حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

مِنْكُمْ) من جواركم (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من الملائكة (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يهلكني (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨) (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد (غَرَّ هؤُلاءِ) أي المسلمين (دِينُهُمْ) إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهما أنهم ينصرون بسببه قال تعالى في جوابهم (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يثق به يغلب (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) (٤٩) في صنعه (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ يَتَوَفَّى) بالياء والتاء (الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ) حال (وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) بمقامع من حديد (وَ) يقولون لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠) أي النار وجواب لو لرأيت أمرا عظيما (ذلِكَ) التعذيب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) عبر

____________________________________

أي تترك نصرتنا في هذه الحالة فعلى بمعنى في. قوله : (أن يهلكني) أي بتسليط الملائكة علي. إن قلت : إنه من المنظرين ، فكيف يخاف الهلاك حينئذ؟ أجيب : بأنه لشدة ما رأى من الهول ، نسي الوعد بأنه من المنظرين ، وما أشار له المفسر جواب عما يقال ، إن الشيطان لا خوف عنده ، وإلا لما كفر وأضل غيره. وأجيب أيضا بأن قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) كذب ولا مانع من ذلك. قوله : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يصح أن يكون من جملة قول الشيطان واعتذاره ، أو مستأنف تهديد له من كلام الله تعالى.

قوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) أي الكائنون بالمدينة ، وقوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي الكائنون بمكة ، إذ لم يحضر وقعة بدر منافق ، إلا عبد الله بن أبي فقط ، ولم يكن فيها ضعيف إيمان. قوله : (توهما) مفعول لخرجوا والضمير في (بسببه) عائد على الدين. قوله : (يغلب) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) دليل عليه.

قوله : (وَلَوْ تَرى) الرؤية بصرية ، ومفعولها محذوف تقديره حال الكفار وقت الموت. (وَلَوْ) حرف شرط تقلب المضارع ماضيا عكس إن. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الياء الأمر ظاهر ، وعلى التاء فلأن الجمع يجوز تذكيره وتأنيثه. قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل المراد جمع الكفار من وجد وسيوجد ، وقيل المراد الكفار الذين قتلوا ببدر ، واختلف أيضا في وقت الضرب ، فقيل عند الموت تعجيلا للمساءة ، وقيل ذلك يوم القيامة ، ولا مانع من الجميع. قوله : (حال) أي من الملائكة. قوله : (وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) المراد أمامهم وخلفهم فيعمون جميع أجسادهم بالضرب. قوله : (بمقامع من حديد) جمع مقمعة بكسر الميم ، وهي العصا من الحديد المحماة بالنار ، ولو وضعت على جبال الدنيا لدكت.

قوله : (وَذُوقُوا) قدر المفسر (يقولون) إشارة إلى أنه معطوف على (يَضْرِبُونَ) فهو حال أيضا. قوله : (ذلِكَ) اسم الإشارة مبتدأ ، وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) متعلق بمحذوف خبر ، والباء سببية. قوله : (عبر بها) إلخ. دفع بذلك ما يقال إن إذاقة العذاب حاصلة ، بسبب ما فعلوا بجميع أعضائهم ، فلم خصت الأيدي؟ فأجاب بما ذكر ، وبعضهم فسر الأيدي بالقدر جمع قدرة ، فيكون المعنى ذلك ، بسبب ما قدمته قدرتكم وكسبكم ، فإن اليد تطلق ويراد بها الق درة ، قال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). قوله : (وَأَنَّ اللهَ) معطوف على (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) ، والمعنى ذلك بسبب ما قدمت أيديكم ، وبسبب

٢١

بها دون غيرها لأن أكثر الأفعال تزاول بها (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي بذي ظلم (لِلْعَبِيدِ) (٥١) فيعذبهم بغير ذنب دأب هؤلاء (كَدَأْبِ) كعادة (آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بالعقاب (بِذُنُوبِهِمْ) جملة كفروا وما بعدها مفسرة لما قبلها (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على ما يريده (شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢) (ذلِكَ) أي تعذيب الكفرة (بِأَنَ) أي بسبب أن (اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) مبدلا لها بالنقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) يبدلوا نعمتهم كفرا كتبديل كفار مكة إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف وبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم بالكفر والصد عن سبيل الله وقتال المؤمنين (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٥٣) (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) قومه معه (وَكُلٌ) من الأمم المكذبة (كانُوا

____________________________________

(أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ونفي الظلم عن الله كناية عن العدل ، فكأنه قال ذلك بسبب الذي قدمته أيديكم ، وبسبب عدل الله فيكم. قوله : (أي بذي ظلم) دفع بذلك ما يتوهم من ظاهر الآية ، أن أصل الظلم ثابت لله ، والمنفي كثرته ، فأجاب المفسر بأن هذه الصيغة ليست للمبالغة بل للنسب ، قال ابن مالك :

ومع فعل وفعال فعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

وحينئذ فقد انتفى أصل الظلم ، بل لا يريده أصلا ، قال تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالجائز ، والظلم من الله مستحيل عقلا ، لأن حقيقة التصرف في ملك الغير من غير إذنه ، ولا يتصور العقل ملكا لغير الله. قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الكاف متعلقة بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، قدره المفسر بقوله : (دأب هؤلاء) وهذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) تفصيل للدأب وتفسير له ، كما قال المفسر. قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي أهلكهم ، لكن هلاك غير هذه الأمة بالرجفة والزلزلة والكسف والمسح من كل عذاب عام ، وهلاك كفار هذه الأمة بالسيف ، فالمماثلة في مطلق الهلاك. قوله : (بِذُنُوبِهِمْ) الباء سببية.

قوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) كالدليل لما قبله. قوله : (أي تعذيب الكفرة) أي بسبب ما قدمت أيديهم. قوله : (بِأَنَّ اللهَ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر عن اسم الإشارة ، والجملة تعليل لمجموع المعلول وعلته السابقين. قوله : (لَمْ يَكُ) مجزوم بسكون النون المحذوفة تخفيفا ، قال ابن مالك :

ومن مضارع لكان منجزم

تحذف نون وهو حذف ما التزم

وأصله يكون دخل الجازم فسكنت النون فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما ، ثم حذفت النون تخفيفا. قوله : (يبدلوا نعمتهم كفرا) أي يتركوا ما يجب للنعم من شكرها والقيام بحقها ، ويرتكبوا عدم الشكر ، وعدم القيام بحقها ، والمعنى يبدولون ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه ، فتغيرت نعمة إمهالهم بمعاجلة العذاب لهم. قوله : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أي لأقوالكم عليم بأحوالكم. قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) إلخ ، كرر تفصيلا لما قبله ، لأنه مقام ذم وهو كالمدح ، البلاغة فيه الإطناب. قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كقوم نوح وهود ، وقوم صالح وغيرهم. قوله : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسببها. قوله : (قومه معه) أشار بذلك إلى أن المراد بآل فرعون هو وآله.

٢٢

ظالِمِينَ) (٥٤). ونزل في قريظة (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٥) (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) أن لا يعينوا المشركين (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) عاهدوا فيها (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦) الله في غدرهم (فَإِمَّا) فيه ادغام نون إن الشرطية في ما المزيدة (تَثْقَفَنَّهُمْ) تجدنهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ) فرق (بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة (لَعَلَّهُمْ) أي الذين خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) (٥٧) يتعظون بهم (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) عاهدوك (خِيانَةً) في عهد بأمارة تلوح لك (فَانْبِذْ) اطرح عهدهم (إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) حال أي مستويا أنت وهم في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به لئلا يتهموك بالغدر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨) ونزل فيمن أفلت يوم بدر (وَلا يَحْسَبَنَ) يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) الله أي

____________________________________

قوله : (كانُوا ظالِمِينَ) فيه مراعاة معنى كل ، ولو روعي لفظها لقيل وكل كان ظالما ، وكل صحيح ، وإنما روعي معناها مراعاة للفواصل. قوله : (ونزل في قريظة) أي حين قدم رسول الله المدينة ، وعاهدهم أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا عهده وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح ثم قالوا نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية ، فنقضوا ايضا ، وتمالؤوا مع الكفار على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق.

قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) في ذلك إشارة إلى أنهم بمعزل من جنسهم ، وإنما هم من جنس الدواب ومع ذلك هم شر من جميع أفرادها ، قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ). قوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من الموصول قبله ، أو نعت أو عطف بيان. قوله : (لا يعينوا المشركين) أي كفار مكة ، فنقضوا أولا وثانيا. قوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) أي تظفرن بهم. قوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ) الباء سببية ، والكلام على حذف مضاف ، أي سبب عقوبتهم وتنكيلهم. قوله : (مَنْ خَلْفَهُمْ) مفعول لشرد ، والمراد بمن خلفهم كفار مكة ، والمعنى إذا ظفرت بقريظة فعاقبهم ، ليتفرق كفار مكة وغيرهم بمن نقض عهدك ويتعظوا بهم ، فصيرهم عبرة لغيرهم ، حتى لا يكون لهم قوة على محاربتك. قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَ) خطاب عام للمسلمين وولاة الأمور ، وإن كان أصل نزولها في قريظة قوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي أعلمهم بأن لا عهد لهم بعد اليوم فشبه العهد بالشيء الذي يرمى ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو النبذ ، فإثباته تخييل. قوله : (بأن تعلمهم به) أي لم يكن عذرهم ظاهرا طهورا بينا ، وإلا فلا يحتاج للإعلان. والحاصل : أنه إذا ظهرت أمارات نقض العهد ، وجب على الإمام أن ينبذ عهدهم ، ويعلمهم بالحرب قبل الركوب عليهم ، بحيث لا يعد الإمام غادرا لهم ، وإن ظهرت الخيانة ظهورا مقطوعا به ، فلا حاجة إلى نبذ العهد ولا الإعلام ، بل يبادرهم بالقتال. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بنبذ العهد. قوله : (ونزل فيمن أفلت) أي في الكفار الذين خلصوا وهربوا ، وهذا تسلية لرسول الله وأصحابه ، حيث حزنوا على نجاة من نجا من الكفار ، وكان غرضهم استئصالهم بالقتل والأسر.

قوله : (وَلا يَحْسَبَنَ) الخطاب لرسول الله ، والمعنى لا تظن يا محمد الذين كفروا فائتين الله وفارين من عقابه ، إنهم لا يعجزونه ، وهذا وإن كان في أهل بدر ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وحسب تتعدى للمفعولين : الأول (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، والثاني : جملة سبقوا ، وهذا على قراءة التاء

٢٣

فاتوه (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩) لا يفوتونه وفي قراءة بالتحتانية فالمفعول الأول محذوف أي أنفسهم وفي أخرى بفتح أن على تقدير اللام (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) لقتالهم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الرمي رواه مسلم (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله (تُرْهِبُونَ) تخوفون (بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي كفار مكة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي غيرهم وهم المنافقون أو اليهود (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠) تنقصون منه شيئا (وَإِنْ جَنَحُوا) مالوا (لِلسَّلْمِ) بكسر السين وفتحها الصلح (فَاجْنَحْ لَها) وعاهدهم قال ابن عباس هذا منسوخ بآية السيف ومجاهد مخصوص بأهل الكتاب

____________________________________

الفوقية ، وأما على قراءة الياء التحتية ، فالذين كفروا فاعل ، والمفعول الأول محذوف تقديره أنفسهم كما قال المفسر ، والمفعول الثاني جملة (سَبَقُوا). قوله : (وفي قراءة بفتح أن) أي مع الياء التحتية لا غير ، فالقراءات ثلاث ، خلافا لما يوهمه المفسر من أنها أربع : وحاصلها أن التاء فيها وجهان ، فتح إن وكسرها ، والياء فيها وجه واحد ، وهو فتح أن لا غير. قوله : (تقدير اللام) أي التي للتعليل.

قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) أي للكفار مطلقا ، أو لناقضي العهد. قوله : (مِنْ قُوَّةٍ) بيان لما. قوله : (هي الرمي) هذا الحديث رواه عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر يقول : «(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا إن القوة الرمي» ثلاثا ، أخرجه مسلم وقيل : المراد بالقوة جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو ، من سلاح ورمي وخيل ورجال ودروع وغير ذلك ، ولا منافاة بين هذا وبين قوله عليه الصلاة والسّلام : «ألا إن القوة الرمي» ، لأن المراد معظم القوة الرمي على حد الحج عرفة ، والندم توبة ، وهذا هو الأحسن. قوله : (مصدر) أي سماعي ، وإلا فالقياسي لما يقتضي الاشتراك ، كقاتل وخاصم وضارب.

قوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي بالرباط الذي هو بمعنى الربط. قوله : (أي كفار مكة) هذا باعتبار سبب نزول الآية ، وإلا فالعبرة بعموم اللفظ ، فالمراد جميع الكفارة في أي زمان. قوله : (وهم المنافقون) أورد عليه أن المنافقين لا يقاتلون. أجيب بأن المراد بإرهابهم ، ادخال الرعب والحزن في قلوبهم ، لأنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وشهامتهم ، كان ذلك مرهبا ومخوفا لهم. قوله : (أو اليهود) أو مانعة خلو ، فتجوز الجمع. قوله : (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعلمون بواطنهم وما انطووا عليه. قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في جهاد الكفار. قوله : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) (جزاؤه) أي فالحسنة بسبعمائة ، قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) الآية. قوله : (تنقصون منه شيئا) أي وسماه ظلما لأن وعده بالخير لا يتخلف فكأنه واجب ، وضده مستحيل ، وليس المراد الظلم الحقيقي ، لأنه التصرف في ملك الغير ، ولا ملك لأحد معه ،

قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا) أي الكفار مطلقا وبنو قريظة ، وعلى هذين القولين ، يتخرج القول بالنسخ والقول بالتخصيص ، الذي أشار له المفسر بقوله : (قال ابن عباس) الخ ، وهذا مبني على أن المراد بالصلح عقد الجزية ، وأما إن أريد بالصلح غيره من الهدنة والأمان فلا نسخ ، إذ يصح عقد ذلك لكل كافر ، وهذا التقرير مرور على مذهب الشافعي ، من أن الجزية لا تضرب إلا على أهل الكتاب فقط ، وقال

٢٤

إذ نزلت في بني قريظة (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) للقول (الْعَلِيمُ) (٦١) بالفعل (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصلح ليستعدوا لك (فَإِنَّ حَسْبَكَ) كافيك (اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (٦٢) (وَأَلَّفَ) جمع (بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) بعد الإحن (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته (إِنَّهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) (٦٣) لا يخرج شيء عن حكمته (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَ) حسبك (مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ) حث (الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) للكفار (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) منهم (وَإِنْ يَكُنْ) بالياء والتاء (مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٦٥) وهذا خبر بمعنى الأمر أي ليقاتل العشرون منكم المائتين والمائة الألف ويثبتوا ثم نسخ لما كثروا بقوله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) بضم الضاد وفتحها عن قتال عشرة أمثالكم (فَإِنْ يَكُنْ) بالياء والتاء (مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) منهم

____________________________________

مالك : إن الجزية تضرب على كل كافر صح سباؤه ، كان من أهل الكتاب أو لا ، فعلى مذهبه ليس في الآية نسخ أصلا. قوله : (بكسر السين وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك له. قوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لما قبله.

قوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) شرط حذف جوابه ، تقديره فصالحهم ولا تخف من عذرهم. قوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي قواك بأسباب باطنية ، وهي نصره لك من غير واسطة ، وبأسباب ظاهرية وهم المؤمنون. قوله : (بعد الإحن) جمع إحنة وهي العداوة والشحناء التي كانت بين الأوس والخزرج. قوله : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي بعد أن كان ما كان بينهم من البغضاء والعداوة والحروب العظيمة ، مائة وعشرين سنة ، حتى لو أن رجلا من قبيلة لطم لطمة واحدة لقاتل عنه أهل قبيلته ، حتى يدركوا ثأرهم ، فلما آمنوا برسول الله ، زالت تلك الحالة ، وانقلبت العداوة محبة في الله ورسوله ، فكان معجزة عظيمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ) الخ ، هذا امتنان من الله على نبيه بتلك النعمة العظيمة.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) قيل نزلت ببدر ، فالمراد بالمؤمنين : الذين كانوا حاضرين وقعتها ، فيكون في ذلك مدح عظيم لهم ، ودليل على شرفهم ، ويؤخذ من ذلك ، أن المؤمنين إذا اجتمعت قلوبهم مع شخص لا يخذلون أبدا ، وليس في ذلك اعتماد على غير الله ، لأن المؤمنين ما التفت لهم إلا لإيمانهم وكونهم حزب الله ، فرجع الأمر لله ، وقيل : نزلت في إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بعد إسلام ثلاثة وثلاثين رجلا وست نسوة ، فيكون هو متمما للأربعين ، فعلى الأول الآية مدنية كبقيتها ، وعلى الثاني تكون الآية مكية ، اثناء سورة مدنية ، ولا مانع أنها نزلت مرتين بمكة يوم إسلام عمر ، ومرة بالمدينة في أهل بدر. قوله : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) معطوف على لفظ الجلالة. قوله : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي مرهم أمرا أكيدا ، أو رغبهم فيه. قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) إما تامة وفاعلها (عِشْرُونَ) و (مِنْكُمْ) حال ، وإما ناقصة ، فعشرون اسمها ، ومنكم خبرها ، وهكذا يقال فيما بعدها. و (يَكُنْ) وقع هنا خمس

٢٥

(وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته وهو خبر بمعنى الأمر أي لتقاتلوا مثليكم وتثبتوا لهم (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦) بعونه. ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر (ما كانَ لِنَبِيٍ

____________________________________

مرات : الأول والرابع بالياء لا غير ، والثاني والثالث والخامس بالياء والتاء ، كما سيا أتي للمفسر ، فيما سكت عنه فبالياء لا غير ، وما نبه عليه ففيه الوجهان.

