حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

لغيره من الأديان وهو دين الإسلام (مِنَ) بيان للذين (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) الخراج المضروب عليهم كل عام (عَنْ يَدٍ) حال أي منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها (وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩) أذلاء منقادون لحكم الإسلام (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ) عيسى (ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) لا مستند لهم عليه

____________________________________

قوله : (دِينَ الْحَقِ) من إضافة الموصوف لصفته. قوله : (الناسخ لغيره) أي الماحي له ، فمن اتبع غير الإسلام فهو كافر ، قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ويصح أن يراد بالحق الله سبحانه وتعالى ، لأن من أسمائه الحق ، والمراد بدين الله الإسلام.

قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) غاية لقتالهم ، وسميت جزية لأنها جزاء لكف القتال عنهم وتأمينهم. قوله : (الخراج المضروب عليهم) أي الذي يجعله الإمام على ذكورهم الأحرار البالغين الموسرين. قوله : (أي منقادين) تفسير باللازم ، أي فاليد كناية عن الانقياد. قوله : (لا يوكلون بها) أي فاليد على حقيقتها ، وهذا التفسير يناسب مذهب مالك ، لأن عنده لا يجوز التوكيل في دفعها ، بل كل واحد يدفع جزيته بيده وحين دفعها يبسط الكافر يده بها ، ويأخذها المسلم من يده ، لتكون يد المسلم هي العليا ، ثم بعد أخذها يصفعه المسلم على قفاه ، وعند الشافعي يجوز التوكيل في دفعها.

قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) إلخ ، هذا من تفصيل عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، و (عُزَيْرٌ) بالصرف وعدمه قراءتان سبعيتان ، فالصرف على أنه عربي فلم توجد فيه إلا علة واحدة ، وعدمه على أنه أعجمي ففيه العلتان و (ابْنُ) خبر عزير فيرسم بالألف لأنه ليس بصفة للعلم ، وسبب تلك المقالة على ما قاله ابن عباس ، أن عزيرا كان فيهم ، وكانت التوراة عندهم ، والتابوت فيهم ، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فرفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ، ومسحها من صدورهم ، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه التوراة ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه ، فأذن في قومه وقال : يا قوم ، قد آتاني الله التوراة وردها علي ، فعلقوا به يعلمهم ، ثم مكثوا ما شاء الله ، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت ، عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا ، إلا لأنه ابن الله.

قوله : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) المسيح لقب له ، إما لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برىء ، أو لأنه ممسوح بالبركة ، وسبب مقالتهم ، أنهم كانوا على الدين الحق ، بعد رفع عيسى عليه‌السلام إحدى وثمانين سنة ، يصلون إلى القبلة ويصومون ، حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص ، قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه‌السلام ، ثم قال بولص لليهود : إن كان الحق مع عيسى ، فقد كفرنا والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة ، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ، ثم إنه عمد إلى فرس كان يقاتل عليه ، فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه ، ثم إنه أتى إلى النصارى فقالوا له : من أنت؟ قال : أنا عدوكم بولص ، قد نوديت من السماء ، أنه ليست لك توبة حتى تتنصر ، وقد تبت وأتيتكم ، فأدخلوه الكنيسة ونصروه ، ودخل

٤١

بل (يُضاهِؤُنَ) يشابهون به (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) من آبائهم تقليدا لهم (قاتَلَهُمُ) لعنهم (اللهُ أَنَّى) كيف (يُؤْفَكُونَ) (٣٠) يصرفون عن الحق مع قيام الدليل (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) علماء اليهود (وَرُهْبانَهُمْ) عباد النصارى (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) حيث اتبعوهم في تحليل ما حرم وتحريم ما أحل (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا) في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي بأن يعبدوا (إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١) (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) شرعه وبراهينه (بِأَفْواهِهِمْ) بأقوالهم فيه (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَ) يظهر (نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) ذلك (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) يعليه (عَلَى الدِّينِ

____________________________________

بيتنا فيها ، فلم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ، ثم خرج وقال : قد نوديت أن الله قد قبل توبتك ، فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ، ثم إنه عهد إلى ثلاثة رجال ، اسم واحد نسطورا ، والآخر يعقوب والآخر ملكان ، فعلم نسطورا أن عيسى ومريم آلهة ثلاثة ، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان وأنه ابن الله ، وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ، فلما تمكن ذلك فيهم ، دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له : أنت خالصتي ، وادع الناس لما علمتك ، وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ، ثم قال لهم : إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني ، وقال لكل واحد منهم إني سأذبح نفسي تقربا إلى عيسى ، ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه ، وتفرق أولئك الثلاثة ، فذهب واحد إلى الروم ، وواحد إلى بيت المقدس ، والآخر إلى ناحية أخرى ، وأظهر كل واحد منهم مقالته ، ودعا الناس إليها ، فتبعه على ذلك طوائف من الناس ، فتفرقوا واختلفوا.

