حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

ذلك منه (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أبدا (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠) تهديد لهم (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ) لهم (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي لكل جزاء عمله (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١) وهذا منسوخ بآية السيف (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) شبههم بهم في عدم الانتفاع بما يتلى عليهم (وَلَوْ كانُوا) مع الصم (لا يَعْقِلُونَ) (٤٢) يتدبرون (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) (٤٣) شبههم بهم في عدم الاهتداء بل أعظم (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤) (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ

____________________________________

أهل مكة المكذبين للقرآن ، اقتسموا قسمين : قسم آمن بعد ، وقسم لم يؤمن. قوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ) أي داموا على تكذيبك. قوله : (أي لكل جزاء عمله) أي جزاء ما عمله من خير أو شر. قوله : (وهذا منسوخ بآية السيف) أي فبعد نزولها لم يقل ذلك ، وفيه أن شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ ، ومدلول الآية ثابت لم ترفعه آية السيف ، إذ مدلول هذه الآية اختصاص كل بعمله وبراءة كل من عمل الآخر ، وهذا حاصل مطلقا ، فالوجه أنه لا نسخ في هذه الآية.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي من كفار مكة المكذبين للقرآن ، فريق يصغون إلى قراءتك بآذانهم ولم يذعنوا بقلوبهم ، فلا تطمع في إيمانهم ، لوجود الختم على قلوبهم ، فلا يفقهوا الحق ولا يتبعوه ، وفي هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأن الله يقول له لا تحزن على عدم إيمانهم ، فإنك لا تقدر أن تسمع الصم ، ولو كانوا لا يعقلون.

قوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، المعنى أنت لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع. قوله : (شبههم) أي الكفار ، وقوله : (بهم) أي بالصم ، وقوله : (في عدم الانتفاع) هذا هو وجه الشبه ، أي فكما أن معدم السمع لا ينتفع بالأصوات ، فكذلك الكفار لا ينتفعون بسماع القرآن ، لوجود الحجاب على قلوبهم. قوله : (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي لو كان مع الصمم عدم العقل ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، وجملة الشرط معطوفة على محذوف تقديره أأنت تسمع الصم إن عقلوا ، بل ولو كانوا لا يعقلون ، فأنت لا تسمعهم ، فيكون المعنى أنت لا تسمع الصم عقلوا أو لم يعقلوا ، فهم كالأنعام بل هم أضل.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي يبصرك بعينه. قوله : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) يقال فيه ما قيل فيما قبله. قوله : (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي لا يتأملون ولا يتفكرون بقلوبهم ، فيما جئت به من الدلائل العظيمة والشمائل الفخيمة ، والمعنى أنت لا تهدي عمي القلوب ، أبصروا أو لم يبصروا. قوله : (بل أعظم) قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) هذه الآية سيقت لدفع توهم أن الله حيث سلبهم العقل والسمع والبصر ، فتعذيبهم على عدم الهدى ظلم ، فدفع ذلك بأن الظلم هو التصرف في ملك الغير ، ولا ملك لأحد معه سبحانه وتعالى ، فتقديره الشقاوة على أهلها ليس بظلم منه ، لأنه هو المالك الحقيقي ، وهو يتصرف في ملكه كيف يشاء. قوله : (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) إنما قال ذلك ، لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب الاختياري ، فالله سبحانه وتعالى يعذب الشقي على ما اقترفه بالنظر للكسب الاختياري. فإن قيل : هو الخالق لذلك

١٠١

كَأَنْ) أي كأنهم (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا أو القبور (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) لهول ما رأوا وجملة التشبيه حال من الضمير (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال ، والجملة حال مقدرة أو متعلق الظرف (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) بالبعث (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥) (وَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) به من العذاب في حياتك ، وجواب الشرط محذوف أي فذاك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل تعذيبهم (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) مطلع (عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٤٦) من تكذيبهم وكفرهم فيعذبهم أشد العذاب (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) إليهم فكذبوه (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل فيعذبون وينجى الرسول ومن صدقه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧) بتعذيبهم بغير جرم فكذلك نفعل بهؤلاء (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) بالعذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨) فيه

____________________________________

الكسب ، يقال : لا يسأل عما يفعل.

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي نجمعهم للحساب ، والضمير عائد على المشركين المنكرين للبعث ، والمعنى ويوم نجمع المشركين في القيامة ، ويعرف بعضهم بعضا ، حال كونهم في وقت حشرهم ، مشبهين بمن لم يلبثوا إلا زمنا قليلا من النهار. قوله : (لهول ما رأوا) أي فسبب ذلك ، يعد الزمن السابق عليه يسيرا ، إن كان في نفسه طويلا. قوله : (حال من الضمير) أي في (يَحْشُرُهُمْ). قوله : (إذا بعثوا) دفع بذلك ما يقال : إن هذا معارض لقوله فلا أنساب بينهم. وحاصل الجواب : أنهم يتعارفون أولا ، فإذا اشتد الهول نسي بعضهم بعضا. قوله : (والجملة حال) أي من الواو في (يَلْبَثُوا) أو من الضمير في (يَحْشُرُهُمْ) وعلى هذا فالظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر. قوله : (أو متعلق الظرف) أي فهو معمول له ، والتقدير يتعارفون وقت حشرهم. قوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) هذا إخبار من الله بحالهم الشنيع. قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) معطوف على جملة (قَدْ خَسِرُوا) المعنى وما كانوا واصلين للجنة أبدا.

قوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) هذا تسليه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأن الله يقول له : لا تحزن ، فإما نرينك عقوبتهم في حياتك ، أو نؤخرهم إلى يوم القيامة ، فهم لا يفلتون من عذابنا على كل حال ، فاصبر ولا تضق ، فإن الأمر لنا فيهم. قوله : (فذاك) أي هو المراد ، وقد حصل ذلك ؛ بأن بلغ الله نبيه الآمال فيمن عاداه ، بسبب تسليمه الأمر فيهم لمالكهم ، وهكذا يفعل الله بالظالم ، إذا سلم المظلوم أمره لسيده ، ولم يعترض على افعاله ، وصبر على أحكامه ، فبهذا ينال رضا الله ، ويظفر بمطلوبه ممن ظلمه. وفي هذا المعنى قلت :

أرح قلبك العاني وسلم له القضا

تفز بالرضا فالأصل لا يتحول

علامة أهل الله فينا ثلاثة

إيمان وتسليم وصبر مجمل

قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) هذا هو جواب الشرط. قوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) ثم لترتيب الأخبار ، لا للترتيب الزماني.

قوله : (رَسُولٌ) أي أرسله الله لهم. قوله : (فكذبوه) قدره إشارة إلى أن قوله : (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) مرتب على محذوف لا على قوله : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ). قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لأن تعذيبهم بسبب كسبهم ، لما تقدم أن الرحمة تأتي من غير سابقة تقتضيها ، وأما العذاب فلا بد وأن

١٠٢

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) أدفعه (وَلا نَفْعاً) أجلبه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يقدرني عليه فكيف أملك لكم حلول العذاب (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مدة معلومة لهلاكهم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) يتأخرون عنه (ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤٩) يتقدمون عليه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) أي الله (بَياتاً) ليلا (أَوْ نَهاراً ما ذا) أي شيء (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) أي العذاب (الْمُجْرِمُونَ) (٥٠) المشركون فيه ، وضع الظاهر موضع المضمر ، وجملة الاستفهام جواب الشرط كقولك إذا أتيتك ماذا تعطيني ، والمراد به التهويل أي ما أعظم ما استعجلوه (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) حل بكم (آمَنْتُمْ بِهِ) أي الله أو العذاب عند نزوله ، والهمزة لإنكار التأخير فلا يقبل منكم ويقال

____________________________________

يكون بسبب فعل يقتضيه. قوله : (وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة. قوله : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الذي تعدنا به ، وهذا القول منهم على سبيل الاستهزاء والسخرية ، قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب للنبي والمؤمنين.

قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) إلخ. أي لا استطيع أن أدفع الضر ، إن أراد الله نزوله بي ، ولا أستطيع جلب نفع أراد الله منعه عني. قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يحتمل أن يكون متصلا ، والتقدير إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه ، أو منقطعا ، والتقدير لكن ما شاء الله من ذلك ، فإني أملك لكم الضر وأجلب العذاب.

قوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) هذا من جملة ما أجابهم به ، والمعنى حيث كان لكل أمة أجل محدود لا تتعداه ، فلا معنى لاستعجالكم العذاب. قوله : (يتأخرون) إلخ. أشار بذلك إلى أن السين في (يَسْتَأْخِرُونَ) و (يَسْتَقْدِمُونَ) زائدة ، والمعنى أنه إذا جاء الأجل الذي قدره الله لكل أمة ، فلا يتأخرون عنه ولا يتقدمون عليه إن لم يجىء. إن قلت : ورد أن الصدقة تزيد في العمر ، فالجواب : أن المراد بالزيادة البركة ، لأن الأجل الذي سبق في علم الله لا يتغير.