قوله : (صابِرُونَ) أي محتسبون أجرهم عند الله ، وهذا خبر بمعنى الأمر ، لقلة المسلمين وكثرة الكافرين ، وحكمة ذلك : التكليف أن المسلمين وليهم الله ، فهم معتمدون عليه ، ومتوكلون عليه ، فبذلك الوصف كان الواحد مكلفا بقتال عشرة ، وأما الكفار فلا ناصر لهم ، وهم معتمدون على قوتهم ، وذلك داع للضعف والهزيمة ، وفي الآية من المحسنات البديعية الاحتباك ، وهو الحذف من كل نظير ما أثبت في الآخر ، فقد أثبت صابرون في الأول ، وحذف الذين كفروا منه ، وأثبت الذين كفروا في الثاني ، وحذف لفظ الصبر منه ، قوله : (وهذا خبر بمعنى الأمر) أي وقد كان هذا في صدر الإسلام ، وكان فرار المائة من الألف حراما ، ثم نسخ. قوله : (بضم الضاد وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، والمراد الضعف في الأبدان ، لكثرة العبادة والتعب ، فرحمهم‌الله وأكرمهم ، وأيضا علم الله ضعف ما يا أتي بعد الصدر الأول عن القتال ، فخفف الله عن الجميع. قوله : (وهو خبر بمعنى الأمر) أي وقد استمر ذلك الأمر إلى يوم القيامة. قوله : (ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر) أي وكانوا سبعين من صناديدهم ، روي أنه لما جيء بالأسارى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقولون في هؤلاء؟» فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أهلك وقومك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فداء يكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر : يا رسول الله ، كذبوك وأخرجوك ، قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، ومكن حمزة من العباس يضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال ابن رواحة : انظر واديا كثير الحطب ، فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس يا أخذ بقول عمر ، وقال ناس يا أخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله عليه الصلاة والسّلام فقال : «إن الله ليلين قلوب رجال ، حتى تكون ألين من اللبن ، ويشد قلوب رجال ، حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل ابراهيم. قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثل عيسى قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ومثلك يا عمر مثل نوح قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ومثل موسى : قال (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية ، ثم قال رسول : اليوم أنتم عالة ، فلا يفلتن أحد منهم ، إلا بفداء أو ضرب عنقه» قال عمر بن الخطاب : فهوى رسول الله ما قاله أبو بكر ، ولم يهوه ما قلت ، وأخذ منهم الفداء وهو عن كل واحد عشرون أوقية من الذهب ، وقيل أربعون أوقية ، إلا العباس فأخذ منه ثمانون أوقية عن نفسه ، وعن ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث ثمانون ، وأخذ منه وقت الحرب عشرون ، فجملة ما أخذ منه مائة وثمانون أوقية ، قال عمر : فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله : ابكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء ، فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية ، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فرسول الله

٢٦

أَنْ يَكُونَ) بالتاء والياء (لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) يبالغ في قتل الكفار (تُرِيدُونَ) أيا المؤمنون (عَرَضَ الدُّنْيا) حطامها بأخذ الفداء (وَاللهُ يُرِيدُ) لكم (الْآخِرَةَ) أي ثوابها بقتلهم (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧) وهذا منسوخ بقوله فإما منا بعد وإما فداء (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) باحلال الغنائم والأسرى لكم (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨) (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) وفي قراءة الأسرى (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) إيمانا وإخلاصا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا

____________________________________

لن يعمل إلا ما أبيح له ، وإنما عتابه تعليما لمن يتولى الأمور من أمته حسن السياسة ، من أنه لا يقبل الفداء من الكفار ، حتى يكون قادرا عليهم ، وظافرا بهم. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما سبعيتان ، لكن على الفوقية تتعين الإمالة في أسرى ، وعلى التحتية تجوز الإمالة وعدمها.

قوله : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي حتى تظهر شوكة الإسلام وقوته ، وذل الكافرين. قوله : (عَرَضَ الدُّنْيا) أي متاعها ، سمي عرضا لزواله وعدم ثباته. قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي يرضاها لكم. قوله : (وهذا منسوخ) أي قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) هكذا مشى المفسر على هذا القول وهو ضعيف ، بل ما هنا مقيد بالإثخان ، أي كثرة القتال المترتب عليها عز الإسلام وقوته ، وما يا أتي في سوة القتال من التخيير محله بعد ظهور شوكة الإسلام حيث قال : فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإذا علمت ذلك ، فالايتان متوافقتان في أن كلا يدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده الفداء.

قوله : (لَوْ لا كِتابٌ لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، (كِتابٌ) مبتدأ ، وجملة (مِنَ اللهِ) صفة له ، وكذا قوله : (سَبَقَ) والخبر محذوف تقديره موجود ، والمعنى لو لا وجود حكم من الله مكتوب بإحلال الغنائم لمسكم إلخ ، فهو عتاب على ترك الأولى ، لا على فعل منهي عنه ، تنزيها لرسول أي أكلا حلالا. قوله : (طَيِّباً) أي خالصا لا شبهة فيه.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) نزلت في العباس عم رسول الله ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة لبدر ، وكان معه عشرون اوقية من ذهب ، فلما أخذ اسيرا أخذت منه ، فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحسبها من فدائه فأبى وقال له : شيء خرجت به لتسعين به علينا فلا نتركه لك ، فقال العباس : يا محمد أتتركني اتكفف قريشا ما بقيت؟ فقال رسول الله : فأين الذهب الذي وضعته عند أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل ، فقال العباس : وما يدريك يا ابن أخي؟ فإني اعطيتها إياه في سواد الليل ، ولم يطلع عليه أحد إلا الله ، فقال : أخبرني به ربي ، فقال : اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أنك عبده ورسوله ، وأنك صادق ، وامر ابني اخيه عقيلا ونوفل بن الحرث فأسلما ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) الآية ، فكان العباس يقول : ابدلني الله خيرا مما أخذ مني ، عشرين عبدا تجارا يضربون بمال كثير ، ادناهم يضرب بعشرين الفا مكان العشرين اوقية ، واعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال اهل مكة ، وأنا انتظر المغفرة من ربي. قوله : (مِنَ الْأَسْرى) بالإمالة لا غير .. قوله : (وفي قراءة الأسارى) أي بالإمالة وتركها ، فالقراءات ثلاث ، وكلها سبعية.

