه. قوله : (أدوم) أي لأنه لا ينقطع ، بخلاف عذاب الدنيا والقبر.

قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أعموا فلم يهد لهم. قوله : (يتبين) أشار بذلك إلى أن (يَهْدِ) فعل لازم ، والمعنى أعموا فلم يظهر لهم إهلاكنا كثيرا من قبلهم من القرون. قوله : (مفعول به) أي وتمييزها محذوف أي قرنا ، وقوله : (مِنَ الْقُرُونِ) متعلق بمحذوف صفة لذلك التمييز. قوله : (بتكذيب الرسل) الباء سببية ، أي إن الإهلاك بسبب تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله ورسوله. قوله : (وما ذكر) مبتدأ ، وقوله : (لا مانع منه) خبره ، والمعنى أن أخذ المصدر من الفعل لصحة المعنى ، لا يتوقف على الحرف المصدري ، بل يسبك المصدر من الفعل بدون سابك ، لتوقف المعنى عليه ، وأما لصحة الإعراب ، فلا يكون غالبا إلا بحرف مصدري. قوله : (لذوي العقول) أي السليمة الصافية ، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون.

٤٤٥

مانع منه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لعبرا (لِأُولِي النُّهى) (١٢٨) لذوي العقول (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب عنهم إلى الآخرة (لَكانَ) الإهلاك (لِزاماً) لازما لهم في الدنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (١٢٩) مضروب لهم معطوف على الضمير المستتر في كان وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) منسوخ بآية القتال (وَسَبِّحْ) صلّ (بِحَمْدِ رَبِّكَ) حال أي ملتبسا به (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِها) صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) ساعاته (فَسَبِّحْ) صلّ المغرب والعشاء (وَأَطْرافَ النَّهارِ) عطف على محل من آناء المنصوب أي صل الظهر لأن وقتها يدخل بزوال الشمس فهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني (لَعَلَّكَ

____________________________________

قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) أي إن الله سبحانه وتعالى سبق في علمه تأخير العذاب العام لهذه الأمة ، إكراما لنبيها ، ولو لا ذلك ، لحل بهم كما حل بمن قبلهم من القرون الماضية ، فتأخيره إمهال لا إهمال ، ليتدارك الكافر ما فاته بما بقي من عمره ، فإن تاب قبله ربه. قوله : (معطوف على الضمير المستتر في كان) أي والمعنى لكان الإهلاك والأجل المعين له لزاما ، أي لازما لهم ، ولم يقل لازمين ، لأن لزاما مصدر في الأصل ؛ وإن كان هنا بمعنى اسم الفاعل ، وقوله : (وقام الفصل) الخ ، أي أن العطف على ضمير الرفع المتصل جائز إذا حصل الفاصل بالضمير المنفصل ، أو فاصل ما كما هنا ، قال ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متّصل

عطفت فافصل بالضّمير المنفصل

أو فاصل ما. وأحسن ما قرره المفسر أن يجعل قوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوفا على (كَلِمَةٌ) والمعنى : ولو لا كلمة وأجل مسمى ، وهو مدة معيشتهم في الدنيا التي قدرها الله لهم ، لكان العذاب العام لازما. قوله : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي حيث علمت أن تأخير عذابهم ليس بإهمال ، بل هو لازم لهم في القيامة ، فتسل واصبر ولا تنزعج. قوله : (منسوخ بآية القتال) أي وعليه فالمراد بقوله اصبر لا تعاجلهم بالقتال ، وقيل إن الآية محكمة ، وعليه فالمراد بالصبر عدم الاضطراب مما صدر منهم من الأذية. قوله : (صلّ) إنما سمى التسبيح والتحميد صلاة لاشتمالها عليهما ، ولأن المقصود من الصلاة تنزيه الله عن كل نقص. والمعنى لا تشتغل بالدعاء عليهم ، بل صلّ الصلوات الخمس ، ولما كان الأصل في الأمر الوجوب حمل الأمر بالتسبيح والتحميد على الأمر بالصلاة. قوله : (حال) أي من فاعل (سَبِّحْ) والباء في (بِحَمْدِ رَبِّكَ) للملابسة كما قال المفسر.

قوله : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى ، وأصله أأناه بهمزتين ، أبدلت الثانية ألفا على القاعدة المعروفة. قوله : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) المراد بالجمع ما فوق الواحد ، لأن المراد به الزمن الذي هو آخر النصف الأول وأول الثاني. قوله : (المنصوب) أي بسبح. والمعنى صلّ في أطراف النهار ، وهو الوقت الذي يجمع الطرفين وهو الزوال. قوله : (لَعَلَّكَ تَرْضى) متعلق بسبح ، أي سبح في هذه الأوقات لعلك ترضى بذلك ، وانظر إلى هذا الخطاب اللطيف المشعر بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيب رب العالمين

٤٤٦

تَرْضى) (١٣٠) بما تعطى من الثواب (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً) أصنافا (مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) زينتها وبهجتها (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) بأن يطغوا (وَرِزْقُ رَبِّكَ) في الجنة (خَيْرٌ) مما أوتوه في الدنيا (وَأَبْقى) (١٣١) أدوم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ) اصبر (عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ) نكلفك (رِزْقاً) لنفسك ولا لغيرك (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ) الجنة (لِلتَّقْوى) (١٣٢) لأهلها (وَقالُوا) أي المشركون (لَوْ لا) هلا (يَأْتِينا) محمد (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) مما يقترحونه (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) بالتاء والياء (بَيِّنَةُ) بيان (ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٣٣) المشتمل عليه القرآن من أنباء الأمم الماضية وإهلاكهم بتكذيب الرسل (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) قبل محمد الرسول (لَقالُوا) يوم

____________________________________

وأفضل الخلق أجمعين حيث قال له ربه (لَعَلَّكَ تَرْضى) ولم يقل لعلي أرضى عليك ونحو ذلك ، ومن هنا قوله عليه الصلاة والسّلام : «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ، وقول السيدة عائشة رضي الله عنها : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ، فصلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بها ليرضى هو ، لا ليكفر الله عنه سيئاته ، ولا ليرضى عليه ، وحينئذ فلا كلفة عليه فيها ، لأن فيها شهوده لربه الذي هو قرة عينه ، وللعارفين الكاملين من أمته ، نصيب من هذا المقام.

قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) عطف على (فَاصْبِرْ) أي لا تنظر بعينيك إلى زهرة الدنيا نظر رغبة ، وهذا الخطاب لرسول الله والمراد غيره ، لأن ذلك مستحيل عليه ، لما ورد : أنه خير بين أن يكون نبيا ملكا ، أو نبيا عبدا ، فاختار أن يكون نبيا عبدا ، وورد «لست من الدنيا ، وليست الدنيا مني». قوله : (أصنافا) (مِنْهُمْ) أي الخلق ، فالدنيا دائرة في أصناف الخلق ، فتارة تكون مع الشريف ، وتارة مع الوضيع ، وهكذا. قوله : (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الأحسن أنه منصوب على أنه مفعول ثان لمتعنا ، بتضمينه معنى أعطينا ، والأول هو قوله : (أَزْواجاً). قوله : (بأن يطغوا) الباء سببية ، أي نفتنهم بسبب طغيانهم فيه. قوله : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي فعلى الإنسان أن يشتغل بما هو خير وأبقى ، وهو الجنة ونعيمها ، ويترك ما يفنى وهو الدنيا ، وقسمته الأزلية تأتيه منها من غير تعب ولا مشقة.

قوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) أي أمتك. قوله : (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي وأمرهم بذلك. قوله : (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) أي نحن متكفلون برزقك ، فتفرغ لما كلفت به ، ولا تشتغل بما تكفلنا لك به ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أصاب أهل بيته ضيق ، أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية. قوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أي الجميلة المحمودة لأهل التقوى. قوله : (أي المشركون) أي وهم كفار مكة. قوله : (مما يقترحونه) أي يطلبونه هنا كما تقدم في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآيات.

قوله : أولم تأتيهم الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة على ذلك المحذوف ، أي أعموا ولم تأتهم الخ. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي الكتب المتقدمة ، والمعنى ألم يكتفوا بالقرآن المحتوي على أخبار الأمم الماضية. قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ) كلام

٤٤٧

القيامة (رَبَّنا لَوْ لا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) المرسل بها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) في القيامة (وَنَخْزى) (١٣٤) في جهنم (قُلْ) لهم (كُلٌ) منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) منتظر ما يؤول إليه الأمر (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ) في القيامة (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ) الطريق (السَّوِيِ) المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥) من الضلالة أنحن أم أنتم.

____________________________________

مستأنف لتقرير ما قبله. قوله : (لَقالُوا رَبَّنا) الخ أي لكان لهم أن يحتجوا يوم القيامة ، ويعتذروا بهذا العذر ، فقطع عذرهم بإرسال الرسول لهم ، ولم يهلكهم قبل مجيئه. قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) يحصل لنا الذل والهوان. قوله : (نَخْزى) أي نفضح. قوله : (ما يؤول إليه الأمر) أي أمرنا وأمركم. قوله : (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا. قوله : (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ مَنْ) في الموضعين استفهامية ، والكلام على حذف مضاف ، والتقدير فستعلمون جواب من أصحاب الخ ، وهو أنهم هم المؤمنون. قوله : (وَمَنِ اهْتَدى) (من الضلالة) أشار المفسر إلى وجه المغايرة بين القسمين ، فأصحاب الصراط السوي ، من لم يضل أصلا كالنبي ، ومن أسلم صبيا. ومن اهتدى ، هو من سبق له الكفر ثم أسلم بعد ذلك.

* * *

٤٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأنبياء

مكيّة

وهي مائة واحدى أو اثنتا عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ) قرب (لِلنَّاسِ) أهل مكة منكري البعث (حِسابُهُمْ) يوم القيامة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عنه (مُعْرِضُونَ) (١) عن التأهب له بالإيمان (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) شيئا فشيئا أي لفظ قرآن (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) يستهزئون

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأنبياء مكية

وهي مائة وإحدى أو اثنتا عشرة آية

سميت بذلك لذكر قصص جملة من الأنبياء فيها. قوله : (مكية) أي نزلت قبل الهجرة باتفاق. قوله : (أو اثنتا عشرة آية) هذا الخلاف مرتب على الخلاف في قوله تعالى : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) هل هو آية واحدة أو آيتان ، وأول الثانية قوله : (أُفٍّ لَكُمْ) الخ. قوله : (أهل مكة) أشار بذلك إلى أنه من إطلاق العام وإرادة الخاص وحاصل ذلك أن كفار قريش قالوا : محمد يهددنا بالبعث والجزاء على الأعمال وهذا بعيد ، فأنزل الله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وجه قرب الحساب أنه آت لا محالة ، وكل آت قريب ، أو يقال إن قربه باعتبار ما مضى من الزمان ، فإن ما بقي أقل مما مضى. قوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الجملة حالية أي قرب حسابهم ، والحال أنهم غافلون معرضون غير متأهبين له ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهذه الآية ، وإن كان سببها الرد على كفار مكة ، إلا أن العبرة بعمومها.

قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) هذا في معنى العلة لما قبله ، كأنه قال : معرضون لأنه يأتيهم من ذكر

٤٤٩

(لاهِيَةً) غافلة (قُلُوبُهُمْ) عن معناه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي الكلام (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو وأسروا النجوى (هَلْ هذا) أي محمد (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فما يأتي به سحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) تتبعونه (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) تعلمون أنه سحر (قالَ) لهم (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) كائنا (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ) لما أسروه (الْعَلِيمُ) (٤) به (بَلْ) للانتقال من غرض إلى آخر في المواضع الثلاثة (قالُوا) فيما أتى به من القرآن هو (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أخلاط رآها في النوم (بَلِ افْتَراهُ) اختلقه (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فما أتى به شعر (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥) كالناقة والعصا واليد

____________________________________

الخ. قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلق بيأتيهم. قوله : (أي لفظ قرآن) دفع بذلك ما يقال : كيف وصف الذكر بالحدوث ، مع أن المراد به القرآن وهو قديم؟ فأجاب : بأن وصفه بالحدوث باعتبار ألفاظه المنزلة علينا ، وأما باعتبار المدلول ، وهو الوصف القائم بذاته تعالى فهو قديم ، وأما ما دلت عليه الألفاظ الحادثة ، فمنها ما هو قديم ، كمدلول آية الكرسي والصمدية ، ومنها ما هو حادث ، كمدلول القصص وأخبار المتقدمين ، ومنها ما هو مستحيل ، كمدلول ما اتخذ الله من ولد.

قوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) الجملة حالية من فاعل (اسْتَمَعُوهُ) ، وكذا قوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) والمعنى ما يقرأ عليهم القرآن ، إلا استمعوه في حال استهزائهم ، وكون قلوبهم غافلة عن معناه ، فلا يسمعونه سماع تدبر وقبول ، وكل آية وردت في الكفار ، جرت بذيلها على عصاة الأمة ، ففي هذه الآية ، تحذير لمن يستمع القرآن في حال لهوه ولعبه ، وأقبح منه من يطرب سماعه ، من حيث اشتماله على الأنغام المعروفة ، لا من حيث بلاغته ومواعظه وأحكامه وكونه من عند الله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله : (بدل من واو وأسروا النجوى) أشار بذلك إلى أن أسر فعل ماض ، والواو فاعله ، و (النَّجْوَى) مفعوله ، و (الَّذِينَ) بدل ، وهذه إحدى طريقتين للنحويين في الفعل الذي لحقته العلامة وأسند للظاهر ، والطريقة الثانية : أن الواو حرف علامة ، و (الَّذِينَ) فاعل وتسمى بلغة أكلوني البراغيث ، ولما كانت ضعيفة ، لا ينبغي حمل الآية عليها ، أعرض عنها المفسر.

قوله : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بدل من (النَّجْوَى) مفسر لها ، أي فكانوا يتناجون بذلك سرا بينهم ، ثم يشيع كل واحد منهم مقالته ليضل غيره. قوله : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أي تحضرونه وتقبلونه. قوله : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الجملة حالية من فاعل تأتون. قوله : (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أشار المفسر إلى أنه حال من القول ، أي يعلم القول ، حال كون القول كائنا في السماء والأرض. قوله : (للانتقال من غرض إلى آخر) أي فلا تقع بل في القرآن ، إلا للانتقال لا للإبطال ، لأنه يكون إضرابا عن الكلام السابق وإعراضا عنه ، لكونه صدر على وجه الغلط ، وتنزه الله عنه ، خلافا لمن يقول : إنها تأتي للإبطال ، واستدل بقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ، وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) ولا دليل في ذلك ، لأن بل فيهما للانتقال من الإخبار بقولهم ، إلى الإخبار بالواقع ، فتأمل. قوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله : (هو) ، والجملة مقول القول. قوله : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي يأتي بكلام يخيل للسامع معاني لا حقيقة لها ، وليس المراد بالشعر هنا ، خصوص الكلام المقفى

٤٥٠

قال تعالى (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلها (أَهْلَكْناها) بتكذيبها ما أتاها من الآيات (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٦)؟ لا (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي) وفي قراءة بالنون وكسر الحاء (إِلَيْهِمْ) لا ملائكة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) العلماء بالتوراة والإنجيل (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧) ذلك فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد (وَما جَعَلْناهُمْ) أي الرسل (جَسَداً) بمعنى أجسادا (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) بل يأكلونه (وَما كانُوا خالِدِينَ) (٨) في الدنيا (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) بإنجائهم (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أي المصدقين لهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩) المكذبين لهم (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا معشر قريش (كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) لأنه بلغتكم

____________________________________

الموزون قصدا ، بل ما هو أعم. قوله : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) جواب شراط مقدر ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولا كما يزعم فليأتنا الخ. قوله : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) صفة لمصدر محذوف ، والتقدير إتيانا كائنا مثل إرسال الأولين.

قوله : (مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ) زائدة في الفاعل. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (وَما أَرْسَلْنا) رد لقولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). قوله : يوحى إليهم أي يأتيهم الوحي بالشرائع والأحكام ، والمعنى ما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك لأمتك ، إلا رجالا من أفراد جنسك متأهلين للإرسال. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي المطلعين على أحوال الرسل الماضية ، فإنهم يخبرونكم بحقيقة الحال. قوله : (العلماء بالتوراة والإنجيل) إنما أحالهم عليهم ، لأنهم كانوا يرسلون للمشركين ، أن ابقوا على ما أنتم عليه من التكذيب ونحن معكم ، فهم مشتركون في العداوة لرسول الله وأصحابه ، فلا يكذبونهم فيما هم فيه. قوله : (من تصديق المؤمنين) المصدر مضاف لمفعوله ، والفاعل محذوف ، أي أقرب من تصديقكم المؤمنين. والمعنى إذا أخبركم المؤمنون بحال محمد ، وحال الرسل المتقدمين ، وأخبركم أهل الكتاب بذلك ، صدقتم أهل الكتاب دون المؤمنين ، لألفتكم أهل الكتاب وعداوتكم للمؤمنين.

قوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) رد لقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) والمعنى لم نجعلهم ملائكة ، بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام. قوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) أي ماكثين على سبيل الخلود في الدنيا ، بل يموتون كغيرهم. قوله : (صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي بإهلاك أعدائهم. قوله : (بإنجائهم) محمول على الرسل الذين أمروا بالجهاد ، فلا يرد من قتل من الرسل ، فإنهم لم يؤمروا بالجهاد. قوله : (وَمَنْ نَشاءُ) أي المؤمنين الذين اتبعوهم. وقد وقع ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كبراء أصحابه الذين حضروا مغازيه ، لم يموتوا في حروبه ، بل بقوا بعده ومهدوا دينه.

قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) كلام مستأنف قصد به التبكيت عليهم. والمعنى : كيف تعرضون عن كتاب فيه شرفكم وعزكم ، لأنه بلسانكم وعلى لغتكم ، فكان بمقتضى الحمية والعقل ، أن تعظموا هذا الكتاب ، وهذا النبي الذي جاء به ، وتكونوا أول مؤمن به ، فإعراضكم عنه دليل على عدم عقلكم.

٤٥١

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠) فتؤمنون به (وَكَمْ قَصَمْنا) أهلكنا (مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلها (كانَتْ ظالِمَةً) كافرة (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) (١١) (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي شعر أهل القرية بالإهلاك (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) (١٢) يهربون مسرعين فقالت لهم الملائكة استهزاء (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ) نعمتم (فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) شيئا من دنياكم على العادة (قالُوا يا) للتنبيه (وَيْلَنا) هلاكنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤) بالكفر (فَما زالَتْ تِلْكَ) الكلمات (دَعْواهُمْ) يدعون بها ويرددونها (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي كالزرع المحصود بالمناجل بأن قتلوا بالسيف

____________________________________

قوله : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي الثناء عليكم بالجميل ، أو شرفكم ومواعظكم. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أجهلتم فلا تعقلون أن الأمر كذلك؟