قوله : (بِأَفْواهِهِمْ) من المعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه ، فذكرها مبالغة في الرد عليهم ، قوله : (يُضاهِؤُنَ) بضم الهاء بعدها واو ، وبكسر الهاء بعدها همزة مضمومة ، ثم واو ، قراءتان سبعيتان. قوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عن رحمته ، فهو دعاء عليهم. قوله : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) استفهام تعجب ، والاستفهام رجع إلى الخلق ، لأن الله يستحيل عليه التعجب. قوله : (اتَّخَذُوا) أي اليهود والنصارى. قوله : (أَحْبارَهُمْ) جمع حبر بالفتح والكسر ، والثاني أفصح ، العالم الماهر. قوله : (حيث اتبعوهم) أشار بذلك إلى أنهم لم يتخذهم أربابا حقيقة ، بل المعنى كالأرباب في شدة امتثالهم أمرهم.

قوله : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) بالنصب على عطف على (أَحْبارَهُمْ) والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره ربا. قوله : (وَما أُمِرُوا) إلخ ، الجملة حالية. قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية لإلها. قوله : (شرعه وبراهينه) أي الدالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي ثلاثة أمور : أحدها المعجزات الظاهرات ، ثانيها القرآن العظيم ، ثالثها كون دينه الذي أمر باتباعه ، وهو دين الإسلام ، ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والانقياد لأمره ونهيه ، والتبري من كل معبود سواه ، فهذه أمور نيرة واضحة في صحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أراد إبطال ذلك فقد خاب سعيه. قوله : (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أي يعليه ويرفع شأنه. قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : ولو كره الكافرون إتمامه لأتمه ولم يبال بهم. قوله : (بِالْهُدى) أي القرآن. قوله : (وَدِينِ الْحَقِ) أي دين الإسلام. قوله : (جميع

٤٢

كُلِّهِ) جميع الأديان المخالفة له (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣) ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ) يأخذون (أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) كالرشا في الحكم (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَالَّذِينَ) مبتدأ (يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) أي الكنوز (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لا يؤدون منها حقه من الزكاة والخير (فَبَشِّرْهُمْ) أخبرهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤) مؤلم (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى) تحرق (بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

____________________________________

الأديان المخالفة له) أي بنسخه لها. قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) كرر لمزيد التهكم بهم والرد عليهم ، ووصفهم أولا بالكفر ، وثانيا بالإشراك ، إشارة إلى أنهم اتصفوا بكل منهما.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) إلخ لما بين عقائد الأتباع وصفاتهم ، شرف في بيان صفات الرؤساء والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى. وفي قوله : (كَثِيراً) إشارة إلى أن الأقل من الأحبار والرهبان لم يكونوا كذلك ، كعبد الله بن سلام وأضرابه من الأحبار ، والنجاشي وأضرابه من الرهبان. قوله : (يأخذون) أشار بذلك إلى أن المراد بالأكل الأخذ ، فأطلق الخاص وأريد العام ، من باب تسمية الشيء باسم جزئه الأعظم ، لأن معظم المقصود من أخذ الأموال أكلها.

قوله : (بِالْباطِلِ) قيل هو تخفيف الشرائع والتساهل فيها لسفلتهم ، وقيل هو تغيير صفات المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكائنة في التوراة والإنجيل ، وقيل ما هو أعم وهو الأحسن ، والباعث لهم على ذلك حب الرياسة وأخذ الأموال. قوله : (كالرشا) بضم الراء وكسرها ، جمع رشوة ، بالضم على الأول ، والكسر على الثاني ، وفي القاموس : الرشوة مثلثة وهي الجعل على الحكم ، وهي حرام ولو على الحكم بالحق ، فما بالك بأخذها على الحكم بالباطل ، أما حبل الاستقاء ، فيقال فيه رشاء بالكسر والمد. قوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام. قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) الكنز في الأصل جمع المال ودفنه وعدم الإنفاق منه ، واختلف في المراد بالذين يكنزون الذهب والفضة ، فقيل المراد بهم أهل الكتاب ، لأن شأنهم الحرص وكنز المال ، وقال ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين والحقوق الواجبة ، وقال أبو ذر : نزلت في أهل الكتاب والمسلمين ، الذين يمنعون الزكاة والحقوق الواجبة. روي أن أبا ذر اختلف مع معاوية في هذه الآية ، فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب ، وقال أبو ذر : نزلت فينا وفيهم ، فكتب معاوية وكان أميرا على الشام إلى عثمان يشكوه ، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن أقدم المدينة فقدم ، فازدحم عليه الناس حتى كأنهم لم يروه قبل ذلك ، فأخبر عثمان بذلك ، فقال له : إن شئت تنحيت ، فكنت قريبا منا ، فنزل بالربذة وقال : ولو أمروا علي عبدا حبشيا لسمعت وأطعت. قوله : (أي الكنوز) أي المدلول عليها بقوله : (يَكْنِزُونَ) ودفع بذلك ما يقال : إن المتقدم شيئان ، الذهب والفضة ، فكان مقتضاه تثنية الضمير ، فلم أفرد؟ فأجاب : بأنه عائد على الكنوز المفهومة من السياق.