٢٧

أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٠) (وَإِنْ يُرِيدُوا) أي الأسرى (خِيانَتَكَ) بما أظهروا من القول (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) قبل بدر بالكفر (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) ببدر قتلا وأسرا فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه (حَكِيمٌ) (٧١) في صنعه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهم المهاجرون (وَالَّذِينَ آوَوْا) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَنَصَرُوا) وهم الأنصار (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في النصرة والإرث (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ) بكسر الواو وفتحها (مِنْ شَيْءٍ) فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة (حَتَّى يُهاجِرُوا) وهذا منسوخ بآخر السورة (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) لهم على الكفار (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم

____________________________________

قوله : (من الفداء) بيان لما قوله : (خِيانَتَكَ) أي بنقض العهد الذي عاهدوك عليه ، وهو أن لا يحاربوك ، ولا يعاونوا عليك المشركين. قوله : (بما اظهروا من القول) أي قولهم : (رضينا بالإسلام). قوله : (فليتوقعوا) هذا في الحقيقة جواب الشرط الذي هو قوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) أي سبق لهم الإيمان والانتقال مع رسول الله من مكة إلى المدينة ، وهم السابقون الأولون الذين حضروا الغزوات قبل الفتح ، الذين قال الله فيهم للفقراء المهاجرين (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) : قوله : (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) متعلق بجاهدوا أي بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله. قوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا) (النبي) أي والمهاجرين ، ولم يذكرهم المفسر لأنهم تبع لرسول الله. قوله : (وهم الأنصار) أي الذين قال الله فيهم (والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). قوله : (في النصرة والإرث) أي فكان الأنصار ينصرون المهاجرين وبالعكس ، وكان المهاجري يرث الأنصاري الذي آخاه معه رسول الله وبالعكس. قوله : (وَلَمْ يُهاجِرُوا) أي بأن أقاموا بمكة. قوله : (بكسر الواو وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (مِنْ شَيْءٍ) (من) زائدة ، و (شَيْءٍ) مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله. قوله : (فلا إرث بينكم وبينهم) أي لا إرث بين المهاجرين والأنصار ، وبين الذين لم يهاجروا. قوله : (ولا نصيب لهم في الغنيمة) اعترض بأن الغنيمة لا يا أخذها إلا من قاتل ، وهؤلاء لم يقاتلوا ، فالأولى حذف هذه العبارة. قوله : (وهذا منسوخ) اسم الإشارة على ما تقدم ، من أن الإرث بين المهاجرين والأنصار ثابت بالإيمان والهجرة ، ومنفي بين من لم يهاجر وبين الأنصار والمهاجرين. قوله : (بآخر السورة) أي وهو قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

قوله : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي طلبوا منكم النصرة لأجل إعزاز الدين ، والضمير عائد على (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا). قوله : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي من الكفار ، وهم

٢٨

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في النصرة والإرث فلا إرث بينكم وبينهم (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي تولي المسلمين وقطع الكفار (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣) بقوة الكفر وضعف الإسلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤) في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أيها المهاجرون والأنصار (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ذوو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في الإرث من التوارث بالإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة (فِي كِتابِ اللهِ) اللوح المحفوظ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥) ومنه حكمة الميراث.

____________________________________

أهل مكة. قوله : (وتنقضوا عهدهم) أي الصلح الكائن با الله يبية سنة ست على ترك القتال عشر سنين. قوله : (في النصرة والإرث) أي فهما ثابتان بين الكفار بعضهم لبعض. قوله : (فلا إرث بينكم وبينهم) أي ولا نصرة. قوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) إن شرطية مدغمة في لا النافية ، و (تَفْعَلُوهُ) فعل الشرط ، و (تَكُنْ) جواب الشرط. والمعنى : إن لم تفعلوا ما ذكر من تولي المؤمنين وقطع الكفار ، بل توليتم الكفار ، وقطعتم المؤمنين ، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ، لأنه يترتب على ذلك ، قوة الكفار ، وضعف المسلمين ، وهذا ما حل به المفسر ، ويحتمل أن لا زائدة والمعنى : إن تفعلوا ما نهيتم عنه من موالاة الكفار وقطع المؤمنين.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) إلخ ليس مكررا مع ما تقدم ، لأن ما هنا بيان لفضلهم ، وما تقدم بيان لكونهم أولياء بعض ، وأيضا ما تقدم في الهجرة قبل عام الحديبية ، وما هنا في الهجرة قبل الفتح ، وكان قبل الحديبية أو بعدها. قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي الكاملون في الإيمان بلا شك. قوله : (لهم مغفرة) أي لذنوبهم. قوله : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لا تعب فيه ولا مشقة ، ويؤخذ من هذه الآية أن جميع المهاجرين والأنصار مبشرون بالجنة من غير سابقة عذاب ، وأما ما ورد من أن المبشرين عشرة ، فلأنهم جمعوا في حديث واحد. قوله : (مِنْ بَعْدُ) أي بعد الحديبية قبل الفتح ، ولأنه بعد الفتح لا هجرة. قوله : (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي محسوبون منكم ، وفي الآية دليل على أن المهاجرين الأولين أعلى وأجل من المتأخرين بالهجرة ، لأن الله ألحقهم بهم ، ومن المعلوم أن المفضول يلحق بالفاضل. قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) هذه الآية نزلت بعد الفتح ، وهي ناسخة للآية المتقدمة ، وهي ميراث المهاجرين للأنصار. قوله : (من التوارث) متعلق بأولى. قوله : (أي اللوح المحفوظ) وقيل المراد بها القرآن ، لأن قسمة المواريث مذكورة في سورة النساء من كتاب الله وهو القرآن. قوله : (ومنه حكمة الميراث) أي التوارث بمقتضى الإيمان والهجرة بدون قرابة ونسخة والتوارث بالقرابة.

٢٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التّوبة

مدنيّة أو إلا الآيتين آخرها. وهي مائة وثلاثون أو إلا آية

ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم وأخرج في معناه عن علي أن البسملة أمان وهي نزلت لرفع الأمن بالسيف وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة

____________________________________

سورة التوبة

مدنية أو إلا الآيتين آخرها. وهي مائة وثلاثون أو إلا آية

مبتدأ ، و (مدنية) خبر أول. و (مائة) إلخ ، خبر ثان. قوله : (أو إلا الآيتين) إشارة إلى قول آخر. قوله : (آخرها) حال من آيتين ، وأولهما (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) فعلى أنهما مكيتان يكون معنى قوله : (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) اكتف بالله واترك قتالهم ، ويكون منسوخا بآية السيف ، وعلى أنهما مدنيتان ، يكون المعنى : كن مستعينا بالله واثقا به في قتالهم ولا نسخ ، وهذه السورة من آخر القرآن نزولا ، لأنها نزلت بعد عزة الإسلام وانتشاره. قوله : (ولم تكتب فيها البسملة) إلخ ، جواب عما يقال : إن كل سورة مبتدأ بالبسملة إلا هذه السورة ، فما الحكمة في ذلك ، فأجاب : بأن رسول الله لم يأمر بذلك ، أي لكونه لم ينزل عليه وحي بها ، وهذا أصح الأقوال ، ولذا صدر به المفسر. وحاصل الخلاف في حكمة عدم الإتيان بالبسملة خمسة أقوال : أولها : ما قاله المفسر ، الثاني : أنه سئل عثمان عن ذلك ، فأجاب بأنه ظن أنها مع الأنفال سورة ، لأن قصتها تشبه قصتها ، فعلى هذا القول تكون مع الأنفال تمام السبع الطوال. الثالث : أنها نزلت لنقض عهد الكفار وفضيحة المنافقين ، فهي سورة عذاب ، والبسملة رحمة ، ولا تجتمع رحمة مع عذاب ، وتسمى أيضا الفاضحة ، لفضيحة المنافقين بها ، وسورة العذاب ، وسورة التوبة ، لاشتمالها على ذكرها ، وغير ذلك من أسمائها. الرابع : تركت البسملة لاختلاف الصحابة في أن الأنفال وبراءة سورة واحدة أو سورتان. فتركت البسملة لقول من قال : هما سورة واحدة ، وتركت بينهما فرجة لقول من قال : هما سورتان. الخامس : أن ذلك على عادة العرب في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه ، كتبوا إليهم كتابا ، ولم يكتبوا فيه البسملة ، وهذه السورة نزلت لنقض عهود المشركين فلم تكتب فيها ، ثم اختلف العلماء في ابتداء تلك السورة بها ، فقال ابن حجر من الشافعية بالحرمة ، وقال الرملي بالكراهة ، وفي الأثناء يكره عند الأول ، ويجوز عند الثاني ، ومذهب مالك كذلك ، وقد أشار لذلك صاحب الشاطبية بقوله :

ومهما تصلها أو بدأت براءة

لتنزيلها بالسيف لست مبسملا

ولا بد منها في ابتدائك سورة

سواها وفي الأجزاء خير من تلا

٣٠

التوبة وهي سورة العذاب وروى البخاري عن البراء أنها آخر سورة نزلت. هذه (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) واصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) عهدا مطلقا أو دون أربعة أشهر أو فوقها ونقض العهد بما يذكر في قوله (فَسِيحُوا) سيروا آمنين أيها المشركون (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أولها شوال بدليل ما سيأتي ولا أمان لكم بعدها (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي فائتي عذابه (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢) مذلهم في الدنيا بالقتل والأخرى بالنار (وَأَذانٌ) إعلام (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم النحر (أَنَ) أي بأن (اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وعهودهم (وَرَسُولِهِ) بريء أيضا وقد بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا من السنة وهي ستة تسع

____________________________________

قوله : (إنها آخر سورة نزلت) أي من الآخر ، وإلا فالمائدة متأخرة عنها ، وهذه السورة نزلت كاملة ، لما ورد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أنزل علي القرآن إلا آية آية ، وحرفا حرفا ، إلا سورة براءة وسورة قل هو الله أحد ، فإنهما نزلتا ومعهما سبعون الف صف من الملائكة». قوله : (بَراءَةٌ) أشار المفسر إلى أن قوله : (بَراءَةٌ) خبر لمحذوف قدره بقوله : (هذه). قوله : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) متعلق بمحذوف صفة لبراءة قدره المفسر بقوله : (واصلة) والمعنى هذه قطع واصلة صادرة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، واصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قوله : (ونقض العهد) أي في الصورة الثلاثة.