قوله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كَمْ) خبرية مفعول مقدم لقصمنا ، و (مِنْ قَرْيَةٍ) بيان لكم. قوله : (أي أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والمقصود من هذه الآية ، تحذير الكفار من هذه الأمة ، عن عدم الإيمان والرجوع عن الكفر ، بأنهم لا يغرنهم سعة الدنيا عليهم ، والتفاخر بالأموال والأولاد ، كأن الله يقول لهم : لا تغتروا بذلك ، فإننا أهلكنا كثيرا من أهل القرى الكفار ، وما جرى عليهم يجري عليكم ، وأهل القرى : قيل المراد بهم الأمم الماضية ، كقوم نوح ولوط وصالح وشعيب وغيرهم ، وقيل المراد بهم أهل قرية باليمن تسمى حضور بوزن شكور ، بعث الله عليهم موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب نبيا قبل موسى بن عمران ، فكذبوه وقتلوه ، فسلط الله عليهم بختنصر ، فقتل رجالهم وسبى نساءهم ، فلما استمر فيهم القتل هربوا ، فقالت الملائكة لهم استهزاء : لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم ، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم ، فإنكم أهل نعمة وغنى ، فاتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ، ونادى منادي من جو السماء : يا ثارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب ، حيث لم ينفعهم ، فعلى القول الأول كم واقعة على القرى ، وعلى الثاني واقعة على أشخاص تلك القرية. قوله : (أي شعر أهل القرية) بفتح العين بمعنى علم ، وأما بالضم فمعناه تكلم بالشعر ضد النثر قوله : (يهربون) أي فالركض كناية عن الهرب. قوله : (استهزاء بهم) جواب عما يقال : إن الملائكة معصومون من الكذب ، فكيف يقولون لهم ذلك ، مع علمهم بأنهم مهلكون عن آخرهم؟ فأجاب بأن هذا القول ليس على حقيقته ، بل سخرية بهم على حد : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). قوله : (وَمَساكِنِكُمْ) بالجر عطفا على (ما). قوله : (شيئا من دنياكم) أي فأنتم أهل سخاء وغنى تعطون الفقراء ، وهذا توبيخ وتهكم بهم. قوله : (بالكفر) أي وقتل موسى.

قوله : (فَما زالَتْ) ما نافية ، وزال فعل ماض ناقص ، و (تِلْكَ) اسمها و (دَعْواهُمْ) خبرها. قوله : (الكلمات) المراد بها قولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ). قوله : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ) أي رجالهم ، وأما النساء فقد سباهم بختنصر كما تقدم ، وكلام المفسر يفيد أن هذه الآية حكاية عن أهل حضور. قوله : (كخمود النار) أي سكون لهبها مع بقاء جمرها ، وأما الهمود ، فهو عبارة عن ذهاب النار بالكلية حتى تصير

٤٥٢

(خامِدِينَ) (١٥) ميتين كخمود النار إذا طفئت (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦) عابثين بل دالين على قدرتنا ونافعين عبادنا (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ما يلهى به من زوجة أو ولد (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) من عندنا من الحور العين والملائكة (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (١٧) ذلك لكنا لم نفعله فلم نرده (بَلْ نَقْذِفُ) نرمي (بِالْحَقِ) الإيمان (عَلَى الْباطِلِ) الكفر (فَيَدْمَغُهُ) يذهبه (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ذاهب ، ودمغه في الأصل أصاب دماغه بالضرب ، وهو مقتل (وَلَكُمُ) يا كفار مكة (الْوَيْلُ) العذاب الشديد (مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨) الله به من الزوجة أو الولد (وَلَهُ) تعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي الملائكة مبتدأ خبره (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) لا يعيون (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) عنه فهو منهم كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل (أَمِ) بمعنى بل للانتقال وهمزة الإنكار (اتَّخَذُوا آلِهَةً) كائنة (مِنَ الْأَرْضِ) كحجر وذهب وفضة (هُمْ) أي الآلهة (يُنْشِرُونَ) (٢١) أي يحيون الموتى لا ولا يكون إلها إلا من يحيي الموتى (لَوْ كانَ فِيهِما) أي السماوات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي غيره (لَفَسَدَتا) خرجتا

____________________________________

رمادا. قوله : (لاعِبِينَ) حال من فاعل (خَلَقْنَا) وهو محط النفي. قوله : (بل دالين على قدرتنا) ويسبحوننا بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). قوله : (ونافعين لعبادنا) أي وتفصيل جهات النفع بها ، لا يعلمها إلا الله تعالى.

قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) رد على من أثبت الولد والزوجة لله. قوله : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) جواب (لَوْ) واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم. والمعنى لو تعلقت إرادتنا باتخاذ الزوجة والولد ، لاتخذناه من عندنا ، لكنا لم نتخذه ، فلم تتعلق به إرادتنا لاستحالة ذلك علينا. قوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) يحتمل أن تكون (أَنْ) نافية أي ما كنا فاعلين. قوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) أي شأننا أن نؤيد الحق ونذهب الباطل. قوله : (مِمَّا تَصِفُونَ) (الله به) أشار بذلك إلى أن ما موصولة والعائد محذوف ، ويصح أن تكون مصدرية. والمعنى ولكم الويل من أجل وصفكم إياه بما لا يليق. قوله : (أي الملائكة) عبر عنهم بالعندية ، إشارة إلى أنهم في مكانة وشرف ورفعة.

قوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي يتكبرون. قوله : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يكلون ولا يتعبون. قوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) المقصود من هذا الإخبار ، تحريض المؤمنين على الطاعات وتبكيت الكفار على تركها ، لأن العبادة والتسبيح ، وصف أهل القرب والشرف ، وتركها وصف أهل البعد والخسة. قوله : (فهو منهم كالنفس منا) أي فهو سجية وطبيعة لهم ، ولا يشغلهم التسبيح عن غيره ، كلعن الكفرة ، ونزول الأرض ، وتبليغ الأحكام ، وغير ذلك ، كما أن اشتغالنا بالنفس لا يمنعنا الكلام. إن قلت : إن هذا قياس مع الفارق ، لأن آلة النفس غير آلة الكلام ، وأما التسبيح واللعن ، فهما من جنس الكلام ، فاجتماعهما محال. أجيب : بأن الملائكة لهم ألسنة كثيرة ، بعضها يسبحون الله به ، وبعضها يلعنون أعداء الله به ، فلا يقاسون على بني آدم. قوله : (وهمزة الإنكار) أي وهو راجع لقوله : (هُمْ يُنْشِرُونَ).

