حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المؤمنون

مكيّة

وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ) للتحقيق (أَفْلَحَ) فاز (الْمُؤْمِنُونَ) (١) (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) متواضعون (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) من الكلام وغيره (مُعْرِضُونَ) (٣)

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون مكية

وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية

(سورة) مبتدأ ، و (المؤمنون) مضاف إليه مجرور بباء مقدرة ، منع من ظهورها اشتغال المحل بواو الحكاية ، و (مكية) خبر وظاهره أن جميعها مكي ، وقيل إلا ثلاث آيات وهي قوله : (ولو رحمناهم) إلى آخرها ، فإنهن مدنيات. قوله : (وثمان) هذا قول الكوفيين ، وقوله : (أو تسع عشرة آية) هو قول البصريين ، وسبب هذا اختلافهم في قوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هل هو آية كما قاله البصريون ، أو بعض آية كما قاله الكوفيون؟ قوله : (قَدْ) (للتحقيق) أي لتحقيق ما يحصل في المستقبل ، وتنزيله منزلة الواقع. قوله : (فاز) (الْمُؤْمِنُونَ) أي ظفروا بمقصودهم ، ونجوا من كل مكروه ، قال تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) و (الْمُؤْمِنُونَ) جمع مؤمن وهو المصدق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، حلوه ومره. قوله : (خاشِعُونَ) أي ظاهرا وباطنا فالخشوع الظاهري التمسك بآداب الصلاة ، كعدم الالتفات والعبث وسبق الإمام ووضع اليد في الخاصرة وغير ذلك ، والخشوع الباطني استحضار عظمة الله ، وعدم التفكر بدنيوي. وقدم الصلاة ، لأنها أعظم أركان الدين بعد الشهادتين.

٣

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) مؤدون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (٥) عن الحرام (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي من زوجاتهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي السراري (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٦) في إتيانهن (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) من الزوجات والسراري كالاستمناء باليد في إتيانهن (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٧) المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) جمعا ومفردا (وَعَهْدِهِمْ) فيما بينهم أو فيما بينهم وبين الله من صلاة وغيرها (راعُونَ) (٨) حافظون (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) جمعا ومفردا (يُحافِظُونَ) (٩) يقيمونها في أوقاتها (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (١٠) لا غير هم (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) هو جنة أعلى الجنان (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١) في ذلك إشارة إلى المعاد

____________________________________

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) المراد به كل ما لا يعود على الشخص منه فائدة في الدين أو الدنيا ، كان قولا أو فعلا أو مكروها أو مباحا ، كالهزل واللعب وضياع الأوقات فيما لا يغني ، والتغول في الشهوات وغير ذلك مما نهى الله عنه ، وبالجملة فينبغي للإنسان أن يرى ساعيا في حسنة لمعاده ، أو درهم لمعاشه ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ) اعلم أن الزكاة تطلق على القدر المخرج ، كربع العشر من النقدين ، والعشر أو نصفه من الحرث ، والشاة من الأربعين ، وعلى المصدر الذي هو فعل الفاعل ، فعلى الأول يكون معنى فاعلون مؤدون ، لأن القدر المخرج لا معنى لفعله ، وعلى الثاني ففاعلون على بابه.

قوله : (حافِظُونَ) أي مانعون. قوله : (عن الحرام) أي عن كل ما لا يحل وطؤه بوجه من الوجوه. قوله : (أي من زوجاتهم) أشار بذلك إلى أن على بمعنى من. قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) عبر بما دون من إن كان المقام له ، لأن الإناث ناقصات ، ولا سيما الأرقاء ففيهن شبه بالبهائم ، في حل البيع والشراء. قوله : (أي السراري) جمع سرية بالضم ، وهي في الأصل الأمة التي بوئت ببيت ، مأخوذة من السر ، وهو الجماع أو الإخفاء ، لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرته ، أو من السرور لأن مالكها يسر بها. قوله : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) علة للاستثناء. قوله : (كالاستمناء باليد) أي فهو حرام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وقال أحمد بن حنبل : يجوز بشروط ثلاثة : أن يخاف الزنا ، وألا يجد مهر حرة أو ثمن أمة ، وأن يفعله بيده ، لا بيد أجنبي أو أجنبية. قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أي ما ائتمنوا عليه من حقوق الخالق ، كالصلاة والصوم والحج وفعل المعروف والنهي عن المنكر وحقوق الخلق ، كالودائع والصنائع وأعراض الخلق وعوراتهم. قوله : (جمعا ومفردا) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وَعَهْدِهِمْ) مرادف للأمانات. قوله : (حافِظُونَ) أي غير مضيعين لها. قوله : (يُحافِظُونَ) أي يحامون عليها بشروطها وأركانها وآدابها ، ولكون الصلاة عماد الدين ، وأعظم أركانه ابتدأ بها أوصاف المؤمنين وختمها بها. قوله : (لا غيرهم) أخذ الحصر من وجود ضمير الفصل ، لأن الجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر ، وهو إضافي لا حقيقي ، لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والعصاة الذين ماتوا على الإيمان بعد العفو ، لقوله تعالى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أو يقال : إن الحصر فيهم حقيقي بالنسبة للفردوس وباقي الجنان لمن لم يمت كافرا.

قوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) عبر بالإرث دون الاستحقاق ، لأن الإرث ملك دائم. قوله :

٤

ويناسبه ذكر المبدإ بعده (وَ) الله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) آدم (مِنْ سُلالَةٍ) هي من سللت الشيء من الشيء أي استخرجته منه وهو خلاصته (مِنْ طِينٍ) (١٢) متعلق بسلالة (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي الإنسان نسل آدم (نُطْفَةً) منيا (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١٣) هو الرحم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) دما جامدا (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) لحما قدر ما يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) وفي قراءة عظما في الموضعين وخلقنا في المواضع الثلاث بمعنى صيرنا (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) بنفخ الروح فيه (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) أي المقدرين ، ومميز أحسن محذوف للعلم به أي

____________________________________

(ويناسبه ذكر المبدإ بعده) أشار بذلك إلى وجه المناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، والمعنى أن الآية التي سبقت ، ذكر فيها المعاد وما يؤول إليه أمر من اتصف بتلك الصفات ، وهذه الآية ذكر فيها بيان المبدإ ، وحينئذ فبين الآيتين مناسبة ، وهذا أتم مما قيل ، إن هذه الآية جملة مستأنفة لا ارتباط لها بما قبلها.

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) الخ ، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من هنا إلى قوله : (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أربعة أنواع من دلائل قدرته تعالى ، الأول : تقلب الانسان في أطوار خلقته وهي تسعة آخرها قوله : (تبعثون) الثاني : خلق السماوات. الثالث : إنزال الماء. الرابع : منافع الحيوانات. وذكر منها أربعة أنواع ، واللام موطئة لقسم محذوف قدره المفسر بقوله : (والله). قوله : (مِنْ سُلالَةٍ) متعلق بخلقنا. قوله : (متعلق بسلالة) أي لأنه بمعنى مسلول. قوله : (أي الإنسان نسل آدم) أشار بذلك إلى أن الضمير يعود على الانسان ، لكن لا بالمعنى الأول ، وحينئذ ففي الكلام استخدام ، ويؤيده قوله تعالى في الآية الأخرى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ). قوله : (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي في مقر متمكن. وصف بذلك لأنه محفوظ ، لا يطرأ عليه اختلال مع كونه ضيقا.

قوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) قيل كلها ، وقيل جزء منها ، والباقي يوضع نصفه في موضع تربته ، والنصف الثاني يوضع في السماء ، فإذا أراد الله إحياء الخلق من القبور ، أمطرت السماء منيا ، فتتلاقى النطف النازلة من السماء ، بالنطف الباقية في الأرض ، فتوجد الخلائق بينهما ، وهذا هو حكمة قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). قوله : (وفي قراءة عظما) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي من غير توان ، والمعنى حولنا النطفة عن صفاتها ، إلى صفة لا يحيط بها وصف الواصفين. قوله : (بنفخ الروح فيه) هذا قول ابن عباس والشعبي والضحاك ، وقيل الخلق الآخر هو خروجه إلى الدنيا ، وقيل خروج أسنانه وشعره ، وقيل كمال شبابه ، والأتم أنه عام في هذا وغيره من النطق والادراك وتحصيل المعقولات ، وجميع الأمور التي اشتمل عليها بنو آدم ، من الكمالات الحسية : والمعنوية التي يشير لها قول بعض العارفين.

وتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ) أي تعاظم وارتفع قدره. قوله : (المقدرين) أي المصورين ، ودفع بذلك ما يقال : إن اسم التفضيل يقتضي المشاركة ، مع أنه لا خالق غيره. فأجاب : بأن المراد بالخلق التقدير لا

٥

خلقا (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) (١٥) (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦) للحساب والجزاء (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي سبع سماوات جمع طريقة لأنها طرق الملائكة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) تحتها (غافِلِينَ) (١٧) أن تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية (ويمسك السماء أن تقع على الأرض) (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) من كفايتهم (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (١٨) فيموتون مع دوابهم عطشا (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) هما أكثر فواكه العرب (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (١٩) صيفا وشتاء (وَ) أنشأنا (شَجَرَةً تَخْرُجُ

____________________________________

الإيجاد والإبداع ، والتقدير حاصل من الحوادث. قوله : (للعلم به) أي من قوله الخالقين فإنه يدل عليه. قوله : (بَعْدَ ذلِكَ) أي من الأمور العجيبة. قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي عند النفخة الثانية. إن قلت : ما حكمة اختلاف المتعاطفات بثم والفاء ، لأنه ورد أن مدة كل طور أربعون يوما ، فإن نظر لآخر المدة وأولها ، اقتضى أن يعطف بثم ، وإن نظر لآخرها ، اقتضى أن يعطف بالفاء؟ أجيب : بأنه نزل التفاوت بين الأطوار منزلة التراخي والبعد الحسي ، لأن حصول النطفة من التراب غريب جدا ، وكذا جعلها دما ، بخلاف جعل الدم لحما ، فهو قريب لمشابهته في اللون أو الصورة ، وكذا جعلها عظاما ، وأما جعلها خلقا آخر فغريب ، وكذا الموت والبعث ، فظهر حكمة التعبير في كل موضع بما يناسبه.

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) المراد به جهة العلو ، لأن كونها فوق ، وإنما هو بعد خلق الخلق ، وإلا فوقت خلق السماوات لم يكونوا مخلوقين. قوله : (لأنها طرق الملائكة) أي في العروج والهبوط والطيران ، وقيل معنى طرائق مطروقات ، أي موضوعا بعضها فوق بعض ، فهو معنى طباقا في الآية الأخرى. قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) الجار والمجرور متعلق بأنزلنا. قوله : (بِقَدَرٍ) أي تقدير بجلب منافعهم ودفع مضارهم ، وقيل المعنى بقدر حاجاتهم ، واليه يشير المفسر.

قوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلناه ساكنا ثابتا مستقرا في الأرض ، بعضه على ظهرها ، وبعضه في بطنها. قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) الباء في (بِهِ) للتعدية ، والمعنى وإنا لقادرون على إذهابه. روى الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن الله عزوجل ، أنزل من الجنة خمسة أنهار : سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ، أنزلها الله عزوجل من عين واحدة من عيون الجنة ، من أسفل درجة من درجاتها ، على جناحي جبريل ، استودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قول تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، أرسل الله عزوجل جبريل ، فرفع من الأرض القرآن والعلم كله ، والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم ، وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء ، فذلك قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض ، فقد أهلها خير الدنيا والدين. قوله : (لَكُمْ فِيها) أي الجنات. قوله : (وَمِنْها) أي من ثمر الجنات ، كالرطب والعنب والتمر والزبيب وغير ذلك.

٦

مِنْ طُورِ سَيْناءَ) جبل بكسر السين وفتحها ومنع الصرف للعلمية والتأنيث للبقعة (تَنْبُتُ) من الرباعي والثلاثي (بِالدُّهْنِ) الباء زائدة على الأول ومعدية على الثاني وهي شجرة الزيتون (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٠) عطف على الدهن أي إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه وهو الزيت (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) أي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) عظة تعتبرون بها (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون وضمها (مِمَّا فِي بُطُونِها) أي اللبن (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من الأصواف والأوبار والأشعار وغير ذلك (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٢١) (عَلَيْها) أي الإبل (وَعَلَى الْفُلْكِ) أي السفن (تُحْمَلُونَ) (٢٢) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أطيعوه ووحدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)

____________________________________

قوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) المراد بها شجرة الزيتون ، وخصت بسيناء لأن أصلها منه ثم نقلت ، وهي أول شجرة نبتت في الأرض بعد الطوفان ، وتبقى في الأرض كثيرا ، حتى قيل إنها تعمر ثلاثة آلاف سنة. قوله : (سَيْناءَ) قيل معناه المبارك أو الحسن الملتف بالأشجار ، وهو الجبل الذي نودي عليه موسى. قوله : (منع الصرف للعلمية والتأنيث) أي وقيل للعلمية والعجمة ، لأنه اسم أعجمي نطقت به العرب ، فاختلفت فيه لغاتهم ، فقالوا سيناء بكسر السين وفتحها ، وسينين ، فهو علم مركب كامرىء القيس ومنع من الصرف ، وإن كان جزء علم ، نظرا إلى أنه عومل معاملة العلم. قوله : (والتأنيث للبقعة) أي والهمزة فيه ليست للتأنيث بل للإلحاق بقرطاس ، وهي منقلبة عن ياء أو واو ، لوقوعها متطرفة بعد ألف زائدة. قوله : (من الرباعي والثلاثي) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) عبر في جانب الأنعام بالعبرة دون النبات ، لأن العبرة فيها أظهر. قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِها) عبر بلفظ الجمع هنا ، لأن المراد هنا العموم بدليل العطف بقوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) الخ ، وذكر الضمير في النحل باعتبار البعض ، فإن المراد خصوص الإناث ، بدليل الاقتصار على اللبن. قوله : (أي الابل) خصها لأنها المحمول عليها غالبا ، ويصح عوده على الأنعام ، لأن منها ما يحمل عليه أيضا كالبقر.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) شروع في ذكر خمس قصص غير قصة خلق آدم ، فتكون ستا : الأولى قصة نوح ، الثانية قصة هود ، الثالثة قصة القرون الآخرين ، الرابعة قصة موسى وهارون ، الخامسة قصة عيسى وأمه ، والمقصود منه اطلاع الأمة المحمدية على أحوال من مضى ، ليقتدوا بهم في الخصال ، ويتباعدوا عن خصالهم المذمومة ، ونوح لقبه واسمه قيل عبد الغفار ، وقيل عبد الله ، وقيل يشكر ، وعاش من العمر ألف سنة وخمسين ، لأنه أرسل على رأس الأربعين ، ومكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، وهذا أحد أقوال تقدمت. قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بمنزلة التعليل لما قبله. قوله : (وهو اسم ما) أي قوله : (إِلهٍ) ، وأما لفظ (غَيْرُهُ) فيصح فيه الرفع اتباعا لمحل إله ، والجر اتباعا للفظه قراءتان. قوله : (وما قبله الخبر) أي وهو الجار والمجرور ، وما مشى عليه المفسر ، طريقة ضعيفة للنحاة ، وهي جواز إعمال ما عند مخالفة الترتيب بين خبرها واسمها ، إذا كان الخبر ظرفا ، أو جارا ومجرورا ، والمشهور إهمالها حينئذ ، فكان المناسب أن يقول : وهو مبتدأ مؤخر وما قبله