قوله : (فَسِيحُوا) أمر إباحة للمشركين ، وهو مقول لقول محذوف ، والتقدير فقولوا لهم سيحوا ، وهذا بيان لعقد الأمان لهم أربعة أشهر ، وإنما اقتصر عليها لقوة الإسلام وكثرة المسلمين ، بخلاف صلح الحديبية ، فكان عشر سنين ، لضعف المسلمين إذ ذاك. قوله : (أولها شوال) أي آخرها المحرم ، وقيل : أولها عشر ذي القعدة ، وآخرها العاشر من ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسيء ، ثم صار في السنة القابلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله» الحديث ، وقيل : أولها عاشر ذي الحجة ، وآخرها عاشر ربيع الثاني. قوله : (بدليل ما سيأتي) أي في قوله : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم).

قوله : (وَاعْلَمُوا) إلخ ، أي فلا تغتروا بعقد الأمان لكم. قوله : (وَأَذانٌ) معطوف على قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) عطف مفصل على مجمل. قوله : (اعلام) أي فالمراد الأذان اللغوي لا الشرعي الذي هو الإعلام بألفاظ مخصوصة. قوله : (يوم النحر) إنما سمي يوم الحج الأكبر لأن معظم أفعال الحج يكون فيه ، كالطواف والرمي والنحر والحلق ، واحترز بالحج الأكبر عن العمرة ، فهي الحج الأصغر ، لأن أعمالها أقل من أعمال الحج ، لأنه يزيد عليها بأمور : كالرمي والمبيت والوقوف.

قوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ) إلخ ، هذه الجملة خبر عن قوله : (وَأَذانٌ). وقوله : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ظرف للأذان ، والمعنى وإعلام من الله ورسوله إلى الناس ، كائن في يوم الحج الأكبر ، بأن الله بريء إلخ. قوله : (وَرَسُولِهِ) القراءة السبعة بل العشرة ، على الرفع عطف على الضمير المستتر في بريء ، ووجد الفاصل وهو قوله : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ويصح أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره وبريء منهم أيضا ، وقرىء شاذا بالنصب ، ووجهت بوجهين : الأول أن الواو بمعنى مع ، ورسوله مفعول معه ، الثاني أنه

٣١

فأذن يوم النحر بمنى بهذه الآيات وأن لم يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان رواه البخاري (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الإيمان (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ) أخبر (الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد (وَلَمْ يُظاهِرُوا)

____________________________________

معطوف على اسم أن وهو لفظ الجلالة ، وقرىء شاذا أيضا بالجر ، ووجهت بأن الواو للقسم ، واستبعدت تلك القراءة لإيهام عطفه على المشركين ، حتى أن بعض الأعراب سمع رجلا يقرأ بها ، فقال الأعرابي : إن كان الله بريئا من رسول فأنا بريء منه ، فلببه القارىء إلى عمر ، فحكى الأعرابي الواقعة ، فأمر عمر بتعليم العربية ، وتحكى هذه أيضا عن علي وأبي الأسود الدؤلي. قوله : (وقد بعث) إلخ حاصل ذلك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهد قريشا يوم الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، ثم عدت بنو بكر على خزاعة ، وأعانتهم قريش بالسلاح ، فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، ونقضوا عهدهم ، خرج عمرو بن سلام الخزاعي ، ووقف على رسول الله وأخبره بالخبر ، فقال رسول الله : لا نصرت إن لم أنصرك ، وتجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة ، فلما كان سنة تسع ، أراد رسول الله أن يحج ، فقيل إن المشركين يحضرون ويطوفون بالبيت عراة ، فقال لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج ، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ، آخرها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ، ليقرأ على الناس صدر براءة ، فلحق أبا بكر بالعرج ـ بفتح العين وسكون الراء ، قرية جامعة بينها وبين المدينة ستة وسبعون ميلا ـ فلما تلاقيا ، ظن أبو بكر أنه معزول ، فرجع إلى رسول الله فقال : يا رسول أنزل في شأني شيء؟ فقال لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي ، أما ترضى أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض ، فقال : بلى يا رسول الله ، فسار أبو بكر أميرا على الحاج ، وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة ، فلما كان قبل يوم التروية بيوم ، قام أبو بكر فخطب الناس ، وحدثهم على مناسكهم ، وأقام للناس الحج ، حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي فأذن بما أمر به ، وهو لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو منقوض ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج ، ثم حج رسول الله سنة عشر حجة الوداع ، إذا علمت ذلك ، تعلم أن هذه الآيات نزلت بعد فتح مكة في نقض عهود ما عدا قريش ، فإن قريشا تم أمرهم بفتح مكة ، وفي ذلك قال المفسرون : لما خرج رسول الله إلى تبوك ، فكان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر الله عزوجل بنقض عهودهم ، وذلك قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) الآية ، ففعل رسول الله ما أمر به ، ونبذ لهم عهودهم. قوله : (بهذه الآيات) أي وهي ثلاثون أو أربعون آية آخرها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) قوله : (وأن لا يحج) أي وبأن لا يحج ، فهو وما بعده من جملة ما أذن به.

قوله : (فَهُوَ) أي التوبة المفهومة من قوله : (تُبْتُمْ). قوله : (خَيْرٌ لَكُمْ) أي من بقائكم على الكفر الذي هو خير في زعمكم ، أو اسم التفضيل ليس على بابه. قوله : (أخبر) اشار بذلك إلى أن المراد بالبشارة مطلق الإخبار ، وعبر عنه بالبشارة تهكما بهم. قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) استثناء من المشركين

٣٢

يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من الكفار (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى) انقضاء (مُدَّتِهِمْ) التي عاهدتم عليها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤) بإتمام العهود (فَإِذَا انْسَلَخَ) خرج (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) وهو آخر مدة التأجيل (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في حل أو حرم (وَخُذُوهُمْ) بالأسر (وَاحْصُرُوهُمْ) في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) طريق يسلكونه ونصب كل على نزع الخافض (فَإِنْ تابُوا) من الكفر (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ولا تتعرضوا لهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) لمن تاب (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مرفوع بفعل يفسره (اسْتَجارَكَ) استأمنك من القتل (فَأَجِرْهُ) أمنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) القرآن (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي موضع أمنه وهو دار قومه إن لم يؤمن لينظر في أمره (ذلِكَ) المذكور (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) دين الله فلا بد لهم من سماع القرآن ليعلموا (كَيْفَ) أي لا (يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وهم كافرون بهما غادرون (إِلَّا

____________________________________

في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو منقطع والتقدير لكن الذين عاهدتم فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، وهذا أولى من جعله متصلا ، لما يلزم عليه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه.

قوله : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) قرأ الجمهور بالصاد المهملة من النقصان ، وهو يتعدى لواحد واثنين ، فالكاف مفعول ، و (شَيْئاً) إما مفعول ثان أو مصدر ، أي لا قليلا ولا كثيرا من النقصان ، وقرىء شذوذا بالضاد ، والمعنى لم ينقضوا عهدكم ، وهي مناسبة لذكر العهد ، والقراءة الأولى مناسبة لذكر التمام في مقابلتها. قوله : (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي هؤلاء المشركون وهم بنو ضمرة حي من كنانة. قوله : (إِلى مُدَّتِهِمْ) أي وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر. قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي انقطعت وفرغت ، وتقدم للمفسر أن هذا يدل على أن أول المدة شوال ، وهو أحد أقوال ثلاثة تقدمت. قوله : (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي في أي مكان. قوله : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي لئلا ينتشروا في البلاد.

قوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) الخ ، المراد أتوا بأركان الإسلام ، وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة ، لأنهما رأس الأعمال البدنية والمالية ، قوله : (ولا تتعرضوا لهم) أي لا لأنفسهم ولا لأموالهم ، فلا تأخذوا منهم جزية ولا أعشارا ، ولا غير ذلك. قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إن حرف شرط جازم ، وأحد فاعل بفعل محذوف يفسره قوله : (اسْتَجارَكَ) وهو فعل الشرط ، وقوله : (فَأَجِرْهُ) جواب الشرط ، وإنما أعرب أحد فاعلا بفعل محذوف ، لأن أدوات الشرط لا يليها إلا الأفعال لفظا أو تقديرا سيما إن. قوله : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي فيتدبره ويعلم كيفية الدين وما انطوى عليه من المحاسن. قوله : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي إن أراد الانصراف ولم يسلم وصله إلى قومه ليتدبر في أمره ، ثم بعد ذلك يجوز لك قتالهم ، لقيام الحجة عليهم. قوله : (المذكور) أي من الإجارة والإبلاغ. قوله : (ليعلموا) أي ما لهم من الثواب إن آمنوا ، وما عليهم من العقاب إن لم يؤمنوا. قوله : (أي لا) (يَكُونُ) أشار بذلك إلى أن الاستفهام للتعجب بمعنى النفي ، وهذا تأكيد لإبطال عهدهم ونقضه في الآية المتقدمة.

٣٣

الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يوم الحديبية وهم قريش المستثنون من قبل (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أقاموا على العهد ولم ينقضوه (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على الوفاء به وما شرطية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧) وقد استقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عهدهم حتى نقضوا بإعانة بني بكر على خزاعة (كَيْفَ) يكون لهم عهد (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يظفروا بكم (لا يَرْقُبُوا) يراعوا (فِيكُمْ إِلًّا) قرابة (وَلا ذِمَّةً) عهدا بل يؤذوكم ما استطاعوا وجملة الشرط حال (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) بكلامهم الحسن (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) الوفاء به (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨) ناقضون العهد (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) القرآن (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا أي تركوا اتباعها للشهوات والهوى (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) دينه (إِنَّهُمْ ساءَ) بئس (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩) به عملهم هذا (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠) (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ

____________________________________

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) يصح أن يكون الاستثناء منقطعا أو متصلا ، فعلى الانقطاع يكون الموصول مبتدأ خبره جملة الشرط وهي قوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) الخ ، وعلى الاتصال يكون الموصول منصوبا على الاستثناء. قوله : (يوم الحديبية) اسم مكان بينه وبين مكة ستة فراسخ. قوله : (وهم قريش المستثنون من قبل) أي في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) وقد تبع المفسر في ذلك ابن عباس وهو مشكل ، لأن هذه الآيات نزلت في شوال في السنة التاسعة ، وقريش إذ ذاك مسلمون ، لأنها كانت نقضت في السنة السابعة ، وحصل الفتح في الثامنة ، فالصواب كما قال الخازن : إن ذلك محمول على بني ضمرة ، الذين دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية مع جملة من القبائل ، فكلهم نقضوا إلا بين ضمرة فلم ينقضوا ، فلذا أمر رسول الله بإتمام عهدهم إلى مدتهم. قوله : (وما شرطية) أي بمعنى إن ، ويصح كونها مصدرية ظرفية ، أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. قوله : (حتى نقضوا بإعانة بني بكر على خزاعة) هذا مبني على ما فهمه أولا ، ولو مشى على الصواب لقال : حتى فرغت مدتهم.

قوله : (كَيْفَ) (يكون لهم عهد) كرر الاستفهام زيادة في التأكيد. قوله : (إِلَّا) مفعول ليرقبوا ، وجمعه إلال كقداح. قوله : (قرابة) وقيل المراد به العهد ، وقيل المراد به الله تعالى ، وقيل الجواز وهو رفع الصوت عند المحالفة ، لأنهم كانوا يفعلون ذلك عند المحالفة ، والأقرب ما قاله المفسر. قوله : (عهدا) أي فالعطف للتفسير على تفسير إلال بالعهد. قوله : (يُرْضُونَكُمْ) هذا بيان لحالهم ، عند عدم الظفر بالمسلمين ، إثر بيان حالهم عند الظفر بهم. قوله : (وتأبى قلوبهم) أي تمتنع من الإذعان والوفاء بما أظهروه.

قوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) أي استبدلوا آيات الله بالأعراض الفانية والشهوات الزائلة. قوله : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي منعوا الناس من اتباع دين الإسلام والإيمان. قوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لضلالهم وكفرهم وإضلالهم غيرهم.

قوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ) كرر ذلك لمزيد التشنيع والتقبيح عليهم ، لأن مقام الذم كمقام المدح ، البلاغة فيه الإطناب. قوله : (فَإِنْ تابُوا) الخ ليس فيه تكرار مع ما تقدم ، لاختلاف جواب

٣٤

وَنُفَصِّلُ) نبين (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١) يتدبرون (وَإِنْ نَكَثُوا) نقضوا (أَيْمانَهُمْ) مواثيقهم (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) عابوه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) رؤساءه فيه وضع الظاهر موضع المضمر (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ) عهود (لَهُمْ) وفي قراءة بالكسر (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) عن الكفر (أَلا) للتحضيض (تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا) نقضوا (أَيْمانَهُمْ) عهودهم (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة لما تشاور وافيه بدار الندوة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بالقتال (أَوَّلَ مَرَّةٍ) حيث قاتلوا خزاعة حلفاءكم مع بني بكر فما يمنعكم أن تقاتلوهم (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أتخافونهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) في ترك قتالهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣) (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) بقتلهم (بِأَيْدِيكُمْ

____________________________________

الشرط ، لأن الأول أفاد تخليه سبيلهم ، وهنا أفاد أنهم إخواننا في الدين. قوله : (أي فهم إخوانكم) أشار بذلك إلى أن (فَإِخْوانُكُمْ) خبر لمحذوف ، والجملة في محل جزم جواب الشرط. قوله : (يتدبرون) أي يتعظون فيؤمنون ، وإنما فسر العلم بالتدبر ، لأن المراد به علم يحصل معه الإذعان لا مطلق علم. قوله : (وَإِنْ نَكَثُوا) النكث في الأصل الرجوع إلى خلف ، ثم استعمل في النقض مجازا بجامع أن كلا متأخر. عن مطلوبه وهو مقابل قوله : (فإن تابوا) إلخ ، والمعنى فإن أظهروا ما في ضمائرهم من الشر فقاتلوا إلخ. قوله : (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) عطف تفسير أو سبب على مسبب والأقرب الأول.

قوله : (فَقاتِلُوا) أمر لسيدنا محمد وأمته. قوله : (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما وتركه ، وتسهيل الثانية مع إدخال ألف بينهما وتركه ، وبإبدال الثانية ياء ، فهذه خمس قراءات غير شاذة هنا ، وفي الأنبياء ، وفي موضعي القصص ، وفي السجدة وأصله أأئمه بوزن أفعله ، أريد إدغام أحد الميمين في الأخرى ، فنقلت حركة الميم الأولى للساكن قبلها ، وهو الهمزة الثانية. قوله : (فيه وضع الظاهر) إلخ أي زيادة في التقبيح عليهم ، حيث وصفهم بكونهم رؤساء في الكفر ، وكان مقتضى الظاهر فقاتلوهم. قوله : (لا أَيْمانَ لَهُمْ) بفتح الهمزة جمع يمين بمعنى الحلف ، والمعنى لا عهود لهم متممة. قوله : (وفي قراءة بالكسر) أي فيكون مصدر آمن بمعنى أعطاه الأمان ، أو من الإيمان وهو التصديق. قوله : (أَلا) (للتحضيض) أي وهو الطلب ، بحث وإزعاج لا تصافهم بصفات ثلاثة ، كل واحد منها يقتضي القتال.

قوله : (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) إنما اقتصر على الإخراج ، مع أنه وقع منهم الهم بالقتل والهم بالإيثاق أيضا ، لأن أثر الإخراج ظهر عقبه ، وهو خروجه منها بإذن ربه لا خوفا منهم ، ولذا ورد : «اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي ، فأسكني في أحب البلاد إليك». قوله : (بدار الندوة) تقدم أنها مكان اجتماع القوم للمشاورة والحديث. والباني لها قصي ، وقد أدخلت الآن في المسجد ، فهي في مقام الحنفي. قوله : (حيث قاتلوا خزاعة) أي أعانوهم بالسلاح ، ثم اعلم أن صريح المفسر على ذلك على قريش ، وهو مناف لما تقدم ، من أن السورة نزلت سنة تسع ، وقريش إذ ذاك مسلمون. قوله : (فما يمنعكم أن تقاتلوهم) أشار بذلك إلى أن المراد من التحضيض الأمر مع التوبيخ. قوله : (في ترك قتالهم) يتعلق بقوله : (أَتَخْشَوْنَهُمْ). قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله : (قاتِلُوهُمْ) هذا أمر ذكر في جوابه خمسة أمور ، قوله : (بنوا خزاعة) يؤخذ من ذلك أنهم مؤمنون إذ ذاك.