قوله : (فَبَشِّرْهُمْ) إنما سمي بشارة تهكما بهم ، وإشارة إلى أنه بمنزلة الوعد في عدم تخلفه. قوله : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) ظرف لقوله : (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) و (يُحْمى) يجوز أن يكون من حميته وأحميته ثلاثيا ورباعيا ، يقال : حميت الحديدة وأحميتها ، أوقدت عليها لتحمى ، والفاعل محذوف تقديره يوم تحمى النار عليها ، أي تتقد على تلك الكنوز ، (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) إلخ ، فلما حذف الفاعل ، ذهبت علامة

٤٣

وَظُهُورُهُمْ) وتوسع جلودهم حتى توضع عليها كلها ويقال لهم (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥) أي جزاءه (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) المعتد بها للسنة (عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) اللوح المحفوظ (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها) أي الشهور (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) محرمة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب (ذلِكَ) أي تحريمها (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي الأشهر الحرم (أَنْفُسَكُمْ) بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا وقيل في الأشهر كلها (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) جميعا في كل الشهور (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ

____________________________________

التأنيث ، ولذلك قرىء بالتاء من فوق ، وأنيب الجار والمجرور منابه ، ولتضمنه معنى الانقياد عدي بعلى. قوله : (جِباهُهُمْ) المراد بها جهة الإمام بدليل المقابلة. قوله : (وتوسع جلودهم) أي حتى لا يوضع دينار على دينار ، ولا درهم على درهم ، وذلك بعد جعلها صفائح من نار. قوله : (أي جزاؤه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، لأن الكنوز لا تذاق ، وهذا عذابه في الآخرة ، وورد أنه يصور ماله في قبره بصورة شجاع أقرع له زبيبتان ، يا أخذ بلزمتيه أي شدقيه ويقول : أنا كنزك ، أنا مالك ، فلا مانع من حصول الجميع له ، أجارنا الله من أسباب ذلك.

قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) إلخ المقصود من ذلك الرد على الجاهلية ، حيث يزيدون في الأشهر ، بحسب أهوائهم الفاسد ، فرارا من القتال في الأشهر الحرام ، فإنهم كانوا يعظمون الأشهر الحرم ، فلا يقاتلون فيها ، فكانوا إذا اضطروا للقتال فيها ، ادعوا أنها لم تأت وقاتلوا فيها ، فربما جعلوا السنة أربعة عشر شهرا أو أزيد بحسب ما تسوله عقولهم الفاسدة. قوله : (عِنْدَ اللهِ) ظرف متعلق بمحذوف صفة للشهور.

قوله : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) وهذه شهور السنة القمرية العربية التي يعتد بها المسلمون في عباداتهم كالصيام والحج وسائر أمورهم ، وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوما ، والسنة الشمسية وتسمى القبطية ، وهي عبار عن دور الشمس في الفلك دورة تامة ، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع ، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية ، إما عشرة أيام ، أو أحد عشر يوما ، خمسة أيام نقص الشهور العربية ، وخمسة أيام النسيء إن كانت السنة بسيطة ، وستة أيام إن كانت كبيسة ، فكل أربع سنين تأتي فيها سنة كبيسة ، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية ، فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف. قوله : (فِي كِتابِ اللهِ) صفة لاثنا عشر. قوله : (محرمة) أي معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعات. قوله : (ذو القعدة) بفتح القاف وكسرها ، والفتح أفصح عكس الحجة. قوله : (بالمعاصي) أي فظلم النفس يكون بمخالفة الله ، لأنه بسبب ذلك تعرض لغضب الله الموجب لدخول النار. قوله : (فإنها فيها أعظم وزرا) أي أشد إثما منه في غيرها.

قوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) هذه الآية ناسخة لآية البقرة المفيدة حرمة القتال في الأشهر الحرم ، قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) الآية ، وقوله : (كَافَّةً) مصدر في موضع الحال من فاعل (قاتِلُوا) أو من (الْمُشْرِكِينَ) ولا يثنى ولا تجمع ولا تدخل عليه أل ولا

٤٤

الْمُتَّقِينَ) (٣٦) بالعون والنصر (إِنَّمَا النَّسِيءُ) أي التأخير لحرمة شهر إلى آخر كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة المحرم إذا هل وهم في القتال إلى صفر (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لكفرهم بحكم الله فيه (يُضَلُ) بضم الياء وفتحها (بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ) أي النسيء (عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا) يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله (عِدَّةَ) عدد (ما حَرَّمَ اللهُ) من الأشهر فلا

____________________________________

يتصرف فيه بغير الحال. قوله : (بالعون والنصر) أي فمعيته مع المتقين زائدة على معيته مع الخلق أجمعين ، المشار إليها بقوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) لأنها معية تصريف وتدبير ، وذلك لا يختص بالإنسان ، بل مع كل مخلوق حيوانا وجمادا.

قوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ) فعيل بمعنى مفعول ، والمراد به تأخيرهم حرمة المحرم إلى صفر ، كما في المختار ، وهذه قراءة الجمهور بهمزة بعد الياء ، وفي قراءة سبعية بإبدال الهمزة ياء ، أو إدغام الياء فيها ، وقرىء شذوذا ، بسكون السين وبفتح النون وبضم السين بوزن فعول. قوله : (كما كانت الجاهلية تفعله) أي لأن الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرام وتعظيمها ، وكانت معائشهم من الغزو ، وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، فأخروا تحريم شهر إلى شهر آخر ، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، فإذا احتاجوا إلى القتال ، أخروا التحريم إلى ربيع الأول ، وهكذا ، حتى استدار التحريم على السنة كلها ، وكانوا يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين ، والمحرم كذلك ، وهكذا باقي الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة ذا القعدة ، ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة الوداع ، فوافقت شهر الحج المشروع ، وهو ذو الحجة ، فوقف بعرفة في اليوم التاسع ، وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى حيث قال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر ، الذين بين جمادى وشعبان ، أي شهر هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس ذا الحجة؟ قلنا : بلى ، قال : أي بلد هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليست البلدة؟ قلنا : بلى. قال : فأي يوم هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس يوم النحر؟ قلنا : بلى ، قال : فإن دماؤكم وأموالكم ـ قال محمد وأحسبه قال : وأعراضكم ـ عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم بعضا ، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ، ثم قال : ألا هل بلغت؟ مرتين. قوله : (إذا هل) بالبناء للفاعل وللمفعول ، ويقال استهل وهل : إذا رفع الصوت عند ذكره ، وبذلك سمي الهلال. قوله : (بضم الياء) أي مع فتح الضاد مبنيا للمفعول في السبعة ، ومع كسر الضاد مبنيا للفاعل في العشرة. قوله : (وفتحها) أي مع كسر الضاد لا غير ، وهي سبعية أيضا ، فتكون القراءات ثلاثا : واحدة عشرية ، واثنتان سبعيتان. قوله : (أي النسيء) المراد به هنا اسم المفعول أي المنسوء أي المؤخر ، وهو تحريم بعض الشهور.

قوله : (يُحِلُّونَهُ عاماً) فيه وجهان : أحدهما : أن الجملة تفسيرية للضلال ، الثاني : أنها حالية. قوله : (لِيُواطِؤُا) تنازعه كل من يحلونه ويحرمونه ، فيجوز الثاني أو الأول. قوله : (إلى أعيانها) أي الأربعة التي اشتهر تحريمها ، لأنهم لو التزموا أعيانها لم يضلوا. قوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) بالبناء

٤٥

يزيدون على تحريم أربعة ولا ينقصون ولا ينظرون إلى أعيانها (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) فظنوه حسنا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧) ونزل لما دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى غزوة تبوك وكانوا في عسرة وشدة حر فشق عليهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) بادغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل أي تباطأتم وملتم عن