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي قل للذين يستعجلون العذاب. قوله : (موضع المضمر) أي وهو الواو التي مع تاء المخاطب ، والتقدير ماذا تستعجلون ، وعدل عنه لأجل الوصف بالإجرام تبكيتا عليهم. قوله : (وجملة الاستفهام جواب الشرط) أي تقدير الفاء ، لأن الجملة اسمية. قوله : (والمراد به) أي الاستفهام. قوله : (لإنكار التأخير) أي المستفاد من ثم ، والتقدير أأخرتم ثم آمنتم به إذا وقع. والمعنى لا ينبغي هذا التأخير ، لأن الإيمان في هذه الحالة غير نافع.

قوله : (آلْآنَ) منصوب على الظرفية ، والعامل فيه محذوف قدره المفسر بقوله : (تؤمنون) والفعل المقدر معمول على إضمار القول ، وهو يقال لكم آلآن بهمزتين ، الأولى همزة الاستفهام ، والثانية همزة أل المعرفة ، فإذا اجتمع هاتان الهمزتان وجب في الثانية ، إما تسهيلها أو مدها بقدر ثلاث ألفات ، وهما قراءتان سبعيتان ، وقد وقع ذلك في القرآن في ستة مواضع : اثنان في الانعام (آلذَّكَرَيْنِ) مرتين ، وثلاثة في هذه السورة (آلْآنَ) مرتين ، و (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) ، وواحد في النمل (اللهُ خَيْرٌ) ، وأما تحقيق الهمزتين فلا

١٠٣

لكم (آلْآنَ) تؤمنون (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١) استهزاء (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي الذي تخلدون فيه (هَلْ) ما (تُجْزَوْنَ إِلَّا) جزاء (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٥٢) (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) يستخبرونك (أَحَقٌّ هُوَ) أي ما وعدتنا به من العذاب والبعث (قُلْ إِي) نعم (وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥٣) بفائتين العذاب (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) كفرت (ما فِي الْأَرْضِ) جميعا من الأموال (لَافْتَدَتْ بِهِ) من العذاب يوم القيامة (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) على ترك الإيمان (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعيير

____________________________________

يجوز. قوله : (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) الجملة حالية من فاعل (آمَنْتُمْ). قوله : (استهزاء) أي تستعجلون على سبيل الاستهزاء.

قوله : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) إخبار عما يقع لهم في القيامة. قوله : (هَلْ تُجْزَوْنَ) الواو نائب الفاعل مفعول أول ، وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) مفعول ثان ، وقوله : (إِلَّا) (جزاء) مفعول مطلق لتجزون. والمعنى لا تجزون إلا جزاء الذي كنتم تكسبونه من الكفر والتكفير. قوله : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) السين والتاء للطلب ، والمعنى يسألونك أن تخبرهم عما وعدتهم به من العذاب : أحق هو؟ الخ. (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) فعل. مضارع ، والواو فاعل ، والكاف مفعول أول ، وجملة (أَحَقٌّ هُوَ) في محل المفعول الثاني ، وحق مبتدأ وهو خبر أو بالعكس ، أو هو فاعل بحق أغنى عن الخبر ، والشرط موجود ، وهو اعتماد المبتدأ على الاستفهام.

قوله : (إِي وَرَبِّي) إلخ. هذا أمر من الله لرسوله بأن يجيبهم بثلاثة أشياء ، (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ). قوله : (نعم) أشار المفسر بذلك إلى أن (إِي) من أحرف الجواب ، ولكنها مختصة بالقسم لا تستعمل في غيره ، ومنه قول الناس إي والله ، وقولهم إيوه ، فالواو للقسم ، والهاء مأخوذة من الله ، ويحتمل أن الهاء للسكت ، والمقسم به محذوف للعلم به ، تقديره إي والله ، وهذا هو الأقرب ، لأن تقطيع اسم الجلالة غير لائق ، قوله : (إِنَّهُ لَحَقٌ) جواب القسم. قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ). يصح أن يكون معطوفا على إي ، فيكون من جملة مقول القول ، ويصح أن يكون جملة مستأنفة ، خطابا من الله لهم ، وليس من جملة مقول القول ، وما يحتمل أنها حجازية ، فاسمها الضمير ، وبمعجزين خبرها ، أو تميمية وما بعدها مبتدأ وخبر. قوله : (بفائتين العذاب) أي فارين منه ، بل هو مدرككم لا محالة.

قوله : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) إلخ. المعنى امتنع افتداء كل نفس من العذاب لامتناع ملكها لما تفتدى به ، وهو جميع ما في الأرض. قوله : (كفرت) أي وماتت على كفرها. قوله : (لَافْتَدَتْ بِهِ) أي لجعلته فداء لها من العذاب ، لكنه لا يحصل ذلك. قوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) الضمير عائد على الرؤساء ، والأسرار على حقيقته. والمعنى أن الرؤساء حين يرون العذاب يخفون الندامة خوف التعيير ، وهذا ما مشى عليه المفسر ، وقيل إن أسروا بمعنى أظهروا ، من تسمية الأضداد ، ولعل هذا هو الأقرب. قال تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) الآية.

قوله : (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ظرف لأسروا بمعنى حين ، أو شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله : (مخافة التعيير) أي التوبيخ الواقع من الأتباع لهم. قوله : (بين الخلائق) أي فيقضى للمسلمين

١٠٤

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الخلائق (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٥٤) شيئا (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) ثابت (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي الناس (لا يَعْلَمُونَ) (٥٥) ذلك (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦) في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كتاب فيه ما لكم وعليكم وهو القرآن (وَشِفاءٌ) دواء (لِما فِي الصُّدُورِ) من العقائد الفاسدة والشكوك (وَهُدىً) من الضلال (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧) به (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) الإسلام (وَبِرَحْمَتِهِ) القرآن (فَبِذلِكَ) الفضل

____________________________________

بالجنة ، وللكفار بالنار ، ويصح أن يكون المعنى بين الظالمين والمظلومين. قوله : (العدل) أي وهو عدم الجور والظلم. قوله : (أَلا) أداة تنبيه ، يؤتى بها للاعتناء بما بعدها ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما ذكر أن كل نفس كافرة ، تتمنى أنها لو تملك ما في الأرض لافتدت به ، بين هنا أنه لا يملك ذلك لعدم ملكها ، فإن لله ما في السموات والأرض. قوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي لا محيص عنه ، بل هو واقع ولا بد.

قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لقصور عقولهم بسبب استيلاء الغفلة عليهم فينكرون ذلك ، والتعبير بأكثر ، إشارة إلى أن الأقل يعلم ذلك ، وهو واحد من ألف ، لما تقدم في الحديث : «يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك ، فيخرج من كل ألف واحدا للجنة والباقي للنار». قوله : (فيجازيكم بأعمالكم) أي خيرها وشرها. قوله : (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن الخطاب لهم ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (مَوْعِظَةٌ) مصدر وعظ بمعنى ذكر وأرشد لما ينفع من محاسن الأعمال ، وزجر عما يضر من قبائحها.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) صفة لموعظة ، وفي هذا تنزل من الله لعباده ، كأن الله يقول : الفداء في الآخرة لا ينفع ، وأما في الدنيا فذلك نافع. قوله : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) المراد بها القلوب ، من باب تسمية الحال باسم المحل ، والمعنى أن القرآن مذكر وواعظ ، وبه الشفاء لما في القلوب من الحقد والحسد والبغض والعقائد الفاسدة. قوله : (وَهُدىً) أي نور يقذف في قلوب الكاملين ، يميزون به الحق والباطل ، وفي هذه الآية إشارة إلى الشريعة والطريقة والحقيقة ، فأشار للشريعة بقوله : (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأن الشريعة بها تطهير الظواهر ، وأشار للطريقة بقوله : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) لأن الطريقة بها تطهير البواطن عن كل ما لا ينبغي ، وأشار للحقيقة بقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لأن بالحقيقة التجلي بالأنوار الساطعة في القلوب التي يرى بها الأشياء على ما هي عليه فعند ذلك يرى الله في كل شيء ، وأقرب إليه من كل شيء ، علما ذوقيا ، لا علما يقينيا ، فالحقيقة ثمرة الطريقة ولا تحصل إلا بعد التخلق بالطريقة والشريعة ، ولذا قيل : حقيقة بلا شريعة باطلة ، وشريعة بلا حقيقة عاطلة.

قوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) إلخ ، متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده ، والأصل ليفرحوا ، (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة الحصر ، ثم دخلت الفاء لإفادة السببية ، والمعنى أن من اتصف بهذه الصفات المتقدمة ، ينبغي له أن يفرح ويشكر ما أنعم الله به عليه ، ويجود بروحه وجسمه في خدمة ربه ولا يتوانى ، فمن قذف الله في قلبه نور محبته ، فالواجب عليه إفناء جسمه في خدمته ، كي يتم له ذلك النور ويزداد السرور ، وهذه المحبة هي التي يعبر عنها العارفون بالخمرة

١٠٥

والرحمة (فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨) من الدنيا بالياء والتاء (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (ما أَنْزَلَ اللهُ) خلق (لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) كالبحيرة والسائبة والميتة (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) في ذلك بالتحليل والتحريم لا (أَمْ) بل (عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٥٩) تكذبون بنسبة ذلك إليه (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي أي شيء ظنهم به (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أيحسبون أنه لا يعاقبهم لا (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بإمهالهم والإنعام عليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا

____________________________________

والشراب والحميا ، لأن بها السكر والفناء عما سوى الله تعالى ، قال العارف رضي الله عنه :

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

وقال العارف :

ولا تنظر لجسمي يا عذولي

فإن الجسم مطلوبي سلاه

ولا تنكر شراب حمى قلبي

فإن القلب محبوبي سقاه

وقال العارف موضحا لهذه الخمرة :

فتلك خمر الشهود تدعى

لا خمرة الكرم والدنان

ومن ذلك المعنى قوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل محبته ، وأن يحشرنا في زمرة أهل قربه ومودته. قوله : (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي من الدنيا وزخارفها وأبهمها إشارة إلى أنها خسيسة لا تساوي جناح بعوضة. قوله : (بالياء والتاء) راجع لقوله : (يَجْمَعُونَ) وأما (فَلْيَفْرَحُوا) فالتاء عشرية والياء سبعية. قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أشار المفسر إلى أن (أَرَأَيْتُمْ) بمعنى (أخبروني) وحينئذ فتنصب مفعولين : الأول الموصول وصلته ، والثاني جملة (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) و (قُلْ) تأكيد للأولى ، وليست من جملة المفعول الثاني. قوله : (كالبحيرة والسائبة) مثالان للحرام ، وتقدم أن البحائر والسوائب نعم يوقفونها على الأصنام ، يحرمون ظهورها ونتاجها وألبانها ولحومها ، وقوله : (والميتة) مثال للحلال. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (أَمْ) (بل) أشار المفسر إلى أنها منقطعة بمعنى (بل) ويصح أن تكون متصلة معادلة للهمزة ، والمعنى أخبروني أحصل إذن من الله لكم ، أم ذلك افتراء منكم وكذب ، فهو استفهام لطلب التعيين وهو الأولى.

قوله : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ ما) اسم استفهام مبتدأ ، و (ظَنُ) خبره ، و (يَوْمَ) ظرف متعلق بظن ، والمعنى أي شيء ظنهم بالله يوم القيامة. قوله : (أيحسبون) إلخ. قدر المفسر هذه الجملة ، إشارة إلى أن مفعولي الظن محذوفان فهذه الجملة سدت مسدّهما. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري أي لا ينبغي هذا الظن ، ولا يليق ولا ينفع ، وأما قوله في الحديث : «أنا عند ظن عبدي بي» فذلك في حق المؤمن ، فظن الخير بالله ينفع المؤمن ، وأما الكافر فلا ينفعه ذلك ما دام على كفره. قوله : (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي الطائع منهم والعاصي ، وذلك في الدنيا ، فنعم الدنيا ليست تابعة للتقوى ، بل هي ثابتة بالقسمة الأزلية للمؤمن والكافر. قوله : (بإمهالهم) أي تأخير عذابهم. قوله : (والإنعام عليهم) أي بأنواع النعم ، كالعقل والسمع والبصر وغير ذلك. قوله : (لا يَشْكُرُونَ) أي لا يصرفون النعم في مصارفها ، وحينئذ فلا تنفعهم تلك النعم ، إلّا إذا صحبها الإيمان والشكر ، فإن عدموا الإيمان صارت النعم نقما ، وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) يفيد أن القليل هو الشاكر وهو كذلك. قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

١٠٦

يَشْكُرُونَ) (٦٠) (وَما تَكُونُ) يا محمد (فِي شَأْنٍ) أمر (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) أي من الشأن أو الله (مِنْ قُرْآنٍ) أنزله عليك (وَلا تَعْمَلُونَ) خاطبه وأمته (مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) رقباء (إِذْ تُفِيضُونَ) تأخذون (فِيهِ) أي العمل (وَما يَعْزُبُ) يغيب (عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ) وزن (ذَرَّةٍ) أصغر نملة (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦١) بين هو اللوح المحفوظ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) في الآخرة هم (الَّذِينَ

____________________________________

قوله : (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) الضمير إما عائد على الشأن أو على الله ، كما قال المفسر. فعلى الأول تكون من للتعليل ، وعلى الثاني تكون ابتدائية ، وقوله : (مِنْ قُرْآنٍ) من صلة ، والمعنى وما تتلو من أجل هذا الشأن قرآنا ، أو وما تتلوا قرآنا مبتدأ وصادر من الله. قوله : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) استثناء من أعم الأحوال ، والمعنى ما تتلبسون بشيء من هذه الثلاثة في حال من الأحوال ، إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له. إذا علمت ذلك ، فكان المناسب للمفسر أن يعيد الضمير في فيه لكل من الثلاثة ، وقد يجاب بأنه أعاده على الفعل لعمومه وشموله لباقي الثلاثة.

قوله : (إِذْ تُفِيضُونَ) ظرف لقوله شهودا. قوله : (وَما يَعْزُبُ) بضم الزاي وكسرها ، قراءتان سبعيتان. قوله : (عَنْ رَبِّكَ) أي عن علمه. قوله : (أصغر نملة) وقيل هو الهباء ، وقيل أصغر بعوضة. قوله : (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي في سائر الموجودات ، وعبر عنه في السماء والأرض لمشاهدة الخلق لهما. واعلم أن عالم الملك ما يشاهده الخلق ، كالأرض وما حوته ، وما ظهر من السماء ، وعالم الملكوت ما لا يشاهد ، كما فوق السماء من العرش والكرسي والملائكة وغير ذلك ، وعالم الجبروت هو عالم الأسرار ، وعالم العزة هو ما استأثر الله بعلمه ، كعلم ذاته وصفاته ومراداته.

قوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) بالرفع والنصب ، قراءتان سبعيتان ، فالرفع إما على الابتداء والخبر ، أو على أن (لا) عاملة عمل ليس ، والخبر على كلا الإعرابين. قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). فتكون الجملة مستأنفة منقطعة عما قبلها ، والنصب على أنها عاملة عمل إن ، لأن أصغر وأكبر شبيهان بالمضاف ، تعلق بهما شيء من تمام معناهما ، وهو العمل في الجار والمجرور ، وهاتان القراءتان هنا فقط ، وأما في سبأ فبالرفع باتفاق السبعة.

قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الاستثناء منقطع ، والمعنى لكن جميع الأشياء في كتاب مبين ، فهو استدراج على ما يتوهم نفيه لأن قوله لا يعزب عن ربك الخ. ربما يتوهم منه أنه لم يحط بها غير علم الله ، فدفع ذلك بقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي لكن جميع الأشياء مثبتة في كتاب مبين أيضا ، ولا يصح أن يكون متصلا ، لأنه يصير المعنى لا يغيب عن علمه شيء في حال من الأحوال ، إلا في حال كونه مثبتا في كتاب مبين فيغيب ، فيفيد أن ما في الكتاب غائب عن علم الله وذلك باطل ، وهذا الإشكال لا يرد إلا على جعل قوله ولا أصغر ولا أكبر ، معطوفا على مثقال ، وأما إن جعل مستأنفا كما تقرر ، فلا يرد الإشكال فتأمل.

قوله : (أَلا) أداة تنبيه ، يؤتى بها ليتنبه السامع لما بعدها ، ويعتني بها لعظمه. قوله : (أَوْلِياءَ اللهِ) جمع ولي من الولاء ، وهو العز والنصر ، سموا بذلك لأنهم هم المنصورون بالله المعزوزون به ، لا يطمعون في شيء سوى القرب منه ، وولي فعيل ، إما بمعنى فاعل ، أي متولي خدمة ربه بكل ما أمكنه ، بروحه

١٠٧

آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣) الله بامتثال أمره ونهيه (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فسرت في حديث

____________________________________

وجسمه ودنياه ، أو بمعنى مفعول ، أي تولى الله إكرامه وعطاياه ونفحاته ، فلم يكله لشيء سواه ، فحيث تولى الخدمة ، تولاه الله بالنعمة والنفحة ، وهو سر قوله في الحديث : «يا دنيا من خدمني فاخدميه» فحينئذ صار معنى الولي المنهمك في طاعة ربه ، الذي أفيضت عليه الأنوار والأسرار ؛ لما ورد «من تقرب مني شبرا ، تقربت منه ذارعا ، ومن تقرب مني ذراعا ، تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة» وعلامة الولي كما في الحديث : «سئل رسول الله عن علامة الأولياء فقال : هم الذين ادارؤوا ذكر الله تعالى» وسبب ذلك ظهور أنوار المعرفة الكائنة في قلوبهم على ظواهرهم وذلك سر قوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) وقال أبو بكر الأصم : أولياء الله هم الذين تولى الله هدايتهم ، وتولوا القيام بحق العبودية لله تعالى والدعوة إليه ، والولي من الولاء ، وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض الله عليه ، ويكون مشتغلا بالله ، مستغرق القلب في نور معرفة جلال الله تعالى ، فإن رأى ، رأى دلائل قدرة الله ، وإن سمع ، سمع آيات الله ، وإن نطق ، نطق بالثناء على الله ، وإن تحرك ، تحرك في طاعة الله ، وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله ، لا يفتر عن ذكر الله ، ولا يرى بقلبه غير الله ، فهذه صفات أولياء الله ، وإذ كان العبد كذلك ، كان الله وليه وناصره ومعينه ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا). وروي عن ابن مالك الأشعري قال : «كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن لله عبادا ، ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء ، بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة ، قال : وفي ناحية القوم أعرابي ، فجثا على ركبته ورمى بيديه ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم ، من هم؟ قال : فرأيت في وجه رسول الله البشرى ، فقال : هم عباد من عباد الله ، ومن بلدان شتى ، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، ولا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح الله ، يجعل الله وجوههم نورا ، وجعل له منابر من لؤلؤة قدام الرحمن ، يفزع الناس ولا يفزعون ، ويخاف الناس ولا يخافون». وروي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من عباد الله أناسا ، ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله ، قالوا : يا رسول الله تخبرنا بأمرهم؟ قال : هم قوم تحابوا بروح الله ، على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، فو الله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، وقرأ هذه الآية (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)». وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى : إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم».