٧

وهو اسم ما وما قبله الخبر ومن زائدة (أَفَلا تَتَّقُونَ) (٢٣) تخافون عقوبته بعبادتكم غيره (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) لأتباعهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ) يتشرف (عَلَيْكُمْ) بان يكون متبوعا وأنتم أتباعه (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن لا يعبد غيره (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) بذلك لا بشرا (ما سَمِعْنا بِهذا) الذي دعا إليه نوح من التوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٢٤) أي الأمم الماضية (إِنْ هُوَ) أي ما نوح (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) حالة جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروه (حَتَّى حِينٍ) (٢٥) إلى زمن موته (قالَ) نوح (رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم (بِما كَذَّبُونِ) (٢٦) أي بسبب تكذيبهم إياي بأن تهلكهم قال تعالى مجيبا دعاءه (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) السفينة (بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا وحفظنا (وَوَحْيِنا) أمرنا (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (وَفارَ التَّنُّورُ) للخباز بالماء وكان ذلك

____________________________________

الخبر. قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير أجهلتم فلا تتقون. قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ) أي الأشراف. وحاصل ما ذكروه خمس مقالات : الأولى (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). الثانية : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً). الثالثة : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). الرابعة : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ). الخامسة : (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ). ولكونها ظاهرة الفساد ، لم يتعرض لردها. قوله : (بأن يكون متبوعا) أي بادعاء الرسالة. قوله : (أن لا يعبد غيره) أشار بذلك إلى أن مفعول المشيئة محذوف. قوله : (بذلك) أي بأن لا يعبد غيره. قوله : (إلا بشرا) أي لأن الملائكة لشدة سطوتهم وعلو شأنهم ، ينقاد الخلق اليهم من غير شك ، فلما لم يفعل ذلك ، علمنا أنه ما أرسل رسولا. قوله : (حالة جنون) أي ففعلة بالكسر للهيئة. قال ابن مالك : وفعلة لهيئة كجلسة. قوله : (إلى زمن موته) أي فكانوا يقولون لبعضهم : اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا ، فالله ينصره ويقوي أمره ، وإن كان كاذبا ، فالله يخذله ويبطل أمره فنستريح منه ، أو المراد بالحين ، الزمان الذي تظهر فيه العواقب ، فالمعنى انتظروا عاقبة أمره ، فإن أفاق وإلا فاقتلوه.

قوله : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) أي قال ذلك بعد أن أيس من إيمانهم. قوله : (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أَنِ) مفسرة لوقوعها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله : (بِأَعْيُنِنا) حال من الضمير في اصنع ، وجمع الأعين للمبالغة. قوله : (بمر أى منا وحفظنا) أشار بذلك إلى أن في الآية مجازا مرسلا ، لأن شأن من نظر إلى الشيء بعينه حفظه ، فأطلق اللازم وأريد الملزوم. قوله : (وَوَحْيِنا) أي تعليمنا ، فإن الله أرسل إليه جبريل ، فعلمه صنعتها وصنعها في عامين وجعل طولها ثمانين ذراعا ، وعرضها خمسين ، وارتفاعها ثلاثين ، والذراع إلى المنكب ، وهذا أشهر الروايات ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدم في هود ، وجعلها ثلاث طباق السفلى للسباع والهوام ، والوسطى للدواب والأنعام ، والعليا للإنس. قوله : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي ابتداء ظهوره. قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) عطف بيان لمجيء الأمر. روي أنه قيل لنوح عليه‌السلام : إذا فار الماء من التنور ، فاركب أنت ومن معك ، وكان تنور آدم عليه‌السلام من حجر تخبز فيه حواء ، فصار إلى نوح ، فلما نبع منه الماء ، أخبرته امرأته فركبوا ، واختلف في مكانه ،

٨

علامة لنوح (فَاسْلُكْ فِيها) أي أدخل في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي ذكر وأنثى من كل أنواعهما (اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى وهو مفعول ومن متعلقة باسلك ، وفي القصة أن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما فجعل يضرب بيديه في كل نوع فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة وفي قراءة كل بالتنوين فزوجين مفعول واثنين تأكيد له (وَأَهْلَكَ) أي زوجته وأولاده (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) بالإهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث فحملهم وزوجاتهم ثلاثة ، وفي سورة هود (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) قيل كانوا ستة رجال ونساءهم ، وقيل جميع من كانوا في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا بترك إهلاكهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢٧) (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) اعتدلت (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٨) الكافرين وإهلاكهم (وَقُلْ) عند نزولك من الفلك (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان النزول (مُبارَكاً) ذلك الإنزال أو المكان (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢٩) ما ذكر (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار (لَآياتٍ) دلالات على قدرة الله تعالى (وَإِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن (كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠) مختبرين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ

____________________________________

فقيل كان بمسجد الكوفة ، على يمين الداخل مما يلي باب كندة اليوم ، وقيل كان في عين وردة من الشام. قوله : (علامة لنوح) أي على ركوب السفينة.

قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي غير البشر ، لما يأتي أنه أدخل فيها من البشر سبعين أو ثمانين. قوله : (وغيرهما) أي من كل ما يلد أو يبيض ، بخلاف ما يتولد من العفونات كالدود والبق ، فلم يحمله فيها. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بالتنوين) أي فحذف ما أضيف إليه كل ، وعوض عن التنوين. قوله : (أي زوجته) أي المؤمنة لأنه كان له زوجتان ، إحداهما مؤمنة فأخذها معه في السفينة ، والأخرى كافرة تركها ، وهي أم ولده كنعان. قوله : (وهو زوجته) أي الكافرة. قوله : (بخلاف سام) أي وهو أبو العرب ، وحام هو أبو السودان ، ويافث هو أبو الترك. قوله : (ستة رجال) أي فالجملة اثنا عشر. قوله : (بترك إهلاكهم) متعلق بتخاطبني. قوله : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي محكوم عليهم بالغرق. قوله : (وإهلاكهم) أي ونجانا من إهلاكهم.

قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً) الخ ، العبرة بعموم اللفظ ، فهذا الدعاء ينبغي قراءته لكل من نزل في محل يريد الاقامة فيه. قوله : (عند نزولك من الفلك) أي حين استوت على الجودي ، وكان يوم عاشوراء ، وابتداء ركوبه السفينة ، كان لعشر خلون من رجب ، فكان مكثهم في السفينة ستة أشهر. قوله : (بضم الميم) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وظاهره أن الوجهين على قراءة ضم الميم وليس كذلك ، بل كل من الوجهين يتأتى على كل من القراءتين. قوله : (مُبارَكاً) (ذلك الانزال) تفسير للضمير في مباركا ،

٩

بَعْدِهِمْ قَرْناً) قوما (آخَرِينَ) (٣١) هم عاد (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هودا (أَنِ) أي بأن (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣٢) عقابه فتؤمنون (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بالمصير إليها (وَأَتْرَفْناهُمْ) نعمناهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (٣٣) (وَ) الله (لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيه قسم وشرط ، والجواب لأوّلهما وهو مغن عن جواب الثاني (إِنَّكُمْ إِذاً) أي إذا أطعتموه (لَخاسِرُونَ) (٣٤) أي مغبونون (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ

____________________________________

والوجهان لكل من الضم والفتح. قوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ إِنَ) مخففة واللام فارقة ، والمعنى وإننا كنا معاملين قوم نوح معاملة المختبر لننظر ، هل يتبعونه ويتعظون بوعظه.

قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد قوم نوح. قوله : (قَرْناً) أي قوما سموا بذلك ، لأن بعضهم مقترن ببعض في الزمان. قوله : (هم عاد) اسم قبيلة أرسل اليها هود ، وما ذكره المفسر من أن المراد بالقرن عاد ، وبالرسول هود ، هو ما عليه أكثر المفسرين ، ويشهد له مجيء قصة هود ، عقب قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء. وخير ما فسرته بالوارد. ولا يشكل على هذا قوله في آخر القصة (فأخذتهم الصيحة) الموهم أن القرن ثمود ، وأن الرسول صالح ، لأنه يقال : المراد بالصيحة صيحة الريح أو شدة صوته.

قوله : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) أي في القرن ، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ، ليدل على أنه لم يأت من مكان غير مكانهم. قوله : (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من جنسهم وقبيلتهم ، لأن هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وهم ينسبون لعاد ، وتقدم ذلك في هود. قوله : (بأن) (اعْبُدُوا) أشار بذلك إلى أن (أَنِ) مصدرية ويصح جعلها تفسيرية لمجيئها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه لأن أرسلنا بمعنى قلنا.

قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ) عطف على ما قبله ، وأتى بالواو إشارة إلى تباين الكلامين ، بخلاف ما في الأعراف وهود ، فإنه في جواب سؤال مقدر ، ولذا تركت الواو. قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) وصف مخصص ، لأن قومه بعضهم آمن وبعضهم كفر. قوله : (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أعطيناهم ملكا عظيما ، قال تعالى مذكرا لهم بهذه النعم على لسان نبيهم (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) قوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هذه شبهة أولى تنتهي لقوله : (لَخاسِرُونَ) والثانية إنكارهم البعث وتنتهي لقوله :

(بِمَبْعُوثِينَ) وأهمل الجواب عنهما لفسادهما وركاكتهما. قوله : (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي منه ، فحذف العائد لاستكمال الشروط التي أشار إليها ابن مالك بقوله :

كذا الذي جر بما الموصول جر

كمر بالذي مررت فهو بر

قوله : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ) اللام موطئة لقسم محذوف قدره المفسر بقوله : (والله). قوله : (والجواب لأولهما) أي على القاعدة التي ذكرها ابن مالك بقوله :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

ولا يصلح أن يكون جوابا للشرط لعدم وجود الفاء. قوله : (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) الخ ، الكاف اسم

١٠

وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٣٥) هو خبر إنكم الأولى ، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي بعد بعد (لِما تُوعَدُونَ) (٣٦) من الإخراج من القبور ، واللام زائدة للبيان (إِنْ هِيَ) أي ما الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) بحياة أبنائنا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣٧) (إِنْ هُوَ) أي ما الرسول (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) (٣٨) أي مصدقين في البعث بعد الموت (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٣٩) (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) من الزمان ، وما زائدة (لَيُصْبِحُنَ) ليصيرن (نادِمِينَ) (٤٠) على كفرهم وتكذيبهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صيحة العذاب والهلاك كائنة (بِالْحَقِ) فماتوا (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) وهو نبت يبس ، أي صيرناهم مثله في اليبس (فَبُعْداً) من الرحمة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤١) المكذبين (ثُمَ

____________________________________

أن ، وخاسرون خبرها ، واللام للابتداء زحلقت للخبر ، و (إِذاً) لتأكيد مضمون الشرط ، ولذا قال المفسر (إذا أطعتموه). قوله : (أَيَعِدُكُمْ) استفهام لتقرير ما قبله. قوله : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي من القبور ، أو من العدم إلى الوجود تارة أخرى. قوله : (تأكيد لها) أي تأكيد لفظي. قوله : (اسم فعل ماض) اختلف في اسم الفعل ، فقيل معناه لفظ الفعل ، وعليه فهو مبني على الفتح ، لا محل له من الإعراب ، والثاني توكيد له ، واللام زائدة ، وما اسم موصول فاعله ، و (تُوعَدُونَ) صلته أو اللام للبيان والفاعل مستتر فيه ، والمعنى بعد وقوع خروجنا من القبور ، وقيل معناه المصدر ، وعليه فهو مبتدأ في محل رفع ، والثاني توكيد له ، و (لِما تُوعَدُونَ) متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، فاللام ليست زائدة ، إذا علمت ذلك ، فكلام المفسر رضي الله عنه في غاية الإجمال ، لأن قوله : (اسم فعل ماض) أحد قولين ، وقوله : (بمعنى مصدر) هو القول الثاني. وقوله : (أي بعد بعد) يصح أن يقرأ بلفظ الفعل ، فيكون تفسيرا للفعل الماضي أو بلفظ المصدر ، فيكون تفسيرا للمصدر ، وقوله : (واللام زائدة) ظاهره على كل من القولين ، وليس كذلك ، بل هي زائدة على كون المراد به لفظ الفعل ، والموصول فاعل ، لا على كونها للبيان ، ولا على كونه مصدرا ، وقوله : (للبيان) هذا قول ثان ، فكان المناسب أن يأتي بأو ، وترك التفريع على المصدر ، وتقدم أنها ليست زائدة ، بل متعلقة بمحذوف خبر ، وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ، والمشهور منها ستة عشر وهي (هَيْهاتَ) بفتح التاء وضمها وكسرها ، وفي كل مع التنوين وبدونه ، و (هَيْهاتَ) بإسكان التاء أو إبدالها هاء ساكنة ، وفي كل من الثمان ، إما بالهاء أو لا ، أو إبدالها همزة ، وقرىء بالجميع ، لكن المتواتر القراءة الأولى ، وهي الفتح من غير تنوين. قوله : (أي ما الحياة) أشار بذلك إلى أن (إِنْ) نافية ، والضمير عائد على الحياة. قوله : (بحياة أبنائنا) جواب عما يقال : إن في قولهم (وَنَحْيا) اعترافا بالبعث ، مع كونهم منكرين له. فأجاب : بأن المراد وتحيا أبناؤنا بعد موتنا.

قوله : (بِما كَذَّبُونِ) أي بسبب تكذيبهم إياي. قوله : (صيحة العذاب والهلاك) جواب عما يقال : إن الصيحة كانت عذاب قوم صالح لا قوم هود. قوله : (كائنة) (بِالْحَقِ) أي العدل فيهم وأشار بذلك إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الصيحة. قوله : (غُثاءً) مفعول ثان لجعلنا. قوله : (وهو نبت يبس) الأوضح أن يقول : وهو العشب إذا يبس. قوله : (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بعدا مصدر

١١

أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً) أقواما (آخَرِينَ) (٤٢) (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) بأن تموت قبله (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٤٣) عنه ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) بالتنوين وعدمه أي متتابعين بين كل اثنين زمان طويل (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية بينها وبين الواو (رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (٤٤) (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٤٥) حجة بينة وهي اليد والعصا وغيرهما من الآيات (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها وبالله (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) (٤٦) قاهرين بني إسرائيل بالظلم (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٤٧) مطيعون خاضعون (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) (٤٨) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة

____________________________________

بدل من لفظ الفعل ، والأصل بعدوا بعدا ، واللام إما متعلقة بمحذوف للبيان أو ببعدا ، وهو إخبار أو دعاء عليهم.

قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد قوم هود ونوح ، وقوله : (قُرُوناً آخَرِينَ) أي كقوم صالح وإبراهيم ولوط وشعيب. قوله : (مِنْ أُمَّةٍ) أي جماعة. قوله : (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يتأخرون عنه ، والمقصود من هذه الآية ، التقريع والتخويف لأهل مكة كأنه قال : لا تفتروا بطول الأمل ، فإن للظالم وقتا يؤخذ فيه ، لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه. قوله : (بعد تأنيثه) أي في قوله : (أَجَلَها) الراجع إلى (أُمَّةً) ، وقوله : (رعاية المعنى) أي لأن أمة بمعنى قوم : (تَتْرا) التاء مبدلة من واو وأصله وترا ، وهو مصدر على التحقيق ، ومعناه المتابعة مع مهلة ، وقيل المتابعة مطلقا ، وإن لم تكن مهلة ، ولكن الآية تفسر بالأول لأنه الواقع. قوله : (التنوين وعدمه) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فمن نون قال : إن ألفه للإلحاق بجعفر كعلقى ، فلما نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين ، ومن لم ينون قال : إن ألفه للتأنيث كدعوى. قوله : (وتسهيل الثانية) الخ أي فينطق بها متوسطة بين الهمزة والواو ، وهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) جمع أحدوثة كأعجوبة وأضحوكة ، ما يتحدث به عجبا وتسليا ، ولا يقال ذلك إلا في الشر ، ولا يقال في الخير. قوله : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) بعدا منصوب بمحذوف ، أي بعدوا عن رحمتنا بعدا لا يزول. قوله : (بِآياتِنا) أي التسع وهي : العصا واليد والسنون المجدبة والطمس والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. قوله : (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) عطف مرادف ، إشارة إلى أن المعجزات كما تسمى بالآيات تسمى بالسلطان أيضا. قوله : (وغيرهما) أي من باقي التسع. قوله : (لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) أفرد مثل ، لأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير ، ولا يؤنث أصلا. قوله : (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) الجملة حالية. قوله : (فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي من جملة من هلك. قوله : (أي قومه بني اسرائيل) أشار بذلك إلى أن الضمير في (لَعَلَّهُمْ) راجع لقوم موسى لا لفرعون وقومه ، لأن التوراة إنما جاءته بعد هلاك فرعون وقومه. (جملة واحدة) إما راجع لقوله : (وأوتيها) أو راجع لهلاك فرعون وقومه. قوله : (لأن الآية فيهما واحدة) أي لأن ولادته من غير أب أمر خارق للعادة ، فيصح نسبته لها وله.

١٢

(لَعَلَّهُمْ) أي قومه بني إسرائيل (يَهْتَدُونَ) (٤٩) به من الضلالة ، وأوتيها بعد هلاك فرعون وقومه جملة واحدة (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) عيسى (وَأُمَّهُ آيَةً) لم يقل آيتين لأن الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) مكان مرتفع وهو بيت المقدس أو دمشق أو فلسطين أقوال (ذاتِ قَرارٍ) أي مستوية يستقر عليها ساكنوها (وَمَعِينٍ) (٥٠) أي ماء جار ظاهر تراه العيون (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) الحلالات (وَاعْمَلُوا صالِحاً) من فرض ونفل (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٥١) فأجازيكم عليه (وَ) اعلموا (إِنَّ هذِهِ) أي ملة الإسلام (أُمَّتُكُمْ) دينكم أيها المخاطبون أي يجب أن تكونوا عليها (أُمَّةً واحِدَةً) حال لازمة ، وفي قراءة بتخفيف النون ، وفي أخرى بكسرها مشددة استئنافا (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٥٢) فاحذرون (فَتَقَطَّعُوا) أي الأتباع (أَمْرَهُمْ) دينهم (بَيْنَهُمْ زُبُراً) حال من فاعل تقطعوا أي أحزابا متخالفين كاليهود والنصارى

____________________________________

قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) سبب ذلك ، أن ملك ذلك الزمان ، كان أراد أن يقتل عيسى ، فهربت به أمه إلى تلك الربوة ومكثت بها اثنتي عشرة سنة ، حتى هلك ذلك الملك. قوله : (وهو بيت المقدس) هو أعلى مكان من الأرض ، لأنه يزيد على غيره في الارتفاع ثمانية عشر ميلا ، فهو أقرب البقاع إلى السماء. قوله : (وَمَعِينٍ) اسم مفعول من عان يعين فهو معين ، وأصله معيون كمبيوع ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وكسرت العين لتصح الياء.

قوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) خطاب لجميع الرسل على وجه الإجمال ، فليس المراد أنهم خوطبوا بذلك دفعة واحدة ، بل المراد خوطب كل رسول في زمانه بذلك ، بأن قيل مثلا لكل رسول : كل من الطيبات واعمل صالحا ، إني بما تعمل عليم ، وحكمة خطاب النبي بها على سبيل الإجمال ، التشنيع على رهبانية النصارى ، حيث يزعمون أن ترك المستلذات مقرب إلى الله ، فرد الله عليهم بأن المدار على أكل الحلال وفعل الطاعات. قوله : (الحلالات) أي مستلذات أم لا.

قوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي شكرا على تلك النعم ، لتزدادوا بها قربا من ربكم. قوله : (فأجازيكم عليه) أي إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فالآية فيها ترغيب وترهيب. قوله : (وَ) (اعلموا) (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) قدر المفسر لفظ (اعلموا) إشارة إلى أن أن بفتح الهمزة معمولة لمحذوف و (هذِهِ) اسمها ، و (أُمَّتُكُمْ) خبرها ، وأمة حال ، وواحدة صفة له. قوله : (دينكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالأمة الدين ، والمراد به العقائد ، لأنها هي التي اتحدت في جميع الشرائع ، وأما الأحكام الفرعية ، فقد اختلفت باختلاف الشرائع. قوله : (وفي قراءة بتخفيف النون) أي والهمزة مفتوحة ، والعامل مقدر كما في المشددة ، واسمها ضمير الشأن ، و (هذِهِ أُمَّتُكُمْ) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر (إِنَ). قوله : (استئنافا) أي فهو إخبار من الله ، بأن جميع الشرائع متفقة الأصول ، والقراءات الثلاث سبعيات. قوله : (فَاتَّقُونِ) أي افعلوا ما أمرتكم به واتركوا ما نهيتكم عنه.

قوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي جعلوا دينهم مفرقا ، فلذلك صاروا فرقا مختلفة ، كاليهود والنصارى

١٣

وغيرهم (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) أي عندهم من الدين (فَرِحُونَ) (٥٣) مسرورون (فَذَرْهُمْ) أي اترك كفار مكة (فِي غَمْرَتِهِمْ) ضلالتهم (حَتَّى حِينٍ) (٥٤) أي حين موتهم (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) نعطيهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) (٥٥) في الدنيا (نُسارِعُ) نعجل (لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) لا (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦) أن ذلك استدراج لهم (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) خوفهم منه (مُشْفِقُونَ) (٥٧) خائفون من عذابه (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) القرآن (يُؤْمِنُونَ) (٥٨) يصدقون (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (٥٩) معه غيره (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ) يعطون (ما آتَوْا) أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة أن لا تقبل منهم (أَنَّهُمْ) يقدر قبله لام الجر (إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٦٠) (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٦١) في علم الله (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها فمن لم يستطع أن يصلي قائما فليصل جالسا ومن لم يستطع أن