____________________________________

للمفعول والمزين لهم الشيطان. قوله : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يوصلهم للسعادة. قوله : (ونزل لما دعا) إلخ أي من هنا إلى قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) فهذه الآيات متعلقة بغزوة تبوك والمتخلفين عنها من المنافقين وغيرهم. قوله : (إلى غزوة تبوك) بالصرف على إرادة البقعة ، ومنع للعلمية والتأنيث ، وكانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه من الطائف ، وسبب توجهه لها أنه بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام ، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قليلا ما يخرج في غزوة إلا ورى عنها بغيرها ، إلا ما كان من غزوة تبوك ، وذلك لبعد المسافة ، لأنها على طرف الشام ، بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة ، فأمرهم بالجهاد ، وبعث إلى مكة وقبائل العرب ، وهي آخر غزاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنفق عثمان نفقة عظيمة ، فجهز عشرة آلاف ، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار ، غير تسعمائة بغير ومائة فرس وما يتعلق بذلك ، وجاء أبو بكر بجميع ماله أربعة آلاف درهم ، وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء ابن عوف بمائة أوقية ، وجاء العباس بمال كثير ، وكذا طلحة ، وبعثت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن ، فلما تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس ، وهم ثلاثون الفا ، وقيل أربعون الفا ، وقيل سبعون الفا ، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس ، وخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري ، وقيل علي بن أبي طالب ، وتخلف عبد الله بن أبيّ ومن كان معه من المنافقين ، فبعد أن خرج بهم إلى ثنية الوداع متوجها إلى تبوك ، عقد الألوية والرايات ، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر ، ورايته العظمى للزبير ، وراية الأوس لأسيد بن حضير ، وراية الخزرج للحباب بن المنذر ، ودفع لكل بطن من الأنصار ، ومن قبائل العرب ، لواء وراية ، ولما نزلوا تبوك ، وجدوا عينها قليلة الماء ، فاغترف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غرفة من مائها ، فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ، ففارت عينها حتى امتلأت وارتووهم وخيلهم وركابهم ، وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة ، وقيل عشرين ليلة ، فأتاه يحنة ـ بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة ثم تاء التأنيث ـ ابن رؤبة ـ بضم الراء فهمزة ساكنة فموحدة ـ صاحب أيلة ، وأهدى له بغلة بيضاء ، فكساه النبي رداء وصالحه على إعطاء الجزية ، بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم وكتب له ولأهل أيلة كتابا تركه عندهم ليعلموا ، وقد استشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه في مجاوزة تبوك ، فأشاروا عليه بعدم مجاوزتها ، فانصرف وهو والمسلمون راجعين إلى المدينة ، ولما دنا من المدينة ، تلقاه المتخلفون ، فقال لأصحابه : لا تكلموا رجلا منهم ، ولا تجالسوهم ، حتى آذن لكم ، فصار الرجل يعرض عن أبيه وأخيه. قوله : (وكانوا في عسرة) أي قحط وضيق عيش ، حتى أن الرجلين ليجتمعان على التمرة الواحدة. قوله : (وشدة حر) أي حتى كانوا يشربون الفرث. قوله : (فشق عليهم) أي فتخلف عنهم عشرة قبائل ، ويقال لها غزوة العسرة الفاضحة ، لأنها اظهرت حال المنافقين.

قوله : (ما لَكُمْ) ما مبتدأ ، و (لَكُمْ) خبره ، و (اثَّاقَلْتُمْ) حال ، و (إِذا) ظرف لتلك الحال مقدم عليها ، والتقدير أي شيء ثبت لكم من الضرر حال كونكم متثاقلين وقت قول الرسول لكم انفروا إلخ. قوله : (بادغام التاء إلخ) أي فالأصل تثاقلتم ، أبدلت التاء ثاء وأدغمت فيها ، وأتى بهمزة الوصل

٤٦

الجهاد (إِلَى الْأَرْضِ) والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ولذاتها (مِنَ الْآخِرَةِ) أي بدل نعيمها (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي) جنب متاع (الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٣٨) حقير (إِلَّا) بادغام لا في نون إن الشرطية في الموضعين (تَنْفِرُوا) تخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يأتي بهم بدلكم (وَلا تَضُرُّوهُ) أي الله أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (شَيْئاً) بترك نصره فإن الله ناصر دينه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) ومنه نصر دينه ونبيه (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ) حين (أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة أي ألجأوه إلى الخروج لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه بدار الندوة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال أي أحد اثنين والآخرة أبو بكر المعنى نصره الله في مثل تلك الحالة فلا يخذله في غيرها (إِذْ) بدل من إذ قبله (هُما فِي الْغارِ) نقب في جبل ثور بدل ثان (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) أبي بكر وقد قال له لما رأي أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بنصره (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) طمأنينته (عَلَيْهِ) قيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل على أبي بكر (وَأَيَّدَهُ) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِجُنُودٍ

____________________________________

توصلا للنطق بالساكن. قوله : (وملتم) قدره إشارة إلى أنه ضمن اثاقلتم معنى ملتم فعداه بإلى.