قوله : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لحفظ الله لهم في الدنيا من الأسباب التي توجب الخوف والحزن في الآخرة. قوله : (في الآخرة) أي لما في الحديث : «لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس». قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) قدر المفسر (هم) إشارة إلى أن الاسم الموصول خبر لمبتدأ محذوف ، وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره ما صفات أولياء الله؟ فأجاب : بأنهم الذين اتصفوا بالإيمان والتقوى ، والمعنى أن أولياء الله هم الذين اتصفوا بالإيمان ، وهو الاعتقاد الصحيح المبني على الدلائل القطعية والتقوى ، وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات على طبق الشرع ، ولذا قال القشيري : شرط الولي أن يكون محفوظا ، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما ، فكل من كان للشرع عليه اعتراض ، فهو مغرور مخادع ، وقال الإمام الشافعي وأبو حنيفة : إذا لم تكن العلماء أولياء الله ، فليس

١٠٨

صححه الحاكم بالرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة والثواب (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لا خلف لمواعيده (ذلِكَ) المذكور (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٤) (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) لك لست مرسلا وغيره (إِنَ) استئناف (الْعِزَّةَ) القوة (لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ) للقول (الْعَلِيمُ) (٦٥) بالفعل فيجازيهم وينصرك (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) عبيدا وملكا

____________________________________

لله ولي ، وذلك في العالم العامل بعلمه. قوله : (فسرت في حديث صححه الحاكم بالرؤيا الصالحة) إلخ. أي لأنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، وهي الرؤيا الصالحة. وفي الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» وقيل : المراد بالبشرى في الحياة الدنيا ، نزول الملائكة بالبشارة من عند الله عند الموت ، ويدل عليه قوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وقيل : البشرى في الحياة الدنيا الثناء الحسن ، ومحبة الخلق لهم ، لما ورد عن أبي ذر : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ، ويحمده الناس عليه ، قال : «عاجل بشرى المؤمن» وورد أيضا «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل فيقول له : إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض» قال بعض المحققين : إذا اشتغل العبد بالله عزوجل استنار قلبه وامتلأ نورا فيفيض من ذلك النور الذي في قلبه على وجهه ، فيظهر عليه آثار الخشوع والخضوع ، فيحبه الناس ويثنون عليه ، فتلك عاجل بشراه ، بمحبة الله له ورضوانه عليه ، وقيل : البشرى في الحياة الدنيا ظهور الكرامات وقضاء الحوائج بسهولة ، فكلما توجه العبد المحبوب لشيء من أموره قضى عاجلا ، والأحسن أن يراد بالبشرى في الدنيا جميع ما تقدم وأعظمها التوفيق لخدمة الله ، وراحة الجسد في طاعة الله ، وانشراح الصدر لذلك ، وأما البشرى في الآخرة فالجنة وما فيها من النعيم الدائم ، قال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.) قوله : (لا خلف لمواعيده) أي التي وعد الله بها أولياءه وأهل طاعته ، في كتابه وعلى ألسنة رسله ، والمعنى لا تغيير لذلك الوعد. قوله : (ذلِكَ) أي الوعد المتقدم من كونهم (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وكون هذا الوعد لا يتغير ولا يتبدل. قوله : (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر بالمقصود الكامل الذي لا يضاهى.

قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) إما بفتح الياء وضم الزاي من باب نصر ، أو بضم الياء وكسر الزاي من باب أكرم ، قراءتان سبعيتان ، والمعنى لا تهتم بأقوالهم ولا تحزن لها ، فإن الله معزك وناصرك ، وهذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من أذاهم ، وتبشير له بالنصر والظفر بالمقصود. قوله : (استئناف) أشار بذلك إلى أن الوقف تم عند قوله : (قَوْلُهُمْ) وقوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ) إلخ. كلام مستأنف من كلام الله تعالى في قوة التعليل لقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أو واقع في جواب سؤال مقدر تقديره : إن الله أمره بعدم الحزن من أجل قولهم ، مع أن أقوالهم توجب الحزن ، فأجاب الله تعالى : بأن العزة لله يعطيها لمن يشاء ، فأقوالهم لا تفيد شيئا ، فحينئذ لا يبالي بهم ولا بقولهم.

قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) أي الغلبة والسلطنة الكاملة ثابتة لله ، يخلعها على من يشاء ، ولذا قال في سورة المنافقون (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) قوله : (جَمِيعاً) حال من العزة. قوله : (فيجازيهم) أي

١٠٩

وخلقا (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره أصناما (شُرَكاءَ) له على الحقيقة تعالى عن ذلك (إِنَ) ما (يَتَّبِعُونَ) في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) أي ظنهم أنها آلهة تشفع لهم (وَإِنْ) ما (هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٦٦) يكذبون في ذلك (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) إسناد الإبصار إليه مجاز لأنه يبصر فيه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٧) سماع تدبر واتعاظ (قالُوا) أي اليهود والنصارى ومن زعم

____________________________________

على ما قدموا من خير وشر. قوله : (وينصرك) أي على من عاداك ، وهذا يقال لكل من سلك طريقة سيد المرسلين وعمل بمقتضاها ، وتعرض له الحساد بالإيذاء ، فيقال له يحزنك قولهم وعيبهم وحسدهم ، لأن العزة مملوكة وثابتة لله يعطيها لمن أراد ، فلا تنزعج منهم ولا تلتفت لهم.

قوله : (أَلا) أداة تنبيه. قوله : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من واقعة على العاقل ، فالمراد بمن في السموات والملائكة ، وبمن في الأرض الإنس والجن ، وخصهم بالذكر لشرفهم ، وليعلم أن غيرهم من باقي المخلوقات ، مملوكون لله بالطريق الأولى ، وهذا هو الحكمة في تعبيره في الآية الأولى بما وفي هذه الآية بمن ، أو يقال في الحكمة : إن التغاير إشارة إلى أن الخلق جميعا في قبضته ، ومملوكون له سبحانه وتعالى ، فإن ما مستعملة في غير العاقل كثيرا ، ومن بالعكس ، فأفاد أن جميع ما في السموات وما في الأرض ، مملوكون له حقيقة.

قوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ ما) نافية ، و (يَتَّبِعُ) فعل مضارع ، و (الَّذِينَ) فاعل ، و (يَدْعُونَ) صلته ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بيدعون ، و (شُرَكاءَ) مفعول (يَتَّبِعُ) ومفعول (يَدْعُونَ) محذوف قدره المفسر بقوله : (أصناما) والمعنى لا يتبع الذين يعبدون غير الله أصناما شركاء حقيقة ، فالمنفي كونها شركاء حقيقة ، وأما ادعاؤهم الشركة لله فثابت ، وهذا نتيجة قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فيصير المعنى حيث ثبت أن له جميع ما في السموات وما في الأرض عقلاء وغيرهم ، تحقق وثبت أنه ليس له شريك أصلا ، إذ ليس شيء مما جعلوه إلها خارجا عن السموات والأرض ، فكيف يكون المملوك شريكا تعالى الله عن ذلك.

قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي لأنهم مقلدون لآبائهم ، حيث قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). قوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) هذا من حصر الموصوف في الصفة ، أي ليس لهم صفة إلا الكذب ، والخرص في الأصل الحرز والتخمين ، والمراد منه هنا الكذب ، كما أفاده المفسر. قوله : (يكذبون في ذلك) أي اتباعهم الظن. قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) هذا من جملة الأدلة القطعية ، على أنه واحد لا شريك له ، وفي هذه الآية احتباك ، حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر ، فحذف من الأول وصف الليل وهو مظلما وذكر حكمته ، وحذف من الثاني الحكمة وذكر وصفه ، والأصل هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتبتغوا وتتحركوا فيه. قوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي لتستريحوا من تعب النهار. قوله : (مجاز) أي عقلي من الإسناد للظرف.