٤٥٣

عن نظامهما المشاهد لوجود التمانع بينهم على وفق العادة عند تعدد الحاكم من التمانع في الشيء

____________________________________

قوله : (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي حيث ادعوا أنها آلهة لزمهم ما ذكر ضمنا والتزاما ، وإلا فهم لم يدعوا أنها تحيي الموتى.

قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا لَوْ) حرف شرط ، و (كانَ) تامة فعل الشرط و (آلِهَةٌ) فاعلها ، و (فِيهِما) متعلق بكان ، و (إِلَّا) بمعنى غير صفة لآلهة ، ظهر إعرابها فيما بعدها ، وقوله : (لَفَسَدَتا) جواب الشرط ، ففعل الشرط يقال له المقدم ، وجوابه يقال له التالي ، واستثناء نقيض التالي ، ينتح نقيض المقدم. والمعنى لكنهما لم تفسدا ، فلم يكن فيهما آلهة غير الله ، والجمع في (آلِهَةٌ) ليس قيدا ، وكذا قوله : (فِيهِما) وإنما أتى بذلك ، ردا على الكفار في اتخاذهم الآلهة في السماء والأرض. قوله : (أي غيره) أشار بذلك إلى أن (إِلَّا) صفة بمعنى غير ، فهي اسم ، لكن لم يظهر إعرابها إلا فيما بعدها ، لكونها على صورة الحرف ، ولا يجوز أن تكون أداة استثناء ، لا من جهة المعنى ، ولا من جهة اللفظ ، أما الأول فلأنه يلزم منه نفي التوحيد ، إذ التقدير : لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا ، فيقتضي بمفهومه ، أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا وهو باطل ، وأما الثاني : فلأن المستثنى منه يشترط أن يكون عاما ، وآلهة جمع منكر في الإثبات ، فلا عموم له ، فلا يصح الاستثناء منه. قوله : (لوجود التمانع بينهم) أي التخالف بين الآلهة ، ويسمى الدليل على ذلك ، ببرهان التمانع والتطارد في فرض اختلافهما. وتقريره أن يقال : لو فرض إلهان متصفان بصفات الألوهية ، وأراد أحدهما إيجاد شيء والآخر إعدامه ، فإما أن يتم مرادهما معا وهو باطل ، للزوم اجتماع الضدين ، أو لا يتم مرادهما معا وهو باطل ، للزوم عجز من لا يتم مراده ، وعجز من يتم مراده أيضا ، لوجود المماثلة بينهما ، فبطل التعدد وثبت الوحدانية ، وإذا فرض اتفاقهما ، فهو باطل ، لوجود برهان التوارد ، وتقريره أيضا أن يقال : لو فرض إلهان ، وأرادا معا إيجاد شيء ، فإما أن يحصل بإرادتهما معا وذلك باطل ، لأنه يلزم عليه اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، أو يسبق أحدهما إلى إيجاده ، فيلزم عليه عجز الآخر ، أو تحصيل الحاصل ، ويلزم عجز الأول ، لوجود المماثلة بينهما ، واعلم أن الدليل على ثبوت الوحدانية لله ، النقل والعقل ، أما النقل فآيات كثيرة جدا منها «وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الحي القيوم (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلى غير ذلك ، وأما العقل فقد علمنا الله كيفيته بقوله تعالى (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وكهذه الآية. إذا علمت ذلك ، فالدليل في هذه الآية قطعي كما هو الحق ، لكون الفساد مرتبا على فرض الاتفاق والاختلاف ، وليس إقناعيا بحسب ما يفهمه المخاطب ؛ خلافا لما تقتضيه عبارة المفسر ، حيث أحاله على العادة ، وبهذه الآية انتفت الكموم الخمسة : الكم المتصل في الذات وهو التركيب فيها ، والكم المنفصل فيها وهو النظير فيها ، والكم المتصل في الصفات وهو التركيب فيها ، والكم المنفصل فيها وهو النظير ، والكم المنفصل في الأفعال ، وهو المشارك له فيها ، والمتصل فيها لا ينفى ، لأنه ثابت ، لأن أفعاله كثيرة على حسب شؤونه في خلقه. قوله : (الكرسي) الصواب إبقاء العرش على ما هو عليه ، لأن التحقيق أن العرش جسم عظيم محيط بالعالم برمته ، والكرسي تحته ، رخص العرش بالذكر ، لأنه أعظم من غيره ، فإذا كان الله رب العرش ، كان رب غيره بالأولى.

٤٥٤

وعدم الاتفاق عليه (فَسُبْحانَ) تنزيه (اللهِ رَبِ) خالق (الْعَرْشِ) الكرسي (عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) أي الكفار الله به من الشريك له وغيره (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) عن أفعالهم (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) تعالى أي سواه (آلِهَةً) فيه استفهام توبيخ (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك ولا سبيل إليه (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي أمتي وهو القرآن (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الأمم وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله ليس في واحد منها أن مع الله إلها مما قالوا تعالى عن ذلك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي توحيد الله (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٤) عن النظر الموصل إليه (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي) وفي قراءة بالنون وكسر الحاء (إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) أي وحدوني (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) من الملائكة (سُبْحانَهُ بَلْ) هم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) عنده والعبودية تنافي الولادة (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يأتون بقولهم إلا بعد قوله (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧) أي بعده (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما عملوا وما هم عاملون (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) تعالى أن يشفع له (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) تعالى

____________________________________

قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي لا يسأل عما يحكم في عباده ، من إعزاز وإذلال ، وهدى وإضلال ، وإسعاد وإشقاء ، لأن الرب الخالق المالك لجميع الأشياء. إذا علمت ذلك ، فالاعتراض على أفعال الله ، إما كفر أو قريب منه. قوله : (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) يقال للخلق : لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم ، وتبين بهذا ، أن من يسأل عن أعماله كعيسى والملائكة ، لا يصلح للألوهية. قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) إضراب انتقالي ، من بطلان التعدد ، إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة من غير دليل على ألوهيتها. قوله : (فيه استفهام توبيخ) أي من حيث إن (أَمِ) بمعنى الهمزة ، وسكت عن كونها بمعنى بل هنا ، والمناسب لما تقدم أنها بمعناها أيضا. قوله : (على ذلك) أي الاتخاذ ، كأن الله يقول لهم : نحن قد أتينا ببراهين دالة على وحدانيتنا ، فأتوا ببرهان يدل على ثبوت الشريك لنا. قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي عظتهم ومتمسكهم على التوحيد. قوله : (ليس في واحد منها) أي فراجعوها وانظروا ، هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك؟ قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب انتقالي ، من محاجتهم إلى بيان أنهم كالبهائم ، لا يميزون بين الحق والباطل. قوله : (الْحَقَ) الكلام على حذف مضاف ، أي توحيد الحق.

قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الخ ، تقرير لما قبله من كون التوحيد ، نطقت به الكتب القديمة واجتمعت عليه الرسل. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (وَقالُوا) الضمير عائد على فرق من العرب ، وهم خزاعة وجهينة وبنو سلمة حيث قالوا : الملائكة بنات الله. قوله : (والعبودية تنافي الولادة) أي لأن عبد الإنسان لا يكون ولده ، وهذا بحسب المعتاد عندهم. قوله : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يخالفونه في القول ولا في العمل. قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي فهم يراقبونه في جميع أحوالهم ، فلا يقدمون على قول ولا عمل بغير مراده ، لعلمهم بأنه تعالى محيط بهم. قوله : (إِلَّا لِمَنِ

٤٥٥

(مُشْفِقُونَ) (٢٨) أي خائفون (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي الله أي غيره وهو إبليس دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعتها (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ) كما نجزيه (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩) أي المشركين (أَوَلَمْ) بواو وتركها (يَرَ) يعلم (الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) أي سدا بمعنى مسدودة (فَفَتَقْناهُما) أي جعلنا السماء سبعا والأرض سبعا أو فتق السماء أن كانت لا تمطر فأمطرت وفتق الأرض أن كانت لا تنبت فأنبتت (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ) النازل من السماء والنابع من الأرض (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) نبات وغيره أي فالماء سبب لحياته (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٣٠) بتوحيدي (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا ثوابت ل (أَنْ) لا (تَمِيدَ) تتحرك (بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها) أي

____________________________________

ارْتَضى) أي إن كان مؤمنا فلا يقدمون على الشفاعة ، إلا لمن علموا أن الله راض عنه ويقبل شفاعتهم فيه. قوله : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي وجلون لا يأمنون مكره ، والإشفاق الخوف مع الإجلال ، ويرادفه الخشية.

قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) أي من الملائكة المحدث عنهم أولا بقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، لأنهم معصومون من الكفر والمعاصي ، ويحتمل أن القول قد وقع من بعضهم (وهو إبليس) كما قال المفسر ، وكونه من الملائكة ، باعتبار أنه كان بينهم وملحقا بهم في العبادة حتى قيل : إنه كان أعبدهم. قوله : (دعا إلى عبادة نفسه) أي لأجل الاضلال والإغواء ، ولا مانع من ذلك ، كما يقع لبعض الزنادقة من تشكلاته لهم في الصور النيرة ، كالقمر والشمس وغير ذلك ، ودعواه أنه رب العالمين ، وكما وقع لبرصيصا العابد ، حيث أتى له وهو مصلوب وقال له : اسجد لي وأنا أخلصك ، وإن كان في الواقع معترفا بالعبودية لله وتعالى وآيسا من رحمته. إذا علمت ذلك ، فكلام المفسر لا غبار عليه. قوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي إياها.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَ) الهمزة داخله على محذوف ، والواو عاطفة عليه ، والتقدير ألم يتفكروا ولم يعلموا. قوله : (بواو ودونها) قراءتان سبعيتان. قوله : (يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخ ، شروع في ذكر ستة أدلة على التوحيد ، وأن ما سوى الله مقهور ، وهو القاهر فوق عباده. قوله : (كانَتا رَتْقاً) أي شيئا واحدا ، لما روي أن الله خلق السماوات والأرض بعضها على بعض ، ثم خلق ريحا توسطها ففتقها بها ، وقيل خلق السماوات قطعة واحدة مرتفعة ، والأرض قطعة واحدة منخفضة ، فجعل السماوات سبعا ، والأرض سبعا ، لكن السماوات طباق ، والأرض مختلف فيها ، قيل مجاوزة لبعضها ، كناية عن الأقاليم السبعة ، وتقدم الجواب عن جمع السماوات وإفراد الأرض ، بأن جنس السماوات مختلف بخلاف الأرض. قوله : (أن كانت لا تمطر) بفتح الهمزة مصدرية ، أي كونها لا تمطر فأمطرت.

قوله : (مِنَ الْماءِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان مقدم ، و (كُلَّ شَيْءٍ) مفعول أول مؤخر ، والمعنى ناشئا ومتسببا عنه. قوله : (نبات وغيره) أي فالحياة في كل شيء بحسبه ، فحياة الحيوان قيام الروح به ، وحياة النبات بروزه من الأرض وخضرته وإثماره. قوله : (رَواسِيَ) جمع راسية من رسا

٤٥٦

الرواسي (فِجاجاً) مسالك (سُبُلاً) بدل أي طرقا نافذة واسعة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣١) إلى مقاصدهم في الأسفار (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) للأرض كالسقف للبيت (مَحْفُوظاً) عن الوقوع (وَهُمْ عَنْ آياتِها) من الشمس والقمر والنجوم (مُعْرِضُونَ) (٣٢) لا يتفكرون فيها فيعلمون أن خالقها لا شريك له (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ) تنويه عوض عن المضاف إليه من الشمس والقمر وتابعه وهو لنجوم (فِي فَلَكٍ) أي مستدير كالطاحونة في السماء (يَسْبَحُونَ) (٣٣) يسيرون بسرعة كالسابح في الماء وللتشبيه به أتى بضمير جمع من يعقل ، ونزل لما قال الكفار إن محمدا سيموت (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي البقاء في الدنيا (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٣٤) فيها؟ لا ، فالجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري (كُلُ