____________________________________

والمجوس ، وغير ذلك من الأديان الباطلة. قوله : (زُبُراً) جمع زبور بمعنى فريق. قوله) (فَرِحُونَ) أي لاعتقادهم أنهم على الحق. قوله : (فَذَرْهُمْ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والضمير لكفار مكة ، كما أشار لذلك المفسر ، وهو تسلية له. قوله : (فِي غَمْرَتِهِمْ) مفعول ثان لذرهم ، أي مستقرين فيها ، والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة ، ثم استعير ذلك للجهالة ، والغمر بالضم يقال لمن لم يجرب الأمور ، والغمر بالكسر الحقد. قوله : (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان لما. قوله : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إضراب انتقالي ، أي لا يعلمون أن توسعة الدنيا ليست ناشئة عن الرضا عليهم ، بل استدراج لهم ، قال تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ الَّذِينَ) اسم (إِنَ) ، و (هُمْ) مبتدأ ، و (مُشْفِقُونَ) خبره و (مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) متعلق بمشفقون ، وكذا يقال فيما بعده. قوله : (مُشْفِقُونَ) الإشفاق الخوف مع زيادة التعظيم ، فهو أعلى من الخشية ، وهذه الأوصاف متلازمة من اتصف بواحد منها لزم منه الاتصاف بالباقي. قوله : (القرآن) أي وغيره من باقي الكتب السماوية. قوله : (يعطون) أشار بذلك إلى أن قوله : (يُؤْتُونَ) من الإيتاء وهو الإعطاء. قوله : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) الجملة حالية من فاعل (يُؤْتُونَ) أي والحال أن قلوبهم خائفة من عدم قبول أعمالهم الصالحة ، لما قام بقلوبهم من جلال الله وهيبته وعزته واستغنائه ، ولذا ورد عن أبي بكر الصديق أنه قال : لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي داخل الجنة والأخرى خارجها ، وكان كثير البكاء من خشية الله ، حتى أثرت الدموع في خديه. قوله : (يقدر قبله لام الجر) أي فيكون تعليلا لقوله : (وَجِلَةٌ).

قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) هذه الجملة خبر عن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) وما عطف عليه ، فاسم (إِنَ) أربع موصولات ، وخبرها جملة (أُولئِكَ) الخ. قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) الضمير قيل للخيرات وقيل للجنة وقيل للسعادة ، وقوله : (في علم الله) أي كتبوا سابقين في علم الله ، فظهر فيهم مقتضى سابقية العلم. قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي تفضلا منه سبحانه

١٤

يصوم فليأكل (وَلَدَيْنا) أي عندنا (كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) بما عملته وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال (وَهُمْ) أي النفوس العاملة (لا يُظْلَمُونَ) (٦٢) شيئا منها فلا ينقص من ثواب أعمال الخيرات ولا يزاد في السيئات (بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار (فِي غَمْرَةٍ) جهالة (مِنْ هذا) القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) المذكور للمؤمنين (هُمْ لَها عامِلُونَ) (٦٣) فيعذبون عليها (حَتَّى) ابتدائية (إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أغنياءهم ورؤساءهم (بِالْعَذابِ) أي السيف يوم بدر (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) (٦٤) يضجون يقال لهم (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (٦٥) لا تمنعون (قَدْ كانَتْ آياتِي) من القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) (٦٦) ترجعون قهقرى (مُسْتَكْبِرِينَ) عن الإيمان (بِهِ) أي بالبيت أو الحرم بأنهم أهله في أمن بخلاف سائر الناس في

____________________________________

وتعالى ، وإلا فلا يسأل عما يفعل ، وأتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين ، إشارة إلى أن تلك الأوصاف في طاقة الإنسان ، وكذا جميع التكاليف التي افترضها الله على عباده فعلا أو تركا ، وهذا لمن وفقه الله وكشف عنه الحجب ، وأما المحجوب فيرى التكاليف ثقيلة يشق عليه تعاطيها. قال بعض العارفين :

إذا رفع الحجاب فلا ملالة

لتكليف الإله ولا مشقة

قوله : (عندنا) أي عندية رتبة ومكانة واختصاص. قوله : (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) أي يبين أعمال العباد خيرها وشرها. قوله : (بما عملته) الضمير عائد على النفس المتقدم ذكرها. قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الجمع باعتبار العموم المستفاد من لفظ نفس ، لأنه نكرة في سياق النفي. قوله : (فلا ينقص من ثواب أعمال الخير) أي لأن الأعمال كلها والجزاء عليها مثبتة في اللوح المحفوظ ، وهو مطابق لما في علم الله. قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ) رجوع لأحوال الكفار. قوله : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) أي سيئة. قوله : (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي غير ما ذكر للمؤمنين. والمعنى أن الكفار لهم أعمال مضادة ومخالفة لأوصاف المؤمنين المتقدمة. قوله : (هُمْ لَها عامِلُونَ) أي مستمرون عليها. قوله : (ابتدائية) أي تبتدأ بعدها الجمل. قوله : (إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ إِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه و (إِذا) الثانية للمفاجأة قائمة مقام الفاء. قال ابن مالك :

وتخلف الفاء إذا المفاجأة

كأن تجد إذا لنا مكافأة

قوله : (أغنياءهم ورؤساءهم) أي كأبي جهل وأضرابه من صناديدهم. قوله : (يَجْأَرُونَ) أي يصرخون ويبتهلون ، أو يستغيثون ويلتجئون في كشف العذاب عنهم ، ومع ذلك فلا ينفعهم. قوله : (يقال لهم) الأقرب أن ذلك عند قبض أرواحهم ، حين تأتيهم الملائكة بالمطارق ، من نار يضربون بها وجوههم وأدبارهم ، وقيل إنه يوم القيامة حين يعذبون في النار. قوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي) الخ ، تعليل لما قبله. قوله : (تَنْكِصُونَ) من باب جلس ودخل ، فهو بكسر الكاف وضمها. قوله : (ترجعون قهقرى) أي إلى جهة الخلف ، وهو كناية عن إعراضهم عن الإيمان. قوله : (بِهِ) الجار والمجرور إما متعلق بمستكبرين أو بسامرا ، وأشار المفسر إلى أن الضمير إما عائد على البيت أو الحرم. قوله : (سامِراً) من

١٥

مواطنهم (سامِراً) حال أي جماعة يتحدثون بالليل حول البيت (تَهْجُرُونَ) (٦٧) من الثلاثي تتركون القرآن ، ومن الرباعي أي تقولون غير الحق في النبي والقرآن ، قال تعالى (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) أصله يتدبروا فأدغمت التاء في الدال (الْقَوْلَ) أي القرآن الدال على صدق النبي (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٦٩) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسل للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأن لا جنون به (بَلْ) للانتقال (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠) (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) أي القرآن (أَهْواءَهُمْ) بأن جاء بما يهوونه من الشريك والولد لله تعالى عن ذلك (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي خرجت عن نظامها المشاهد لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم (بَلْ أَتَيْناهُمْ

____________________________________

السمر وهو الحديث ليلا. قوله : (حال) المناسب للمفسر أن يقول احوال ، ويؤخره عن قوله : (تَهْجُرُونَ) لأن الأحوال ثلاثة (مُسْتَكْبِرِينَ) و (سامِراً) ، و (تَهْجُرُونَ). قوله : (أي جماعة) أشار بذلك إلى أن (سامِراً) اسم جمع واحده مسامر. قوله : (من الثلاثي) أي مأخوذ من الهجران وهو الترك ، أو من هجر هجرا بالتحريك هذى وتكلم بما لا يعقله. قوله : (ومن الرباعي) أي مأخوذ من الإهجار ، وهو الفحش في الكلام.

قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير أعموا فلم يدبروا ، وهذا شروع في بيان اقدامهم على هذه الضلالات ، لا بد أن يكون لأحد أمور أربعة أحدها أن لا يتأملوا في دليل نبوته وهو القرآن المعجز ، مع أنهم تأملوا وظهرت لهم حقيقته. ثانيها : أن يعتقدوا أن بعثة الرسول أمر غريب ، لم تسمع ولم ترد عن الأمم السابقة ، وليس كذلك ، لأنهم عرفوا أن الرسل كانت ترسل إلى الأمم. ثالثها : أن لا يكونوا عالمين بأمانته وصدقه قبل ادعاء النبوة ، وليس كذلك ، بل سبقت لهم معرفة كونه في غاية الأمانة والصدق. رابعها : أن يعتقدوا فيه الجنون ، وليس كذلك ، لأنهم كانوا يعلمون أنه أعقل الناس. وسيأتي خامس في قوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) وأم في المواضع الأربعة مقدرة ببل الانتقالية ، وهمزة الاستفهام التقريري ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه. قوله : (من صدق النبي) الخ ، بيان للحق على طبق الآية ، على سبيل اللف والنشر المرتب.

قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِ) أي القرآن وغيره فهو أعم من الحق الأول ، ولذا أظهر في مقام الإضمار وأشار بقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ) إلى أن الأقل لم يدم على كراهة الحق ، بل رجع عن كفره وآمن. قوله : (عادة) المناسب أن يقول عقلا ، لأن وجود الشريك يقضي بفساد العالم عقلا لا عادة. قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) اضراب انتقال ، والمعنى كيف يكرهون الحق ، مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم وتعظيمهم؟ فاللائق بهم الانقياد له وتعظيمه ، والعامة على قصر (أَتَيْناهُمْ) وقرىء بالمد بمعنى أعطينا ، وحينئذ فالباء إما زائدة وذكرهم مفعول ثان ، أو المفعول محذوف ، وقرىء بالقصر مع تاء المتكلم أو تاء المخاطب ،

١٦

بِذِكْرِهِمْ) أي بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (٧١) (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أجرا على ما جئتهم به من الإيمان (فَخَراجُ رَبِّكَ) أجره وثوابه ورزقه (خَيْرٌ) وفي قراءة خرجا في الموضعين وفي قراءة أخرى خراجا فيهما (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٧٢) أفضل من أعطى وأجر (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ) طريق (مُسْتَقِيمٍ) (٧٣) أي دين الإسلام (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بالبعث والثواب والعقاب (عَنِ الصِّراطِ) أي الطريق (لَناكِبُونَ) (٧٤) عادلون (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي جوع أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا) تمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) ضلالتهم (يَعْمَهُونَ) (٧٥) يترددون (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) الجوع (فَمَا اسْتَكانُوا) تواضعوا (لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (٧٦) يرغبون إلى الله بالدعاء (حَتَّى) ابتدائية (إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا) صاحب (عَذابٍ شَدِيدٍ) هو يوم بدر بالقتل (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٧)

____________________________________

وقوله : (بِذِكْرِهِمْ) هكذا قرأ العامة ، وقرىء شذوذا بذكراهم بألف التأنيث ، ونذكرهم بنون العظمة. قوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) راجع لقوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وما بينهما اعتراض. قوله : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار. قوله : (أجره وثوابه) أي في الآخرة ، وقوله : (ورزقه) أي في الدنيا ، فهذه الأمور كالخراج من حيث إن الله تفضل بها لعبيده فلا يتركها أبدا. قوله : (وفي قراءة خرجا في الموضعين) الخ ، أي فالقراءات الثلاث سبعيات ، لكن الأولى أبلغ ، من حيث إنه عبر في حق الله بالخراج المفيد للتكرار ، وفي حق العبيد بالخراج المفيد عدم التكرار ، والمماثلة في القراءتين الباقيتين للمشاكلة. قوله : (وأجر) بالقصر من باب ضرب ونصر ، وبالمد أي أثاب. قوله : (عَنِ الصِّراطِ) متعلق بناكبون. قوله : (عادلون) أي زائغون ومنحرفون.

قوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) الخ قال الأشياخ : الأظهر أن هذه الآية واللتين بعدها إلى (مُبْلِسُونَ) مدنيات ؛ وسبب ذلك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما هاجر إلى المدينة ، دعا على أهل مكة بقوله : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف» فقحطوا حتى أكلوا العلهز ، وهو بعين مكسورة ولام ساكنة وهاء وزاي معجمة ، شيء كانوا يتخذونه من الدم ووبر الابل في سني المجاعة ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فقال : أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع. فنزلت الآية. قوله : (لَلَجُّوا) اللجاج التمادي والاستمرار على العناد في تعاطي الفعل المنهي عنه.

قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) تأكيد لما قبله. قوله : (فَمَا اسْتَكانُوا) أصله استكونوا ، نقلت حركة الواو إلى ما قبلها ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت الفا ، والمعنى لم يحصل منهم تواضع ورجوع إلى الله في الماضي. ولم يحصل منهم التجاء إلى الله في المستقبل. قوله : (ابتدائية) أي تبتدأ بعدها الجمل. قوله : (إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ إِذا) شرطية ، و (إِذا) الثانية رابطة للجواب ، قائمة مقام الفاء. قوله : (آيسون) أي فالإبلاس اليأس ، ومنه إبليس ليأسه من رحمة الله.

١٧

آيسون من كل خير (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) خلق (لَكُمُ السَّمْعَ) بمعنى الإسماع (وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) القلوب (قَلِيلاً ما) تأكيد للقلة (تَشْكُرُونَ) (٧٨) (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٧٩) تبعثون (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي) بنفخ الروح في المضغة (وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالسواد والبياض والزيادة والنقصان (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٨٠) صنعه تعالى فتعتبرون (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) (٨١) (قالُوا) أي الأولون (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٨٢) لا ، وفي الهمزتين في الموضعين التحقيق وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) أي البعث بعد الموت (مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا) ما هذا إلا (أَساطِيرُ) أكاذيب (الْأَوَّلِينَ) (٨٣) كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطورة بالضم (قُلْ) لهم (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٤) خالقها ومالكها (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ) لهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٨٥) بإدغام التاء الثانية في الذال تتعظون فتعلمون أن القادر على الخلق ابتداء

____________________________________

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ) الخ ، خطاب للخلق عموما ، قصد به تذكير النعم للمؤمنين ، والتوبيخ للكافرين ، حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها ، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشد ، والبصر ليشاهد به الآيات الدالة على كمال أوصاف الله ، والقلوب بمعنى العقول ، ليتأمل بها في مصنوعات الله ، فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها ، فهو بمنزلة عادمها ، قال تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وأفرد السمع وجمع الأبصار. قوله : (تأكيد للقلة) أي لفظ ما تأكيد للقلة المستفادة من التنكير ، والمعنى شكرا قليلا ، وهو كناية عن عدمه. قوله : (تبعثون) أي تحيون بعد الموت.

قوله : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي خلقا وايجادا. قوله : (بالسواد والبياض) لف ونشر مرتب. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، أي اغفلتم فلا تعقلون أن القادر على إنشاء الخلق ، قادر على اعادتهم بعد الموت؟ قوله : (بَلْ قالُوا) أي كفار مكة. قوله : (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي من قوم نوح وهود وصالح وغيرهم. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (وادخال الف بينهما) أي وترك الإدخال ، فالقراءات أربع سبعيات في الثاني ، وثلاث في الأول بترك الإدخال بين المحققتين. قوله : (لَقَدْ وُعِدْنا) وعد فعل ماض مبني للمجهول ، ونائب الفاعل هو الضمير المتصل و (نَحْنُ) توكيد له ، و (آباؤُنا) معطوف على الضمير المتصل ، فهو نائب فاعل أيضا ، وقوله : (هذا) مفعول ثان لوعد ، ونائب الفاعل مفعول أول ، والأصل وعدنا الآن محمد بالبعث ، ووعد غيره آباءنا من قبلنا به ، وقدم المرفوع الذي هو نائب الفاعل هنا ، وعكس في النمل تفننا وإشارة إلى أنه يجوز الأمران. قوله : (قُلْ) (لهم) أي لأهل مكة المنكرين للبعث. قوله : (من الخلق) أي المخلوقات عقلاء وغيرهم. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شرط حذف جوابه والتقدير فأخبروني بخالقهما.

قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) إخبار من الله بما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه. قوله : (بإدغام التاء) أي

١٨

قادر على الاحياء بعد الموت (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٨٦) الكرسي (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٨٧) تحذرون عبادة غيره (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) ملك (كُلِّ شَيْءٍ) والتاء للمبالغة (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) يحمي ولا يحمى عليه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٨) (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وفي قراءة لله بلام الجر في الموضعين : نظرا إلى أن المعنى من له ما ذكر (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (٨٩) تخدعون وتصرفون عن الحق عبادة الله وحده أي كيف تخيل لكم أنه باطل (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) بالصدق (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٩٠) في نفيه وهو (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً) أي لو كان معه إله (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي انفرد به ومنع الآخر من الاستيلاء عليه (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) مغالبة كفعل ملوك الدنيا (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له (عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) ه به مما ذكر (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما شوهد بالجر صفة والرفع خبر هو

____________________________________

بعد قلبها دالا فذالا وتسكينها. قوله : (الكرسي) المناسب إبقاؤه على ظاهره ، فإن العرش على التحقيق غير الكرسي. قوله : (والتاء للمبالغة) أي وكذا الواو ، فهما زائدتان ، كزيادتهما في الرحموت والرهبوت من الرهبة والرحمة. قوله : (يحمي ولا يحمى عليه) الأول بفتح الياء كيرمي والثاني بضمها. والمعنى يمنع ويحفظ من أراد حفظه ، ولا يمنع منه أحد ، ولا ينصر من أراد خذلانه. قال تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ). قوله : (وفي قراءة لله بلام الجر) أي وهو لمعظم السبعة. قوله : (في الموضعين) أي الأخيرين ، وأما جواب السؤال الأول فهو باللام باتفاق السبعة ، ولم يقرأ بدونها أحد. قوله : (نظرا إلى أن المعنى) أي فلام الجر مقدرة في السؤال ، فظهرت في الجواب نظرا للمعنى ، وأما على قراءة إسقاطها فباعتبار مراعاة لفظ السؤال ، لأنه لا فرق بين

قوله : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) ، «وبين لمن السماوات» ، كقولك : من رب هذه الدار؟ فيقال : زيد ، وإن شئت قلت لزيد ، لأن السؤال لا فرق فيه ، بين أن يقال لمن هذه الدار ، أو من ربها.

قوله : (قُلْ فَأَنَّى) أي فكيف (تُسْحَرُونَ). قوله : (عبادة الله) بدل من الحق فهو بالجر قوله : (أي فكيف يخيل لكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالسحر ، التخيل والوهم لا حقيقته. قوله : (في نفيه) أي الحق. قوله : (مِنْ وَلَدٍ مِنْ) زائدة في المفعول ، وقوله : (مِنْ إِلهٍ مِنْ) زائدة في اسم (كانَ). قوله : (أي لو كان معه إله) أشار بذلك إلى أن قوله : (إِذاً لَذَهَبَ) جواب لشرط محذوف وهو لو الامتناعية ، علم من قوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) ، وتقدم تحقيق الكلام في هذا البرهان في سورة الأنبياء. قوله : (كفعل ملوك الدنيا) كلامه يقتضي أن هذا أمر عادي لا إلزام قطعي ، وهو خلاف التحقيق ، بل التحقيق أنه دليل عقلي قطعي. قوله : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) هذا دليل آخر على الوحدانية كأنه قال : الله عالم الغيب والشهادة ، وغيره لا يعلمهما ، فغيره ليس إله. قوله : (بالجر صفة) أي للفظ الجلالة أو بدل منه ، وقوله : (والرفع خبر) هو مقدرا ، أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عطف على معنى ما تقدم كأنه قال : علم الغيب فتعالى.

١٩

مقدرا (فَتَعالى) تعظم (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩٢) ه معه (قُلْ رَبِّ إِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة (تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) (٩٣) من العذاب هو صادق بالقتل ببدر (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) فأهلك بهلاكهم (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) (٩٥) (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي الخصلة من الصفح والإعراض عنهم (السَّيِّئَةَ) أذاهم إياك وهذا قبل الأمر بالقتال (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) (٩٦) ه أي يكذبون ويقولون فنجازيهم عليه (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ) أعتصم (بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٩٧) نزغاتهم بما يوسوسون به (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) في أموري لأنهم إنما يحضرون بسوء (حَتَّى) ابتدائية (إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) ورأى مقعده من النار

____________________________________

قوله : (قُلْ رَبِ) الخ ، هذا أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكيفية دعاء يتخلص به من عذابهم وهو مجاب ، لأن الله ما أمره بدعاء إلا استجاب له. قوله : (إن ما) (تُرِيَنِّي) (إن) شرطية ، و (ما) زائدة ، و (تُرِيَنِّي) فعل الشرط ، والنون للوقاية ، والياء مفعول أول ، و (ما) مفعول ثان ، و (يُوعَدُونَ) صلة (ما) ، و (رَبِ) تأكيد للأول ، وقوله : (فَلا تَجْعَلْنِي) الخ ، جواب الشرط. قوله : (بالقتل ببدر) أي وهو الذي رآه بالفعل. قوله : (فأهلك بهلاكهم) أي لأن شؤم الظالم قد يعم غيره. إن قلت : إن رسول الله معصوم من جعله مع القوم الظالمين ، فكيف أمره الله بهذا الدعاء؟ أجيب : بأنه أمر بذلك اظهارا للعبودية ، وتواضعا لربه وتعظيما لأجره ، وليكون في جميع الأوقات ذاكرا لله تعالى.

قوله : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ) الخ ، إن حرف توكيد ونصب ، ونا اسمها ، والجار والمجرور متعلق بقادرون ، و (ما) واقعة على العذاب ، وقادرون خبر إن ، واللام للابتداء زحلقت للخبر ، والمعنى : وإنا لقادرون على أن نريك العذاب الذي نعدهم به. قوله : (أي الخصلة) الخ ، أشار بذلك إلى أن التي صفة لموصوف محذوف ، وقوله : (من الصفح) الخ ، بيان للخصلة التي هي أحسن. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهو منسوخ ، ويحتمل أن المعنى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولو في حال القتال ، كأن الله يقول : إذا قدرت عليهم فاصفح عنهم ، ولا تعاملهم بما كانوا يعاملونك به ، حينئذ فتكون الآية محكمة ، وقد حصل منه هذا الأمر عند فتح مكة.

قوله : (وَقُلْ رَبِ) أي في كل وقت ، لأن العصمة والحفظ من الشيطان أمرها عظيم جدا ، وهو وإن كان معصوما ، فالمقصود تعليم أمته ، واظهار الالتجاء لربه. قوله : (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) جمع همزة وهي النخسة. قوله : (نزغاتهم) أي افساداتهم ، والمعنى اتحصن بك من وساوس الشيطان. قوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِ) كرر ذلك للمبالغة والاعتناء بهذه الاستعاذة. قوله : (ابتدائية) أي تبتدأ بعدها الجمل ، اشارة إلى أن هذا الكلام منقطع عما قبله ، قصد به وصف حال الكافر بعد موته. قوله : (الجمع للتعظيم) جواب عما يقال : لم لم يقل رب ارجعني بالإفراد ، مع أن المخاطب واحد؟ وأجيب أيضا : بأن الواو لتكرير الطلب كأنه قال : ارجعن ارجعن ارجعن ، أو الجمع باعتبار الملائكة الذين يقبضون روحه ، كأنه استغاث بالله أولا ، ثم رجع إلى طلب الرجوع إلى الدنيا من الملائكة. قوله : (يكون) (فِيما تَرَكْتُ) أي بدلا عنه. قوله : (أي لا رجوع) أشار بذلك إلى أن (كَلَّا) هنا معناها النفي ، ومع ذلك فيها معنى

٢٠