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الجعل المذكور. قوله : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك. قوله : (أي اليهود) أي حيث قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، وقوله : (والنصارى) أي قالوا : (الْمَسِيحُ ابْنُ

١١٠

أن الملائكة بنات الله (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال تعالى لهم (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن الولد (هُوَ الْغَنِيُ) عن كل أحد وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (إِنْ) ما (عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) حجة (بِهذا) الذي تقولونه (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٨) استفهام توبيخ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بنسبة الولد إليه (لا يُفْلِحُونَ) (٦٩) لا يسعدون لهم (مَتاعٌ) قليل (فِي الدُّنْيا) يتمتعون به مدة حياتهم (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) بالموت (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) بعد الموت (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠) (وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ) أي كفار مكة (نَبَأَ) خبر (نُوحٍ) ويبدل منه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ) شق (عَلَيْكُمْ مَقامِي) لبثي فيكم (وَتَذْكِيرِي) وعظي إياكم (بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ

____________________________________

(اللهِ) (ومن زعم) أي وهم مشركو العرب. قوله : (سُبْحانَهُ) أي تقدس وتنزه عن ذلك ، قال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) الآية. قوله : (هُوَ الْغَنِيُ) أي المستغني عن كل ما سواه ، المفتقر إليه كل ما عداه ، وهو دليل لما قبله.

قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلخ. دليل لقوله : (هُوَ الْغَنِيُ). قوله : (استفهام توبيخ) أي تقريع وتهديد لهم. قوله : (قُلْ) أمر من الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ينبههم على سوء عاقبتهم ، لعلهم ينزجرون عما هم عليه. قوله : (لا يسعدون) أي لا يفوزون بمطلوبهم ، بل هم خائبون خاسرون ، وإن تكاثرت عليهم النعم فمآلها للزوال. قوله : (مَتاعٌ) مبتدأ خبره محذوف ، قدره المفسر بقوله : (لهم) وحينئذ فالوقف على قوله : (لا يُفْلِحُونَ) وهذا جواب عما يقال : إنا نراهم في حظوظ كثيرة ، وسعة عيش وسلامة بدن ، وغير ذلك من أنواع النعم الدنيوية ، فدفع ذلك بقوله : (مَتاعٌ) (قليل) فلا يستمر ، وليس بنافع في الآخرة. قوله : (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم.

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) لما ذكر سبحانه وتعالى ، أحوال كفار قريش ، وما كانوا عليه من القبائح ، وما وعظهم الله به على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شرع في ذكر ما وقع للأنبياء مع أممهم ، ليكون ذلك تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبرة للكفار لعلهم يؤمنون. قوله : (نَبَأَ نُوحٍ) أي بعض نبئه ، إذ لم يذكر جميع خبره ، وتقدم أن اسمه عبد الغفار بن لمك بن متوشلخ بن إدريس ، ونوح لقبه ، وبينه وبين إدريس ألف سنة ، وقدم قصة قوم نوح ، لأنهم أول الأمم هلاكا ، وأشدهم كفرا. قوله : (كَبُرَ) بضم الباء في المعاني ، وأما في الأجسام فهو بكسر الباء. قوله : (مَقامِي) بفتح الميم باتفاق السبعة ، وقرىء شذوذا بضمها ، فالأول ثلاثي ، والثاني رباعي ، وهو من باب الإسناد المجازي ، وحق الإسناد أن يكون للذات ، نظير ثقل عليّ ظله. قوله : (لبثي فيكم) أي مكثي بينكم. قوله : (وَتَذْكِيرِي) إلخ. الواو بمعنى مع ، والمعنى إن كان عظم عليكم مكثي بينكم ، مع تذكيري بآيات الله ، فأجمعوا أمركم إلخ ، وذلك لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، يدعوهم إلى توحيد الله ، ففي الحقيقة الذي شق عليهم ، إنما هو دعاؤه إلى التوحيد ، ونصيحته لهم ، لأن النصيحة لا يقبلها إلا الطبع السليم. قوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي وثقت به لا بغيره ، وفوضت أموري إليه.

١١١

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) اعزموا على أمر تفعلونه بي (وَشُرَكاءَكُمْ) الواو بمعنى مع (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مستورا بل أظهروه وجاهروني به (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) امضوا فيما أردتموه (وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١) تمهلون فإني لست مباليا بكم (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن تذكيري (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) ثواب عليه فتولوا (إِنْ) ما (أَجْرِيَ) ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) السفينة (وَجَعَلْناهُمْ) أي من معه (خَلائِفَ) في الأرض (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) من إهلاكهم فكذلك نفعل بمن كذبك (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كإبراهيم وهود

____________________________________

قوله : (فَأَجْمِعُوا) هذا هو جواب الشرط ، وجملة (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) اعتراض بين الشرط وجوابه ، ولا يصح أن تكون جوابا ، لأن لا يحسن ترتبها على الشرط ، إذ هو متوكل على الله دائما ، وأجمعوا بهمزة القطع هنا باتفاق السبعة ، وهو يتعدى بنفسه وبحرف الجر ، وأما ما يا أتي في طه في قوله : (فأجمعوا كيدكم) فبهمزة الوصل والقطع قراءتان سبعيتان ، فأجمع بهمزة القطع ، مستعمل في المعاني كثيرا ، وبهمزة الوصل في الأجسام كثيرا ، يقال : أجمعت أمري ، وجمعت جيشي. قوله : (اعزموا) أي صمموا ولا تترددوا. قوله : (على أمر تفعلونه) أي كهلاكي. قوله : (الواو بمعنى مع) أي فشركاءكم منصوب على المعية ، لا معطوف على أمركم ، لأن الشركاء ذوات ، لا يتسلط عليه أجمعوا إلا بقلة ، ويصح النصب بإضمار فعل لائق ، والتقدير فأجمعوا أمركم ، واجمعوا شركاءكم ، بهمزة الوصل على حد : علفتها تبنا وماء باردا ، أو بقدر مضاف في المعطوف ، والتقدير أمر شركائكم.

قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي لا يكن أمركم مخفيا ، بل أظهروا ما في ضمائركم ، فإني لست مباليا بكم ، لأن توكلي على ربي ، فالغمة مأخوذة من قولهم : غم الهلاك إذا خفي على الناس. قوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي أدوا إلي ما اردتموه وأوصلوه لي ، وقرىء شذوذا ثم أفضوا إلي بقطع الهمزة وبالفاء ، من أفضى بالشيء ، إذا انتهى إليه وأسرع ، والمعنى ثم أسرعوا إلي بما عزمتم عليه. قوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي دمتم على التولي والكفر ، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا ضرر على ، وقوله : (فَما سَأَلْتُكُمْ) إلخ ، تعليل لذلك المحذوف. قوله : (ثواب عليه) أي على التذكير. قوله : (فتولوا) منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ، وفيه حذف إحدى التاءين ، والأصل فتولوا. قوله : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ثوابي عليه لا على غيره ، فأطلبه منه ، قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، في نفسي وتبليغ غيري.

قوله : (فَكَذَّبُوهُ) أي داموا واستمروا على تكذيبه. قوله : (فَنَجَّيْناهُ) أي أعقبنا تكذيبه النجاة له ولمن آمن معه. قوله : (وَمَنْ مَعَهُ) أي من الإنس ، وكانوا أربعين رجلا ، وأربعين امرأة. قوله : (فِي الْفُلْكِ) تقدم أنه يستعمل مفردا وجمعا. قوله : (وَجَعَلْناهُمْ) أي صيرناهم قوله : (وَأَغْرَقْنَا) إنما أخره ذكره ، والإنجاء إشارة إلى أن الرحمة سابقة على الغضب ، ولتعجيل المسرة لمن يمتثل الأمر. قوله : (فكذلك نفعل بمن كذبك) هذا هو المقصود من ذكر هذه القصص. قوله : (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) أي فكل رسول

١١٢

وصالح (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي قبل بعث الرسل إليهم (كَذلِكَ نَطْبَعُ) نختم (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤) فلا تقبل الإيمان كما طبعنا على قلوب أولئك (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) قومه (بِآياتِنا) التسع (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٧٥) (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٧٦) بين ظاهر (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) إنه لسحر (أَسِحْرٌ هذا) وقد أفلح من أتى به وأبطل سحر السحرة (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧) والاستفهام في الموضعين للإنكار (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) لتردنا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) الملك (فِي

____________________________________

بعث إلى قومه. قوله : (كإبراهيم) أي فكذبوه وآذوه ، حتى رموه في النار. قوله : (وهود) أي فكذبوه وآذوه ، فأهلكهم الله. قوله : (فَجاؤُهُمْ) أي جاء الأنبياء لأقوامهم ملتبسين بالآيات.

قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي لا يصح ولا يستقيم لهؤلاء الإيمان ، فالمراد بعدم الإيمان ، الإصرار على الكفر والتكذيب. قوله : (كَذلِكَ) أي مثل هذا الطبع. قوله : (فلا تقبل الإيمان) أي لوجود الحجاب المانع منه ، ففي الحقيقة لا يمكنهم الإيمان ، إن كانوا في الظاهر مختارين. قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا عطف قصة على قصة ، وخاص على عام ، لمزيد الغرابة في وقائع موسى مع فرعون ، وكل هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (مُوسى وَهارُونَ) أي فكل منهما رسول إلى فرعون وقومه ، لكن هارون وزير لموسى ومعين له ، قال تعالى حكاية عن موسى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) الآية. وهذا لا ينافي أن كلا منهما رسول من عند الله ، فمن أنكر رسالة واحد منهما كفر.