____________________________________

الشيء إذا ثبت واستقر. قوله : (أَنْ تَمِيدَ) قدر المفسر (لا) النافية لصحة التعليل ، أي لأجل عدم تحركها بهم ، لأن تثبيتها بالجبال ، لأجل عدم التحرك لا للتحرك. قوله : (إلى مقاصدهم) أي الدنيوية والأخروية. قوله : (كالسقف للبيت) أي وهذا ما عليه أهل السنة ، وقالت الحكماء : إن السماء محيطة بالأرض ، كإحاطة بياض البيضة بصفارها. إذا علمت ذلك ، فلا فرار من قضاء الله إلا إليه. قوله : (مَحْفُوظاً) (عن الوقوع) أي أو عن الفساد والخلل. قوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها) أي الدالة على وجود الصانع وكمال صفاته وأفعاله. قوله : (من الشمس والقمر) أي وغيرهما كالنجوم ، وارتفاعها من غير عمد ، ونزول الماء منها. قوله : (لا يتفكرون فيها) أي مع أنهم لو سئلوا عمن خلق السماوات والأرض ليقولن الله.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ) فيه التفات من التكلم للغيبة. قوله : (من الشمس والقمر) بيان للمضاف إليه المحذوف. قوله : (أي مستدير كالطاحونة) أي كهيئة فلك المغزل أي تقالته ، وقيل الفلك السماء التي فيها تسير تلك الكواكب ، كما تسير السفن في البحر ، واختلف الناس في حركات الكواكب على ثلاثة أقوال : قيل إن الفلك ساكن ، والسير للكواكب ، وهو الذي يدل عليه لفظ القرآن. وقيل إن الفلك متحرك والكواكب متحركة ، وحركة كل تدافع حركة الآخر. وقيل إن الفلك متحرك ، والكواكب ساكنة ، ولا يعلم الحقيقة إلا الله تعالى ، واختلف هل الشمس والقمر يجريان من تحت الأرض ، وعليه الحكماء ، أو منتهى سيرهما في العالم العلوي ، وعليه أهل السنة. قوله : (وللتشبيه به) جواب عما يقال : لم جمعهما بضمير العقلاء؟ فأجاب : بأنه لما أسندت لهما السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعا جمعهم. قوله : (نزل لما قال الكفار إن محمدا سيموت) أي شماتة به.

قوله : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي سبقت حكمتنا بأن كل بشر من قبلك ، بل ومن بعدك ، لا يخلد في الدنيا ، بل يذوق الموت ، واقتصر على البشر وإن كان غيره كذلك ، بدليل ما بعده للرد عليهم لكونهم من البشر. قوله : (فالجملة الأخيرة) الخ ، أي فالهمزة مقدمة من تأخير ، لأن الاستفهام له الصدارة ، والأصل أفهم الخالدون إن متّ.

٤٥٧

نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) في الدنيا (وَنَبْلُوكُمْ) نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) كفقر وغنى وسقم وصحة (فِتْنَةً) مفعول له أي لننظر أتصبرون وتشكرون أو لا (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥) فنجازيكم (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) ما (يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي مهزوءا به يقولون (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يعيبها (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) لهم (هُمْ) تأكيد (كافِرُونَ) (٣٦) به إذ قالوا ما نعرفه ، ونزل في استعجالهم العذاب (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي إنه لكثرة عجله في أحواله كأنه خلق منه (سَأُرِيكُمْ آياتِي) مواعيدي بالعذاب (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧) فيه فأراهم القتل ببدر (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) بالقيامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) فيه ، قال تعالى (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ) يدفعون (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٣٩) يمنعون منها في القيامة وجواب لو ما قالوا ذلك (بَلْ تَأْتِيهِمْ) القيامة (بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) تحيرهم

____________________________________

قوله : (كُلُّ نَفْسٍ) أي مخلوقة فلا يرد ذات الله تعالى ، وهو دليل لما قبله أعم منه ، وليس معينا ، وقوله : (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي ذائقة مرارة مفارقة الروح للجسم ، وهي في غاية الصعوبة جدا ، ومثلوه بعصر القصب بالآلة المعروفة ، فإنه لا يبقى فيه طراوة أصلا ، بل يؤخذ للنار حالا ، غير أن المؤمن يتسلى برؤية ما أعد له من النعيم الدائم ، والكافر يزداد بالموت عقوبة لرؤيته ما أعد له من العذاب المقيم. قوله : (نختبركم) أي نعاملكم معاملة المختبر ، إذ لا يخفى على الله شيء. قوله : (تبصرون) راجع للشر ، وقوله : (وتشكرون) راجع للخير ، فالمؤمن الكامل يشاهد الأشياء عن الله ، فإذا ابتلي بالفقر والمرض مثلا ، رضي به وازداد إقبالا عليه ، وإذا أنعم عليه بالغنى أو الصحة مثلا ، ازداد شكرا وخوفا من الله ، فهو راض عن الله في الحالتين ، وأما الكافر والفاسق ، فيشاهد الأشياء من الخالق ، فإذا ابتلي سخط ، وإذا أنعم عليه بطر ، فهو مغضوب عليه في الحالين. قوله : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي تردون ، فيظهر لكم جزاء أعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

قوله : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) رأى بصرية ، أي أبصرك المشركون. قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) جواب (إِذا) و (إِنْ) نافية بمعنى (ما) كما قال المفسر. قوله : (يقولون) قدره إشارة إلى أن قوله : (أَهذَا الَّذِي) الخ ، مقول لقول محذوف ، والمعنى يقول بعضهم لبعض في حال الهزء والسخرية (أَهذَا) الخ. قوله : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ هُمْ) مبتدأ ، و (كافِرُونَ) خبره ، و (بِذِكْرِ) متعلق به ، و (هُمْ) الثانية ، تأكيد لفظي للأولى ، وحينئذ فقد فصل بين العامل والمعمول بالمؤكد ، وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول ، وإضافة ذكر للرحمن ، من إضافة المصدر لفاعله ، كما أشار له المفسر ، حيث قدر لهم ، وحينئذ فالمراد بالذكر ، إرشاد الله لعباده ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، ويحتمل أنه مضاف لمفعوله ، أي ذكرهم الرحمن بالتوحيد. قوله : (إذ قالوا ما نعرفه) أي الرحمن ، وذلك أنهم كانوا يقولون : لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، وهو مسيلمة الكذاب. قوله : (في استعجالهم العذاب) أي حيث قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية.

٤٥٨

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٤٠) يمهلون لتوبة أو معذرة (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَحاقَ) نزل (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤١) وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك (قُلْ) لهم (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من عذابه إن نزل بكم ، أي لا أحد يفعل ذلك ، والمخاطبون لا يخافون عذاب الله لإنكارهم له (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ) أي القرآن (مُعْرِضُونَ) (٤٢) لا يتفكرون فيه (أَمْ) فيها معنى الهمزة للإنكار أي أ(لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) مما يسوؤهم (مِنْ دُونِنا) أي ألهم من يمنعهم منه غيرنا (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي الآلهة (نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فلا ينصرونهم (وَلا هُمْ) أي الكفار (مِنَّا) من عذابنا (يُصْحَبُونَ) (٤٣) يجارون يقال صحبك الله أي حفظك وأجارك (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) بما أنعمنا عليهم (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاغتروا بذلك (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي

____________________________________

قوله : (مِنْ عَجَلٍ) هو ضد البطء ، أي السرعة في الأمور. قوله : (أي إنه لكثرة عجله في أحواله) الخ ، أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة بالكناية ، حيث شبه العجل من حيث إن الإنسان طبع عليه ، حتى صار كالجبلة له بالطين الذي خلق منه البشر ، وطوى ذكر المشبه ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو خلق ، والمعنى أن الإنسان جبل على السرعة في الأمور والعجلة فيها ، حتى إنه يقع في المضرة ولا يشعر. قوله : (مواعيدي بالعذاب) المراد متعلقاتها وهو أنواع العذاب في الدنيا ، كوقعة بدر وغيرها ، وفي الآخرة كعذاب النار. قوله : (وَيَقُولُونَ) أي استهزاء واستعجالا للعذاب. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط حذف جوابه ، والتقدير فأتوا به ، وهو خطاب منهم للنبي وأصحابه. قوله : (قال تعالى) كلام مستأنف لبيان شدة هول ما يستعجلونه لجهلهم به. قوله : (وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) أي فهو كناية عن إحاطة النار بهم من كل ناحية. قوله : (ما قالوا ذلك) قدره إشارة إلى أن جواب (لو) محذوف.

قوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) إضراب انتقالي من قولهم إلى بيان كيفية وقوع العذاب بهم. قوله : (رَدَّها) أي دفعها. قوله : (فيه تسلية للنبي) أي حيث كان يغتم من استهزائهم وعدم انقيادهم. قوله : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) الخ ، أي قل يا محمد للمستهزئين القائلين لا نعرف الرحمن : من يحفظكم بالليل والنهار من عذابه أن أراده بكم؟ وقدم الليل لكثرة الآفات فيه. قوله : (والمخاطبون) الخ ، توطئة لقوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ). والمعنى ليس لهم حافظ ولا مانع غير الرحمن ، غير أنهم لا يخالفونه لإعراضهم عن ذكره. قوله : (فيها معنى الهمزة) أي زيادة على (بَلْ). قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) أي فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم. قوله : (يجارون) أي ينقذون. قوله : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ) الخ ، إضراب عما توهموه من أن حفظهم وإمدادهم بالنعم من قبل آلهتهم ، بل ما هم فيه من السراء والنعم والحفظ منا استدراج لهم. قوله : (بالفتح على النبي) أي وتسليط المسلمين عليهم. قوله : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) استفهام توبيخ وتقريع ، وفيه معنى الإنكار ، ولذا قدر المفسر (لا) ، وقوله : (بل النبي وأصحابه) أي وهم الغالبون.

٤٥٩

الْأَرْضَ) نقصد أرضهم (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بالفتح على النبي (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) (٤٤) ، لا ، بل النبي وأصحابه (قُلْ) لهم (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) من الله لا من قبل نفسي (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية بينها وبين الياء (ما يُنْذَرُونَ) (٤٥) أي هم لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار كالصم (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) وقعة خفيفة (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا) للتنبيه (وَيْلَنا) هلاكنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٤٦) بالإشراك وتكذيب محمد (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ذات العدل (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي فيه (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من نقص حسنة أو

____________________________________

قوله : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) المقصود من ذلك توبيخهم على ما وقع منهم ، حيث أقام لهم الحجج والبراهين ، فلم يذعنوا لها. قوله : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) بالياء المفتوحة ، ورفع (الصُّمُ) على الفاعلية ، ونصب (الدُّعاءَ) على المفعولية ، وفي قراءة سبعية أيضا بالتاء المضمومة وكسر الميم خطاب للنبي ، والصم مفعوله الأول ، والدعاء مفعوله الثاني ، والمقصود من ذلك تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأن الله يقول له : أرح قلبك ولا تعلقه بهم ، وارض بحكم الله فيهم. قوله : (بتحقيق الهمزتين) أي همزة الدعاء وهمزة إذا. قوله : (وتسهيل الثانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وقعة خفيفة) أخذ الخفة من التعبير بالمس والنفخ ، والتاء الدالة على المرة ، والنفخ في الأصل هبوب رائحة الشيء ، والمعنى ولئن أصابهم عذاب خفيف ، ليقولن تحسرا وتندما يا ويلنا الخ ، وهو كناية عن كونهم في غاية الضعف والحقارة ، ومن كان كذلك فلا يبالى به.

قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ) هذه الآية آخر خطابات قريش في هذه السورة ، والجمع في الموازين للتعظيم ، فإن الصحيح أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال ، وهو جسم مخصوص له لسان وكفتان وعامود ، كل كفة قدر ما بين المشرق والمغرب ، ومكانه قبل الصراط ، كفته اليمنى للحسنات وهي نيرة عن يمين العرش ، وكفته اليسرى للسيئات ، وهي مظلمة عن يساره ، يأخذ جبريل بعاموده ناظرا إلى لسانه ، وميكائيل أمين عليه ، يحضره الجن والإنس ، ووقته بعد الحساب ، ولا يكون الوزن في حق كل أحد ، بل هو تابع للحساب ، فمن حوسب وزنت أعماله ، ومن لا فلا ، والحق أن الكفار توزن أعمالهم السيئة غير الكفر ، ليجازوا عليها بالعقاب ، زيادة على عذاب الكفر ، وأعمالهم الحسنة التي لا تتوقف على نية ، كالعتق وصلة الرحم والوقف ، فيخفف عنهم بذلك من عذاب الكفر ، فتوزن أعمالهم لأجل ذلك ، لا للنجاة من عذاب الكفر ، فإنه لا يخفف عنهم ولا ينقطع ، وأما قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فمعناه نافعا بحيث ينجون من الخلود في النار ، وقيل حسناتهم التي فعلوها ، يجازون عليها في الدنيا ، كصحة وعافية ، ولا يجازون عليها في الآخرة أصلا ، واختلف هل الوزن بصنج أو لا ، واستظهر الأول تحقيقا للعدل ، فتوضع السيئات في مقابلة الحسنات ، فإن رجح أحدهما ، وضع صنج بقدر ما رجح ، فينعم بقدره ، أو يعذب بقدره ، فإن لم يكن له إلا حسنات فقط ، أو سيئات فقط ، وضعت الصنج في الكفة الأخرى. واختلف أيضا ، هل الأعمال تصور وتوزن ، فالحسنات تصور بصورة حسنة نورانية ، ثم توضع في كفة الحسنات ، والسيئات تصور بصورة قبيحة ظلمانية ، ثم توضع في كفة السيئات ، أو توزن

٤٦٠