٣٥

وَيُخْزِهِمْ) يذلهم بالأسر والقهر (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤) مما فعل بهم هم بنو خزاعة (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) كربها (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بالرجوع إلى الإسلام كأبي سفيان (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥) (أَمْ) بمعنى همزة الإنكار (حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا) لم (يَعْلَمِ اللهُ) علم ظهور (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) بالإخلاص (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) بطانة وأولياء المعنى ولم يظهر المخلصون وهم الموصوفون بما ذكر من غيرهم (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦) (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) بالأفراد والجمع والقعود فيه (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) لعدم شرطها (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧) (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ) أحدا (إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨) (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ

____________________________________

قوله : (وَيَتُوبُ اللهُ) بالرفع استئناف ، ولم يجزم لأن التوبة على من يشاء ، ليست جزاء على قتال الكفار. قوله : (بمعنى همزة الإنكار) الحق أنها بمعنى بل ، والهمزة معا كما تقدم له. قوله : (أَنْ تُتْرَكُوا) أي يترككم الله من غير قتال. قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) الجملة حالية. قوله : (علم ظهور) دفع بذلك ما يقال كيف ينفى علم الله مع أنه متعلق بكل شيء وجد أو لم يوجد. قوله : (بالإخلاص) أي مع إخلاص. قوله : (وَلِيجَةً) من الولوج وهو الدخول ، والمعنى بل ظننتم أن تتركوا من غير قتال بمجرد قولكم آمنا ، بل يظهر المجاهد منكم الإخلاص من غيره ، ولم تتخذوا في الله ورسوله ولا المؤمنين شيئا تدخلونه في قلوبكم ، غير محبة الله ورسوله والمؤمنين.

قوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) إلخ. سبب نزول هذه الآية وما بعدها أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر ، منهم العباس عم رسول الله ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله يعيرونهم بالشرك ، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله وقطيعة الرحم ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا؟ فقيل له : وهل لكم محاسن؟ قال : نعم ، نحن أفضل منكم ، نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة أي نخدمها ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني. قوله : (بالإفراد والجمع) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالإفراد إما على أن المراد بالمسجد الحرام ، أو على أن المسجد اسم جنس ، فيدخل فيه جميع المساجد ، والجمع إما على أن كل بقعة من المسجد الحرام يقال لها مسجد ، أو الجمع باعتبار أنه قبلة لسائر المساجد.

قوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) قيل : المراد به السجود للأصنام ، لأن كفار قريش كانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام ، فلم يزدادوا بذلك إلا بعدا من الله. قوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي الحسنة التي افتخروا بها من خدمة المساجد ، وفك الأسير ، وسقاية الحاج ، وغير ذلك. قوله : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) بالجمع باتفاق السبعة ، وعمارتها تكون ببنائها من المال الحلال والصلاة فيها وغير ذلك. قوله : (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي أن يحشروا في زمرتهم يوم القيامة.

٣٦

الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أهل ذلك (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) في الفضل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩) الكافرين نزلت ردا على من قال ذلك هو العباس أو غيره (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً) رتبة (عِنْدَ اللهِ) من غيرهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) الظافرون بالخير (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٢١) دائم (خالِدِينَ) حال مقدرة (فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢) ونزل فيمن ترك الهجرة لأجل أهله وتجارته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا) اختاروا (الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ

____________________________________

قوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) رد على العباس وغيره كما يا أتي للمفسر ، حيث افتخروا بذلك وقالوا إن هذا شرف لا يضاهى ، والسقاية في الأصل هي المحل الذي يجعل فيه الشراب في الموسم ، كانوا ينبذون الزبيب في ماء زمزم ويسقونه الناس أيام الحج ، وكان الفاعل لذلك العباس في الجاهلية ، واستمرت معه السقاية في الإسلام ، فهي لآل العباس أبدا. قوله : (أي أهل ذلك) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف ، والتقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج إلخ ، وقد دفع بذلك ما يقال : كيف يشبه المعنى ، وهو السقاية بالذات ، وهو من آمن. قوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) (في الفضل) أي الأخروي ، لأن فضل أهل السقاية والعمارة دنيوي. قوله : (أو غيره) أو بمعنى الواو ، لأن أهل مكة كانوا يفتخرون بذلك ، ويزعمون أن هذا فخر لا يضاهى.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) أي اتصفوا بالإيمان ، وما عطف عليه وهو الهجرة والجهاد. قوله : (من غيرهم) يدخل فيه أهل السقاية والعمارة من الكفار ، فمقتضاه أن لهم درجة لكنها ليست أعظم ، والجواب : أن ذلك إما باعتبار ما يعتقدونه من أن لهم درجة ورتبة ، أو اسم التفضيل باعتبار المؤمنين الذين لم يستكملوا الأوصاف الثلاثة. قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي الكاملون في الفوز ، بالنسبة للمؤمن الذي لم يستكمل الأوصاف الثلاثة ، أو المراد الذي لهم أصل الفوز بالنسبة لأهل السقاية والعمارة.

قوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ) إلخ. ذكر الله سبحانه وتعالى ثلاثة أشياء ، جزاء على الصفات الثلاثة ، فالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقف الرحمة عليه ، والرضوان في مقابلة الجهاد ، لأنه بذل الأموال والأنفس في مرضاة الله ، والرضوان نهاية الإحسان ، فكان في مقابلته ، والجنة في مقابلة الهجرة ، لأن الهجرة ترك الأوطان ، فبدلوا وطنا في الآخرة أعلى وأجل مما تركوه ، وإنما قدمت الرحمة والرضوان ، إشارة إلى أنهما يكونان في الدنيا والاخرة ، وأخرت الجنة إشارة إلى أنها مختصة بالآخرة ، ولأنها آخر العطايا. قوله : (حال مقدرة) أي لأنهم حين الدخول ليسوا خالدين ، وإنما هم منتظرون. قوله : (ونزل فيمن ترك الهجرة) قال ابن عباس : لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة ، فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون : ننشدكم بالله أن لا تضيعنا ، فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قوله : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) نزلت لما قال الذين أسلموا ولم يهاجروا ، نحن إن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا ، وتخربت ديارنا ، وتقطعت أرحامنا ، ويؤخذ من ذلك ، أنه إذا تعارض أمر من أمور

٣٧

يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أقرباؤكم وفي قراءة عشيراتكم (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) عدم نفاقها (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) تهديد لهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤) (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ) للحرب (كَثِيرَةٍ) كبدر وقريظة والنضير (وَ) اذكر (يَوْمَ حُنَيْنٍ) واد بين مكة والطائف أي يوم قتالكم فيه هوازن وذلك في شوال سنة ثمان (إِذْ) بدل من يوم (أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) فقلتم لن نغلب اليوم من قلة وكانوا اثني عشر ألفا والكفار أربعة آلاف (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) ما مصدرية أي

____________________________________

الدين ، مع مصالح الدنيا ، يقدم أمر الدين ، ولو لزم عليه تعطيل أمر الدنيا. قوله : (وَإِخْوانُكُمْ) أي حواشيكم ، والمراد هنا إخوان النسب ، وإن شاع جمع أخ النسب على إخوة ، وأخ الدين على إخوان. قوله : (أقرباؤكم) وقيل هم من بينك وبينهم معاشرة مطلقا ولو غير قريب ، فهو عطف عام على ما قبله على كل حال. قوله : (وفي قراءة عشيراتكم) أي وهي سبعية ، وقرأ الحسن عشائركم. قوله : (تَرْضَوْنَها) أي ترضون الإقامة فيها. قوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) خبر كان ، واسمها (آباؤُكُمْ) وما عطف عليه. قوله : (فقعدتم لأجله) قدره ليرتب عليه قوله : (فَتَرَبَّصُوا) وجملة (فَتَرَبَّصُوا) جواب الشرط.

قوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) قال ابن عباس هو فتح مكة. إذا علمت ذلك ، تعلم أن هذا مشكل مع ما تقدم ، ومع ما يا أتي من أن السورة نزلت بعد الفتح ، إلا أن يقال إن بعض السورة نزل قبل الفتح ، بحسب الوقائع والسورة بتمامها نزلت بعد الفتح ، ولا غرابة في ذلك فتدبر. قوله : (تهديد لهم) أي تخويف. قوله : (الْفاسِقِينَ) عبر عنهم أولا بالظالمين. إشارة إلى أن الكفار موصوفون بكل وصف قبيح. قوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) الخطاب للنبي وأصحابه ، بتعداد النعم عليهم. قوله : (فِي مَواطِنَ) جمع موطن كمواعد وموعد ، ويرادفه الوطن وهو محل السكنى. قوله : (فِي مَواطِنَ) جمع موطن كمواعد وموعد ، ويرادفه الوطن وهو محل السكنى. قوله : (وقريظة والنضير) الكلام على حذف مضاف ، أي وموطن قريظة وموطن النضير.

قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله : (اذكر) وقيل معطوف على (مَواطِنَ) من عطف ظرف الزمان على ظرف المكان ، ورد بأنه يقتضي أن قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) يرجع لقوله : (مَواطِنَ) أيضا لأنه بدل من يوم حنين ، ولا يصح ذلك ، لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، بل في خصوص حنين ، فتعين ما قدره المفسر. قوله : (واد بني مكة والطائف) أي وبينهما ثمانية عشر ميلا ، وفي بعض العبارات ثلاث ليال. قوله (هوازن) أي وهم قبيلة حليمة السعدية. قوله : (سنة ثمان) أي من الهجرة ، وهي سنة فتح مكة ، لأن مكة فتحت في رمضان ، وغزوة هوازن في شوال عقبه. قوله : (من قلة) أي من عدد قليل. قوله : (وكانوا اثني عشر ألفا) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وألفان من الذين أسلموا في مكة بعد فتحها. قوله : (والكفار أربعة آلاف) الذي في شرح المواهب أنهم أكثر من عشرين ألفا.

قوله : (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي لم تنفعكم ولم تدفع عنكم شيئا. قوله : (أي مع رحبها) أشار

٣٨

مع رحبها أي سعتها فلم تجدوا مكانا تطمئنون إليه لشدة ما لحقكم من الخوف (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥) منهزمين وثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء وليس معه غير العباس وأبو سفيان آخذ بركابه (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) طمأنينته (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فردوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ناداهم العباس بإذنه وقاتلوا (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) ملائكة (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢٦) (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) منهم بالإسلام (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قذر لخبث باطنهم (فَلا

____________________________________

بذلك إلى أن الباء بمعنى مع ، والجملة حال أي متلبسة برحبها ، والرحب بالضم السعة ، وبالفتح الواسع. قوله : (وليس معه غير العباس) أي وقد كان آخذا بلجام بغلته. قوله : (وأبو سفيان) أي ابن الحرث بن عبد المطلب. وقد أسلم هو والعباس يوم الفتح ، وفي بعض السير : أن الذين ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حنين مائة وثلاثة وثلاثون من المهاجرين ، وستة وستون من الأنصار ، ويجمع بين ما قاله المفسر وغيره بأنه لم يبق متصلا بالبغلة إلا اثنان ، والباقون مشتغلون بالحرب لم يفروا. قوله : (فردوا) أي رجعوا جميعا كالفصيل الضال عن أمه إذا وجدها. قوله : (لما ناداهم العباس) أي وكان صيتا يسمع صوته من نحو ثمانية أميال.

قوله : (لَمْ تَرَوْها) قيل كانوا خمسة آلاف ، وقيل ستة عشر الفا ولم يقاتلوا ، بل نزلوا لتقوية قلوب المسلمين ، وروي عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ، لم يقوموا لنا حلب شاة ، فما القيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا ، قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا ، وروي أن الملائكة الذين نزلوا يوم حنين ، عليهم عمائم حمر ، راكبين خيلا بلقا. قوله : (بالقتل) أي لبعضهم وهم أكثر من سبعين. قوله : (والأسر) أي للنساء والذراري وكانوا ستة الآف ، ولم تقع غنيمة أعظم منها ، فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر الفا ، وقيل أربعة وعشرون ألفا ، ومن الغنم ما لا يحصى ، وكان فيها غير ذلك ، ولما هزمهم قصد إلى الطائف ، وأمر بجعل الغنائم في الجعرانة حتى يأتي إليهم ، فلما رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف ، انتظر هوازن بضعة عشر يوما ، ليقدموا عليه مسلمين ، ثم أخذ في قسمة الغنائم ، وكان في السبي اخت رسول الله من الرضاع ، وهي بنت حليمة السعدية ، فأطلقها رسول الله واكرمها وردها لقومها ، فأخبرتهم بما وقع لها من رسول الله من الإكرام ، فكان ذلك باعثا على إسلامهم ، أتى منهم جماعة وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرهم ، فاردد علينا أموالنا وأهلينا ، فقال لهم : أن خير القول أصدقه ، اختاروا إما أموالكم ، وإما ذراريكم ونساءكم ، قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا ، فقال لهم : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وأما ما كان لغيرهم فسأطلب فيه معروفهم ، ثم قال لهم : إذا أنا صليت فتقدموا إلي وأخبروني بذلك ، ففعلوا كما أمروا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من طابت نفسه بشيء أن يرده فليفعل ، فقالوا : رضينا بذلك وسلموه الأموال والأسارى.

قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) القراءة السبعية بفتحتين ، وفيه لغات أخر ككتف وعضد ، والمعنى

٣٩

يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) أي لا يدخلوا الحرم (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) عام تسع من الهجرة (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) فقرا بانقطاع تجارتهم عنكم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) وقد أغناهم بالفتوح والجزية (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨) (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وإلا لآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) كالخمر (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) الثابت الناسخ

____________________________________

انهم نجس نجاسة معنوية لا حسية ، وقال ابن عباس : اعيانهم نجس كالكلاب والخنازير ، وقال الحسن : من صافح مشركا توضأ ، وأهل المذهب على خلاف ذلك ، فإنهم طاهرون لأنهم داخلون في آية (ولقد كرمنا بني آدم). قوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) إلخ ، قال العلماء : جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام ، احدها : الحرم فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال ، وجوز أبو حنيفة دخول المعاهد ، الثاني : الحجاز فلا يجوز للكافر دخوله إلا بإذن ، ولا يقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام ، لما في الحديث : «لا يبقين دينان في جزيرة العرب وحدها طولا من أقصى عدن إلى ريف العراق ، وعرضا من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام» الثالث : سائر بلاد الإسلام ، يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان ، لكن لا يدخل المساجد إلا لغرض شرعي. قوله : (عام تسع) أي وهو عام نزول جملة السورة على الصحيح ، وما يوهم خلاف ذلك يجب تأويله.

قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) إلخ ، سبب نزولها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر عليا أن يقرأ على المشركين أول براءة ، خاف أهل مكة الفقر وضيق العيش ، لامتناع المشركين من دخول الحرم واتجارهم فيه ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. قوله : (فقرا) في المصباح معيلة بالفتح الفقر ، وهي مصدر عال يعيل ، من باب سار ، فهو عائل ، والجمع عالة ، وفي المختار : وعيال الرجل من يعولهم ، وواحد العيال ، عيل كجيد ، والجمع عيائل كجيائد ، وأعال الرجل كثرت عياله. قوله : (وقد أغناهم بالفتوح) أي فأسلم أهل صنعاء وجدة وتبالة بفتح التاء ، وجرش بضم الجيم وفتح الراء بعدها شين معجمة ، قريتان من قرى اليمن وجلبوا إليهم الميرة ، وصاروا في أرغد عيش.

قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إلخ ، شروع في ذكر قتال أهل الكتابين ، أثر بيان قتال مشركي العرب ، وهذه الآية نزلت حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال الروم ، فلما نزلت توجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغزوة تبوك. قوله : (وإلا لآمنوا بالنبي) جواب عما يقال : إن ظاهر الآية يقتضي نفي إيمانهم بالله واليوم الآخر ، مع أنهم يزعمون الإيمان بالله واليوم الآخر ، وفي كلام المفسر إشارة بالقياس استثنائي وتقريره أن يقال : لو آمن اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر ، لآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكنهم لم يؤمنوا بالنبي ، فلم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر ، وأيضا دعواهم الإيمان بالله باطلة ، لأنهم يعتقدون التجسيم والتشبيه ، ولا شك في كونه كفرا ، وكذلك دعواهم الإيمان باليوم الآخر باطلة ، لأنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ، فتحصل أن كفرهم بهذه الأمور ، وتكذيبهم النبي ، ومن كذب نبيا ، فقد كفر بالله واليوم الآخر ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) قوله : (كالخمر) أي والخنزير والربا وكل محرم في شرعنا ، فإنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، ويعذبون عليها زيادة على عذاب الكفر.

٤٠