قوله : (وَمَلَائِهِ) تقدم أن الملأ بالقصر والهمز ، الأشراف الذين يملؤون العيون بمهابتهم ، والمجالس بأجسامهم ، والقلوب بجلالهم ، ولكن المفسر فسرهم هنا بالقوم ، فحينئذ يكون المراد بهم ما يشمل الأتباع ، وقيل المراد بالملإ خصوص الأشراف ، وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع لهم ، فإذا آمن الرؤساء آمن الأتباع ، وإذا كفروا كفر الأتباع. قوله : (التسع) تقدم منها في الأعراف ثمانية : العصا واليد والسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وستأتي التاسعة هنا في قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الآية. قوله : (فَاسْتَكْبَرُوا) الاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق له. قوله : (عن الإيمان بها) أي بتلك الآيات التسع ، وفي نسخة بهما ، أي موسى وهارون.

قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) أي الآيات التسع ، ففيه إظهار في مقام الإضمار ، وفي الحقيقة أصل نزاعهم ودعواهم ، أن ما جاء به سحر ، إنما هو في اليد والعصا. قوله : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) هذه المقالة وقعت منهم بعد مجيء السحرة ، وابتلاع العصا حبال السحرة وعصيهم. قوله : (قالَ مُوسى) أي ردا عليهم بثلاث جمل ، الأولى : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) (إنه لسحر) الثانية : (أَسِحْرٌ هذا). الثالثة : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ). قوله : (إنه لسحر) مقول لقوله : (أَتَقُولُونَ) حذف لدلالة ما قبله عليه ، ولأنه لا ينبغي أن يذكر. قوله : (وقد أفلح من أتى به) الجملة حالية. قوله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي لا يفوزون بمطلوبهم ، والجملة حالية من فاعل (أَتَقُولُونَ). قوله : (للإنكار) أي فالمعنى لا يليق ، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام.

١١٣

الْأَرْضِ) أرض مصر (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٧٨) مصدقين (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (٧٩) فائق في علم السحر (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى) بعد ما قالوا له إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٨٠) (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم (قالَ مُوسى ما) استفهامية مبتدأ خبره (جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) بدل وفي قراءة بهمزة واحدة إخبار فما موصول مبتدأ (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي سيمحقه (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١) (وَيُحِقُ) يثبت ويظهر (اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) بمواعيده (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ

____________________________________

قوله : (قالُوا أَجِئْتَنا) لما لم يجدوا حجة يعارضونه بها ، رجعوا للتقليد المحض ، فقالوا ما ذكر قوله : (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي من عبادة الأصنام. قوله : (وَتَكُونَ) معطوف على تلفتنا ، أي ولتكون. قوله : (الملك) أي وسمي بالكبرياء ، لأنه أكبر ما يطلب من أمور الدنيا ، ولأنه يورث الكبرياء والعز. قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ) ليس هذا مرتبا على ما تقدم ، فإن هذا القول وقع في ابتداء القصة ، فالمقصود هنا بيان ذكر القصة لا بقيد ترتبها ، فإن الواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا.

قوله : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) عطف على محذوف تقديره فأتوا بالسحرة. قوله : (بعد ما قالوا له) إلخ. أشار بذلك إلى أنه معطوف على محذوف ، وأصل الكلام ، فلما جاء السحرة ، وجمعوا حبالهم وعصيهم ، وقالوا لموسى : إما أن تلقي ، وإما أن نكون نحن الملقين ، قال موسى الخ. قوله : (ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أبهمه إشارة إلى تحقيره. قوله : (فَلَمَّا أَلْقَوْا) أي السحرة ، وتقدم أنهم كانوا ثمانين ألفا. قوله : (حبالهم وعصيهم) أي وتقدم أنها كانت حمل ثلاثمائة بعير. قوله : (استفهامية) أي أيّ شيء جئتم به؟ وهو للتوبيخ والتحقير. قوله : (بدل) أي من ما الاستفهامية ، وأعيدت همزة الاستفهام ، لتكشف استفهام المبدل منه ، على حد قول ابن مالك :

وبدل المضمن الهمز يلي

همزا كمن ذا أسعيد أم علي

قوله : (بهمزة واحدة إخبار) أي بإسقاط همزة الاستفهام ، ووجهت هذه القراءة ، بأن ما اسم موصول مبتدأ ، وصلتها (جِئْتُمْ بِهِ) والخبر (السِّحْرُ) ، والحاصل : أن في همزة السحر الثانية وجهين ، التسهيل والمد اللازم بقدر ثلاث ألفات ، وهاتان القراءتان على جعل ما استفهامية ، وخبرها (جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) بدل من ماء ، وأما على إسقاطها فالجملة خبرية ، وما اسم موصول مبتدأ ، (جِئْتُمْ بِهِ) صلته ، و (السِّحْرُ) خبر ، وتحذف همزة أل عند الدرج. قوله : (سيمحقه) أي فلا يبقى له أثر أصلا.

قوله : (إِنَّ اللهَ) إلخ. تعليل لقوله : (سَيُبْطِلُهُ). قوله : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) عطف على قوله : (سَيُبْطِلُهُ). قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي الكافرون. قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) الذرية اسم يقع على القليل من القوم. قوله : (أي فرعون) أشار بذلك إلى أن الضمير في قومه ، عائد على فرعون ، والمراد بذرية قومه ، ناس يسير ، منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون ، وخازنه وأولاد خازنه ، وما شطته ، وقيل : إن الضمير عائد على موسى ، وهم ناس من بني إسرائيل نجوا من قتل فرعون ، وذلك أن فرعون لما أمر بقتل بني إسرائيل ، كانت المرأة من بني إسرائيل ، إذا ولدت ابنا وهبته لقبطية ، خوفا عليه من القتل ، فنشأوا بين القبط ، فلما كان اليوم الذي غلب موسى فيه السحرة آمنوا به ، وقيل : هم بنو إسرائيل وهو الأقرب.

١١٤

طائفة (مِنْ) أولاد (قَوْمِهِ) أي فرعون (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يصرفهم عن دينه بتعذيبه (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ) متكبر (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣) المتجاوزين الحد بادعاء الربوبية (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (٨٤) (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨٥) أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيفتتنوا بنا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا) اتخذا (لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) مصلى تصلون فيه لتأمنوا من الخوف وكان فرعون منعهم من الصلاة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أتموها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧) بالنصر والجنة (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا) آتيتهم ذلك

____________________________________

قوله : (عَلى خَوْفٍ) أي مع خوف. قوله : (وَمَلَائِهِمْ) أي يملأ الذرية التي نشأوا بينهم ، على التفسير الثاني ، وأقاربهم حقيقة ، على التفسير الأول الذي ذكره المفسر. قوله : (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي فرعون ، وأفرد لأنه هو المباشر للفتنة والخوف من الملأ كان بواسطته هو. قوله : (وَقالَ مُوسى) أي تطمينا لقلوبهم ، وهذا يؤيد أن الضمير في قومه عائد على موسى ، وقد يجاب عن المفسر بأنه سماهم قومه من حيث إنه مرسل لهم. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ) جوابه (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير توكلتم عليه ، أو هو شرط في الشرط ، لأن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود ، فالشرط الثاني شرط في الأول. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي منقادين لأحكام الله. قوله : (فَقالُوا) أي جوابا لموسى. قوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا) إلخ ، دعاء منهم لله سبحانه وتعالى. قوله : (أي لا تظهرهم علينا) أي لا تجعلهم ظاهرين علينا ، وغالبين لنا. قوله : (وَنَجِّنا) أي خلصنا. قوله : (بِرَحْمَتِكَ) أي إحسانك وإنعامك. قوله : (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي الجاحدين لآياتك. قوله : (أَنْ تَبَوَّءا) يحتمل أن أن تفسيرية لوجود ضابطها ، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه ، ويحتمل أنها مصدرية ، أي أوحينا التبوء ، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى وأخيه ، أن يتخذا لقومهما مساكن بأرض مصر يتوطنون بها ويعبدون الله فيها ، رغما عن أنف عدوهم فرعون ، وهذا طمأنينة للقوم ، فإنهم كانوا خائفين من فرعون. قوله : (لِقَوْمِكُما) الأقرب أن اللام زائدة في المفعول الأول ، وبيوتا مفعول ثان. قوله : (بِمِصْرَ) متعلق بتبوآ ، والمراد بمصر القديمة.

قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي اجعلوا مساكنكم مصلى ، والمراد بالقبلة مكان التوجه لله ، لا خصوص الفجوة المعلومة ، واختلف في قبلتهم ، قيل : هي الكعبة ، وقيل بيت المقدس. قوله : (وكان فرعون منعهم من الصلاة) أي في أول أمرهم ، فأمر الله موسى ومن معه ، أن يصلوا في بيوتهم خفية ، لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، وذلك كما كان عليه المسلمون في أول الإسلام بمكة. قوله : (أتموها) أي بشروطها وأركانها المعلومة عندهم. قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي قومك الذين آمنوا بك ، وهذا خطاب لموسى وحده ، لأن البشارة على لسانه ، وما قبله من قوله : واجعلوا ، وأقيموا ، خطاب لموسى وقومه لاشتراكهم في ذلك.

قوله : (وَقالَ مُوسى) أي لما رأى فرعون وقومه ، طغوا وبغوا ، ولم ينقادوا للإسلام ، واستمروا على

١١٥

(لِيُضِلُّوا) في عاقبته (عَنْ سَبِيلِكَ) دينك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) امسخها (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) اطبع عليها استوثق (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) المؤلم دعا عليهم وأمن هارون على دعائه (قالَ) تعالى (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) فمسخت أموالهم حجارة ولم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق (فَاسْتَقِيما) على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩) في استعجال قضائي ، روي أنه مكث بعدها أربعين سنة (وَجاوَزْنا بِبَنِي

____________________________________

الكفر والعناد ، جاءه الإذن من الله بالدعاء عليهم ، وقدم سبب الدعاء ، وهو بطر النعم ، إذ هو من أعظم المعاصي الموجبة لغضب الله وسلب النعم. قوله : (زِينَةً) هي عبارة عما يتزين به من اللباس والمال والأمور الجميلة ، قال ابن عباس : كان من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة ، جبال فيها ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. قوله : (رَبَّنا) كرره تأكيدا للأول ، وتلذذا بخطاب الله. قوله : (لِيُضِلُّوا) متعلق بآتيت في كلام الله ، وأما قول المفسر (آتيتهم ذلك) إنما هو تتميم للجملة المؤكدة ، واللام للعاقبة والصيرورة ، وإلى هذا أشار المفسر بقوله : (في عاقبته). قوله : (عَنْ سَبِيلِكَ) أي طاعتك وتوحيدك.

قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي أزل صورها وهيئاتها ، قال قتادة : بلغنا أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم صارت حجارة ، ودنانيرهم ودراهمهم صارت حجارة منقوشة كهيئتها ضحاحا أو أنصافا أو أثلاثا ، وهذا الطمس آخر الآيات التسع. قوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي أربط عليها ، حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ، وإنما دعا بذلك ، لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهما أنهم لا يؤمنون ، فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم ، فكان ترجمانا عن الله ، وأما الدعاء على الكافر المجهول العاقبة بموته على الكفر فلا يحل. قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا) عطف على (لِيُضِلُّوا) فيكون منصوبا ، أو هو مجزوم بجعل لا دعائية. قوله : (دعاء عليهم) الأقرب أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره هذا دعاء عليهم. أي قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا) إلخ ، ودفع بذلك ما قيل إنه خبر ، وليس من جملة الدعاء فتأمل. قوله : (وأمن هارون على دعائه) أي والمؤمن أحد الداعيين ، فصحت التثنية في قوله : (دَعْوَتُكُما) وهو جواب عما يقال إن الداعي موسى ، فلم ثنى الضمير في دعوتكما. قوله : (فمسخت أموالهم) أي الدنانير والدراهم والنخيل والزروع والثمار والخبز البيض وغير ذلك ، وقيل : مسخت صورهم أيضا ، فكان الرجل مع أهله فصارا حجرين ، والمرأة فائمة تخبر صارت حجرا ، وهذا قول ضعيف ، لأن موسى دعا على أموالهم ، ولم يدع على أنفسهم بالمسخ.

قوله : (فَاسْتَقِيما) أي دوما على الاستقامة. قوله : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) خطاب لموسى وهارون ، والمراد غيرهما على حد : لئن أشركت ليحبطن عملك ، والمعنى لا تسلكا طريق الجاهلين ، الذين يظنون أنه متى دعا الإنسان ، أجيب بعين مطلوبة في الحال ، لأن الإجابة على مراد الله ، فربما يجاب الشخص بغير مطلوبه ، أو تتأخر إجابته ، لحكم يعلمها الله ، وفي (تَتَّبِعانِ) ثلاث قراءات سبعيات ، تشديد النون مع تشديد التاء فقط ، وتخفيفها مع تشديد التاء وتخفيفها. فعلى الأولى : تكون النون للتوكيد الثقيلة ، وكسرت تشبيها بنون المثنى ، والفعل مجزوم بحذف النون. وعلى الثانية والثالثة تكون الجملة اسمية ، والنون نون الرفع ، والتقدير وأنتما لا تتبعان. قوله : (روي أنه) أي نزول العذاب بهم ، مكث

١١٦

إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ) لحقهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) مفعول له (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي بأنه وفي قراءة بالكسر استئنافا (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠) كرره ليقبل منه فلم يقبل ودس جبريل في فمه من حمأة البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له (آلْآنَ) تؤمن (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١) بضلالك وإضلالك عن

____________________________________

أربعين سنة من حين الدعوة ، وهذا التأخير لحكمة يعلمها الله.

قوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) إلخ لما استجاب الله دعاء موسى وهارون ، بالطمس على أموالهم ، والربط على قلوبهم ، أوحى الله إلى موسى وهارون ، أن أسر بعبادي ، واخرج بهم من أرض مصر ، وورد أن يعقوب لما دخل مصر مع ذريته ، لاجتماعهم بيوسف ، كانوا اثنين وسبعين ، فلما خرج موسى بهم ، كانوا ستمائة الف ، وكان فرعون غافلا عن ذلك ، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته ، خرج في عقبهم ، فلما أدركهم قالوا لموسى : أين المخلص ، والبحر أمامنا والعدو وراءنا ، فلما قربوا ، أوحى الله إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق ، فقطعه موسى وبنو إسرائيل ، فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم ، وكان معه ثمانمائة الف حصان على لون حصانه ، سوى سائر الألوان ، وكان يقدمهم جبريل على فرس أنثى ، وميكائيل يسوقهم حتى لا يبقى منهم أحد ، فدنا جبريل بفرسه ، فلما وجد الحصان ريح الأنثى ، لم يتمالك فرعون نفسه ، فنزل البحر وتبعه جنوده ، حتى إذا اكتملوا جميعا في البحر ، وهم أولهم بالخروج ، انطبق عليهم ، وحصان بوزن كتاب ، وجمعه حصن ككتب ، كذا في القاموس.

قوله : (وَجاوَزْنا) من المجاوزة وهي التخطية والتعدية ، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر ، بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. قوله : (الْبَحْرَ) أي بحر السويس. قوله : (لحقهم) أي مشى خلفهم. قوله : (بَغْياً) أي في الأقوال (وَعَدْواً) ، أي في الأفعال ففرعون متعد على بني إسرائيل ، بالأقوال الكاذبة والأفعال الجائرة. قوله : (مفعول له) أي لأجله ، ويصح نصبهما على الحال ، أي باغين ومتعدين.

قوله : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) غاية لاتباعه. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (استئنافا) أي واقعا في جواب سؤال مقدر ، أو على إضمار القول ، والتقدير قائلا إنه إلخ. قوله : (كرره ليقبل منه) أي كرر الإقرار بالإيمان ثلاث مرات. قوله : (آمَنْتُ) ، وقوله : (أَنَّهُ) إلخ ، وقوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). قوله : (فلم يقبل) أي فمات على كفره ، وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وما قيل من أنه مات مؤمنا ، فلا يلتفت له. قوله : (ودس جبريل) أي بأمر من الله ، وهو لا يسأل عما يفعل ، وذلك نظير أمرنا بقتل الكفار ، وبهذا تعلم جواب إشكال الفخر الرازي في هذا المقام. قوله : (من حمأة البحر) بسكون الميم وتحريكها ، وهي الطين الأسود. قوله : (مخافة أن تناله الرحمة) أي وليس من أهلها لسابق علم الله بعدم إيمانه. إن قلت : ما الحكمة في عدم قبوله مع كون الإيمان وقع منه ثلاث مرات؟ أجيب بأجوبة ، منها : أنه إنما آمن عند نزول العذاب ، وهو حينئذ غير نافع ، قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ومنها : أن الإيمان بالله ، من غير إقرار للرسول بالرسالة غير نافع ، وفرعون لم

١١٧

الإيمان (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) نخرجك من البحر (بِبَدَنِكَ) جسدك الذي لا روح فيه (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) بعدك (آيَةً) عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك ، وعن ابن عباس أن بعض بني إسرائيل شكوا في موته فأخرج لهم ليروه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي أهل مكة (عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) لا يعتبرون بها (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أنزلنا (بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزل كرامة وهو الشام ومصر (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا) بأن آمن بعض وكفر بعض (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣) من أمر الدين بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين (فَإِنْ كُنْتَ) يا محمد (فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من القصص فرضا

____________________________________

يقر برسالة موسى عليه‌السلام ، فلم يصح إيمانه. ومنها : أن قوله : (آمَنْتُ) ليس قاصدا به الإيمان حقيقة ، بل قصد به النجاة من البحر على حكم عادته ، إذا أصابته مصيبة رجع واستجار. وحكي أن جبريل عليه‌السلام ، أتى لفروعون بفتوى : ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته ، فكفر نعمته ، وجحد حقه ، وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه. يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده ، الكافر نعمته ، أو يغرق في البحر ، فلما غرق ، رفع جبريل إليه خطه. قوله : (وقال له) معطوف على قوله ودس ، وقدره إشارة إلى أن قوله : (آلْآنَ) ظرف لمحذوف ، والجملة مقول لذلك القول المقدر.

قوله : (آلْآنَ) استفهام توبيخ وتقريع. قوله : (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) الجملة الحالية ، والمعنى آلآن تتوب ، وقد ضعيت الإيمان في وقته الذي يقبل فيه ، وهو غير وقت العذاب. قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) بالتشديد والتخفيف ، قراءتان سبعيتان. قوله : (بِبَدَنِكَ) حال من الضمير في (نُنَجِّيكَ) والمعنى فاليوم نخرجك من البحر ، ملتبسا ببدنك فقط ، لا مع روحك كما هو مطلوب ، وقيل المراد بالبدن الدرع ، لأن له درعا كان يعرف بها ، فلما ألقي على وجه الأرض وعليه درعه عرفوه. قوله : (فيعرفوا عبوديتك) أي ويبطلوا دعوى ألوهيتك ، لأن الإله لا يموت ولا يتغير. قوله : (شكوا في موته) إنما وقع منهم الشك ، لشدة ما حصل في قلوبهم من الرعب منه ، فأمر الله البحر فألقاه على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور ، فرآه بنو إسرائيل فعرفوه ، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتا أبدا.

قوله : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) هذا امتنان من الله تعالى على بني إسرائيل بنعم عظيمة. قوله : (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي أنزلناهم منزلا حميدا صالحا وإنما وصف المكان بالصدق لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق يقولون هذا قدم صدق ورجل صدق. قوله : (وهو الشام ومصر) أي وقيل مصر فقط لأنها التي كانت تحت أيدي فرعون وقومه.

قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا) أي من فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرائيل وذلك أنهم قبل مبعث النبي مؤمنين به غير مختلفين في نبوته لما يجدونه مكتوبا عندهم فلما بعث اختلفوا فيه فآمن بعضهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وكفر بعض. قوله : (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي القرآن وذلك أن اليهود كانوا يخبرون بمبعثه وصفته ويفتخرون بذلك على المشكرين فلما بعث اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر. قوله : (فرضا)

١١٨

(فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) التوراة (مِنْ قَبْلِكَ) فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أشك ولا أسأل (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤) الشاكين فيه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥) (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) وجبت (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بالعذاب (لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦) (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧) فلا ينفعهم حينئذ (فَلَوْ لا) فهلا (كانَتْ قَرْيَةٌ) أريد أهلها (آمَنَتْ) قبل نزول العذاب بها (فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا) لكن (قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) عند رؤية العذاب ولم يؤخروا إلى

____________________________________

جواب عما يقال إن الشك محال على رسول الله فأجاب بأنه على فرض المحال ، وأجيب أيضا بأن الخطاب له والمراد غيره ، وهذا هو الأتم في تلك الآيات.

قوله : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ) إلخ أي فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم. قوله : (يخبروك) محزوم في جواب الأمر وهو اسأل. قوله : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) أي اليقين من الخبر بأنك رسول الله حقا ، وهذا كلام منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره والله لقد جاءك الحق إلخ. قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم الشك والإمتراء قوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي ثبت حكمه وقضاؤه بموتهم على الكفر فلا يأتي منهم الإيمان أصلا إذ لا معقب لحكمه سبحانه وتعالى. قوله : (حَتَّى يَرَوُا) غاية في النفي. قوله : (فلا ينفعهم حينئذ) أي كفرعون وأضرابه.

قوله : (فَلَوْ لا) أشار المفسر بقوله : (هلا) إلى أنها تحضيضية ، وهو للتوبيخ مع النفي ، وكان فعل ماض تام ، و (قَرْيَةٌ) فاعلها ، و (آمَنَتْ) صفة قرية ، وقوله : (فَنَفَعَها) معطوف على (آمَنَتْ) عطف مسبب على سبب ، والمعنى لم تكن قرية من تلك القرى التي تقدمت قوم يونس كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى آمنت ، فيتسبب على إيمانها كونه نافعا لها ، والحاصل : أن الآية تضمنت تحضيضا وتوبيخا ونفيا ، فالنفي راجع لمن مضى ، والتوبيخ والتحضيض راجعان لمن يسمع. قوله : (أريد أهلها) أشار بذلك إلى أن في الكلمة مجازا مرسلا من باب تسمية الحال باسم المحل ، لا مجازا بالحذف.

قوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) أشار المفسر إلى أن الاستثناء منقطع ، حيث عبر بلكن ، وضابط الاستدراك موجود ، وهو رفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه ، فأتى به هنا لدفع توهم أنهم كغيرهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب ، فرفع ذلك التوهم ، بأن قوم يونس آمنوا قبل نزول العذاب ، بل عند حضور أماراته ، ولذلك نفعهم إيمانهم ، وأما غيرهم ، فلم يؤمن قبل نزوله ، أعم من أن يكون آمن وقت نزوله ، أو لم يؤمن أصلا. قوله : (ولم يؤخروا إلى حلوله) أي بل عجلوا الإيمان عند ظهور أماراته وحاصل قصتهم ، على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم ، قالوا : إن قوم يونس كانوا بقرية تسمى نينوى من أرض الموصل ، وكانوا أهل كفر وشرك ، فأرسل الله عزوجل إليهم يونس عليه‌السلام ، يدعوهم إلى الإيمان بالله ، وترك عبادة الأصنام ، فدعاهم فأبوا عليه ، فقيل له أخبرهم أن العذاب يصحبهم إلى ثلاث ، فأخبرهم بذلك ، فقالوا : إنا لم نجرب عليه كذبا قط ، فانظروا ، فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم ؛ فلما كان جوف الليل ، خرج يونس من بين أظهرهم ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب ، فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس : إن العذاب كان أهبط على قوم يونس ، حتى لم

١١٩

حلوله (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) انقضاء آجالهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بما لم يشأه الله منهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) لا (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) العذاب

____________________________________

يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دعوا كشفه الله عنهم ، وقال قتادة : قدر ميل ، وقال سعيد بن جبير : غشى قوم يونس العذاب ، كما يغشى الثوب الغبر ، وقال وهب : غامت السماء غيما أسود هائلا ، يدخن دخانا شديدا ، فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسطحتهم ، فلما رأوا العذاب أيقنوا بالهلاك ، فطلبوا نبيهم يونس فلم يجدوه ، فقذف الله في قلوبهم التوبة ، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، ولبسوا المسوح ، وأظهروا الإيمان والتوبة ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب ، فحن البعض للبعض ، فحنت الأولاد إلى الأمهات ، والأمهات إلى الأولاد ، وعلت الأصوات ، ولجؤوا جميعا إلى الله تعالى ، وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس ، وتابوا إلى الله وأخلصوا النية ، فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم ، وكشف ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم ، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء ، وكان يوم الجمعة ، قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم ، أنهم ردوا المظالم فيما بينهم ، حتى انه كان الرجل يأتي إلى الحجر ، وقد وضع عليه أساس بنائه فيقلعه فيرده ، وروى الطبراني بسنده قال : لما غشي قوم يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له : إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ قال : قولوا يا حي حين لا حي ، ويا حي يحيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت. فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ، ومتعوا إلى حين ، وقال الفضيل بن عياض : إنهم قالوا : اللهم إن ذنبونا قد عظمت وجلت ، وأنت أعظم وأجل ، فافعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، فلما خرج يونس جعل ينتظر العذاب ، فلم ير شيئا ، فقيل له : ارجع إلى قومك ، قال : وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا؟ وكان كل من كذب ولا بينة له قتل ، فانصرف عنهم مغاضبا فنزل في سفينة فلما بلغت وسط البحر وقفت ، وكان من عادتهم أن السفينة لا تقف إلا إذا كان فيها عبد أبق ، فضربوا القرعة فخرجت على يونس ، فألقوه في البحر فالتقمه الحوت ، فنادى في الظلمات : أن لا إله إلا أنت سبحانك ، إن كنت من الظالمين ، فاستجاب الله نداءه ، وأخرجه من بطن الحوت ضعيفا فأنبت الله عليه شجر القرع ، ورجع إلى قومه وكانوا يزيدون عن مائة الف ، ففرحوا به وأحبوه وآمنوا به ، فهنيئا لمن رجع إلى مولاه ، وندم على ما جناه فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات. قوله : (انقضاء آجالهم) تفسير للحين ، ودفع بذلك ما قيل : إن قوم يونس من المنظرين لا يموتون إلا عند النفخة الأولى ، فأجاب المفسر : بأن معنى الحين انقضاء آجالهم.

قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مفعول شاء محذوف ، أي إيمان جميع الناس. قوله : (كُلُّهُمْ) توكيد لمن ، و (جَمِيعاً) حال منها ، والمعنى لو أراد الله إيمان من في الأرض لآمنوا كلهم ، حال كونهم مجتمعين. قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير أتحزن على عدم إيمانهم وتتأسف عليه ، أفأنت تكره إلخ. قوله : (لا) أي لست بمكره للناس على الإيمان ، والمعنى ليس عليك إلا البلاغ ، لا خلق الإيمان في قلوبهم وإكراههم عليه ، فإن الأمر لله لا خالق سواه.

قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) ، إلخ ، بيان وتعليل لما قبله ، والمعنى ما ثبت لنفس من الأنفس

١٢٠