قوله : (أَرَضِيتُمْ) الاستفهام للتوبيخ والتعجب. قوله : (حقير) أي لأن لذات الدنيا خسيسة مشوبة بالمكدرات والآفات سريعة الزوال ، بخلاف لذات الآخرة ، فهي شريفة منزهة عن الأقذار والأكدار ، باقية لا منتهى لها. قوله : (بإدغام لا في نون إن) العبارة فيها قلب ، والأصل بإدغام إن في لام لا. قوله : (في الموضعين) أي هذا وقوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ). قوله : (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قيل : المراد في الآخرة ، وقيل المراد في الدنيا باحتباس المطر ، لما روي أنه سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا ، فأمسك الله عنهم المطر ، فكان ذلك عذابهم. قوله : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) قيل المراد بهم أبناء فارس ، وقيل أهل اليمن. قوله : (ومنه نصر دينه) أي ولو من غير واسطة.

قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) شرط حذف جوابه تقديره فسينصره الله ، وأما قوله : (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) فتعليل للجواب ، ولا يصلح أن يكون جوابا لأنه ماض ، وقوله : (إِذْ أَخْرَجَهُ) ظرف لقوله : (نَصَرَهُ) وهذا خطاب لمن تثاقل عن تلك الغزوة. قوله : (بدار الندوة) تقدم إيضاح ذلك في سورة الأنفال في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ. قوله : (حال) أي من الهاء في (أَخْرَجَهُ) والتقدير : إذ أخرجه الذين كفروا ، حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر. قوله : (بدل من إذ قبله) أي بدل بعض من كل ، لأن الإخراج زمنه ممتد ، فيصدق على زمن استقرارهما في الغار ، وإلا فزمن الإخراج مباين لزمن حصولهما في الغار ، لأن بين الغار ومكة مسيرة ساعة.

قوله : (لا تَحْزَنْ) أي لا تهتم ، وكان حزن الصديق على رسول الله لا على نفسه ، ورد أنه قال له : إذا مت فأنا رجل واحد ، وإذا مت أنت ، هلكت الأمة والدين. قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي معية معنوية خاصة. قوله : (قيل على النبي) أي فيكون المراد ، زاده سكينة وطمأنينة حتى عمت أبا بكر ، وإلا

٤٧

لَمْ تَرَوْها) ملائكة في الغار ومواطن قتاله (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي دعوة الشرك (السُّفْلى) المغلوبة (وَكَلِمَةُ اللهِ) أي كلمة الشهادة (هِيَ الْعُلْيا) الظاهرة الغالبة (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه (حَكِيمٌ) (٤٠) في صنعه (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) نشاطا وغير نشاط وقيل أقوياء وضعفاء أو أغنياء وفقراء وهي منسوخة بآية ليس على الضعفاء (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١) أنه خير لكم فلا تثاقلوا. ونزل في المنافقين الذين تخلفوا (لَوْ كانَ) ما دعوتهم إليه (عَرَضاً) متاعا من الدنيا (قَرِيباً) المأخذ (وَسَفَراً قاصِداً) وسطا (لَاتَّبَعُوكَ) طلبا للغنيمة (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) المسافة فتخلفوا (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) إذا رجعتم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا) الخروج (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بالحلف الكاذب (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢) في قولهم ذلك وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لجماعة في التخلف باجتهاد

____________________________________

فرسول الله لم يسبق له انزعاج ، لمزيد ثقته بربه. قوله : (وقيل على أبي بكر) أي لأنه هو المنزعج. قوله : (ملائكة في الغار) أي يحرسونه من أعدائه. قوله : (ومواطن قتاله) الواو بمعنى أو ، لأنه تفسير ثان. قوله : (أي دعوة الشرك) أي دعوة أهل الشرك الناس إليه ، أو المراد عقيدة أهل الشرك. قوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) القراء السبعة على الرفع مبتدأ ، وهي إما ضمير فصل ، أو مبتدأ ثان ، والعليا إما خبر عن كلمة ، أو عن الضمير ، والجملة خبر كلمة وقرىء شذوذا بالنصب ، معطوفا على مفعول (جَعَلَ).

قوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) ذكر المفسر في معنى ذلك ثلاثة أقوال ، وهي من جملة أقوال كثيرة ذكرها المفسرون ، فقيل الخفيف الذي لا ضيعة له ، والثقيل الذي له الضيعة ، وقيل الخفيف الشاب ، والثقيل الشيخ ، وقيل غير ذلك فالمقصود تعميم الأحوال ، أي انفروا على أي حال كنتم عليه ، وهذا الحكم باق ، إذا تعين الجهال بأن فجأ العدو ، وأما في حال كونه فرض كفاءة ، فليس حكم العموم باقيا ، بل منسوخ إما بآية (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أو بآية (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) إلخ. قوله : (نشاطا) بكسر النون جمع نشيط ، ككرام وكريم. قوله : (وهي منسوخة) أي على القولين الأخيرين ، لا على الأول فهي محكمة. قوله : (أنه خير) مفعول (تَعْلَمُونَ). قوله : (فلا تثاقلوا) جواب الشرط. قوله : (في المنافقين) أي كعبد الله بن أبي وأضرابه. قوله : (متاعا من الدنيا) سمي عرضا لسرعة زواله كالعرض. قوله : (المسافة) أي التي تقطع بالمشقة ، فهي مشتقة من المشقة.

قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ) هذا إخبار من الله بالغيب ، فإن هذه الآية نزلت قبل رجوعه من تبوك. قوله : (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) هذه الجملة سدت مسد جواب القسم والشرط. قوله : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) هذا مرتب على قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ) المعنى يزدادون بها هلاكا لأنهم هالكون بالكفر ، ويزيدون هلاكا باليمين الكاذبة ، لما في الحديث : «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع». قوله : (لجماعة) أي من المنافقين. قوله : (باجتهاد منه) هذا أحد قولين ، والآخر أنه لا يجتهد ، والحاصل أنه اختلف هل يجوز على النبي الاجتهاد في غير الأحكام التكليفية الصادرة من الله تعالى ، أو لا يجوز؟ والصحيح الأول ، ولكنه في اجتهاده دائما مصيب ، وعتاب الله له إنما هو على فعل أمر مباح له ، فهو من باب حسنات الأبرار ، سيئات المقربين ، لا على وزر فعله ، فاعتقاد ذلك كفر.

٤٨

منه فنزل عتابا له وقدم العفو تطمينا لقلبه (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) في التخلف وهلا تركتهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في العذر (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣) فيه (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في التخلف عن (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٤٤) (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في التخلف (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ) شكت (قُلُوبُهُمْ) في الدين (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥) يتحيرون (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معك (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أهبة من الآلة والزاد (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أي لم يرد خروجهم (فَثَبَّطَهُمْ) كسلهم (وَقِيلَ) لهم (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) المرضى والنساء والصبيان أي قدر الله تعالى ذلك (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) فسادا بتخذيل المؤمنين (وَلَأَوْضَعُوا

____________________________________

قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) أي عن هذا الأمر الذي فعلته. قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) اللام الأولى للتعليل ، والثانية للتبليغ ، وكلاهما متعلق بأذنت ، فلم يلزم عليه تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد ، والمعنى لأي شيء أذنت لهم في التخلف عن الجهاد. قوله : (وهلا تركتهم) قدره إشارة إلى أن قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ، غاية ذلك المحذوف. قوله : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) أي لا يليق منهم ، وليس من عادتهم الاستئذان في الواجب عليهم ، بل الخالص في الإيمان ، يبادر إليه من غير توقف ، فحيث وقع من هؤلاء الاستئذان ، كان دليلا على نفاقهم. قوله : (في التخلف) أي من غير عذر. قوله : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) إنما أسند الريب للقلب ، لأنه محله ، كما أنه محل الإيمان والمعرفة.

قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) إلخ ، هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم خروج المنافقين معه ، إذ لا فائدة فيه ولا مصلحة ، وعتاب الله على الأذن لهم في التخلف ، إنما هو لأجل إظهار حالهم وفضيحتهم ، كأن الله يقول لنبيه : كان الأولى لك عدم الإذن لهم في التخلف ليظهر حالهم ، فإن القرائن دالة على أنهم لا يريدون الخروج لعدم التأهب له.

قوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) استدارك على قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) لأنه في معنى النفي ، فهو استدارك على ما يتوهم ثبوته ، وهو محبة الله منهم الخروج ، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا ، ولكن لم يريدوه لكراهة الله انبعاثهم ، لما فيه من المفاسد ، فلم يعدوا له عدة ، وهذا أحسن ما يقال. قوله : (أي قدر الله تعالى ذلك) جواب عما يقال : حيث أمرهم الله بالقعود ، كان قعودهم محمودا لا مذموما ، فأجاب بأنه ليس المراد بالقول حقيقته ، بل المراد به الإرادة والتقدير. وأجيب أيضا بأن القائل الشيخان وهو يا أمر بالفحشاء والمنكر ، وأجيب أيضا : بأن القائل الله حقيقة والقول على حقيقته ، وهو أمر تهديد على حد : اعملوا ما شئتم.

قوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) هذا بيان للمفاسد التي تترتب على خروجهم. إن قلت : إن مقتضى العتاب المتقدم أن خروجهم فيه مصلحة ، ومقتضى ما هنا أن خروجهم مفسدة ، فكيف الجمع بينهما؟ أجيب بأن خروجهم مفسدة عظيمة ، وعتاب الله لنبيه ، إنما هو على عدم التأني ، حتى يظهر نفاقهم وفضيحتهم ، وليس في خروجهم مصلحة أصلا ، كما علمت. قوله : (ما زادُوكُمْ إِلَّا

٤٩

خِلالَكُمْ) أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة (يَبْغُونَكُمُ) يطلبون لكم (الْفِتْنَةَ) بإلقاء العداوة (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) ما يقولون سماع قبول (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧) (لَقَدِ ابْتَغَوُا) لك (الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أول ما قدمت المدينة (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي أجالوا الفكر في كيدك وإبطال دينك (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) النصر (وَظَهَرَ) عز (أَمْرُ اللهِ) دينه (وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨) له فدخلوا فيه ظاهرا (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في التخلف (وَلا تَفْتِنِّي) وهو الجد بن قيس قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لك في جلاد بني الأصفر فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن فأفتتن : قال تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) بالتخلف. وقرىء سقط (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩) لا محيص لهم عنها (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) كنصر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) شدة (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) بالحزم حين تخلفنا (مِنْ قَبْلُ) قبل هذه

____________________________________

خَبالاً) يصح أن يكون استثناء منقطعا ، والمعنى ما زادوكم قوة ولكن خبالا أو متصلا من عموم الأحوال ، والمعنى ما زادوكم شيئا أصلا إلا خبالا.

قوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الإيضاع في الأصل سرعة سير البعير ، ثم استعير الإيضاع لسرعة الإفساد ، ففي الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه سرعة الإفساد بسرعة سير الركائب ، ثم اشتق منه أوضعوا بمعنى أسرعوا ، وفي الخلال استعارة مكنية ، حيث شبه الخلال بركائب تسرع في السير ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه ، وهو أوضعوا بمعنى أسرعوا فإثباته تخييل.

قوله : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) حال من فاعل أوضعوا ، والتقدير طالبين لكم الفتنة. قوله : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) يحتمل أن يكون المراد جواسيس منهم يتسمعون لهم الأخبار منكم ، ويحتمل أن يكون الضمير في فيكم ، عائدا على المؤمنين ، والمعنى أن في المؤمنين ضعفاء قلوب ، يصغون إلى قول المنافقين بالتخذيل والإفساد ، لظنهم صحة إيمانهم. قوله : (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذه الغزوة ، كالواقع من المنافقين في أحد وفي الأحزاب. قوله : (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي استمروا على تقليب الأمور حتى إلخ. قوله : (وهو الجد بن قيس) وهو منافق عنيد ، حتى أنه من قباحته امتنع من مبايعة رسول الله تحت الشجرة في بيعة الرضوان ، واختفى تحت بطن ناقته. قوله : (في جلاد بني الأصفر) أي ضربهم بالسيوف ، وفي نسخة جهاد ، وهي ظاهرة ، وبنو الأصفر هم ملوك الروم ، أولاد الأصفر بن روم بن عيص بن إسحاق. قوله : (وقرىء سقط) أي بالإفراد مراعاة للفظ من ، والضمير عائد على الجد بن قيس ، وهي شاذة كما هي قاعدته.

قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) أي في بعض الغزوات. قوله : (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) أي في بعضها ، وقابل الحسنة بالمصيبة ، إشارة إلى أن الثواب مترتب على كل منهما ، وإنما قابلها بالسيئة في آل عمران ، لأنها خطاب للمؤمنين ، وفيهم من ير اها سيئة. قوله : (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي أدركنا ما أهمنا من

٥٠

المصيبة (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (٥٠) بما أصابك (قُلْ) لهم (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) إصابته (هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولي أمورنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١) (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ) فيه حذف إحدى التاءين من الأصل أي تنتظرون أن يقع (بِنا إِلَّا إِحْدَى) العاقبتين (الْحُسْنَيَيْنِ) تثنية حسنى تأنيث أحسن النصر أو الشهادة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ) ننتظر (بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقارعة من السماء (أَوْ بِأَيْدِينا) بأن يؤذن لنا في قتالكم (فَتَرَبَّصُوا) بنا ذلك (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢) عاقبتكم (قُلْ أَنْفِقُوا) في طاعة الله (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) ما أنفقتموه (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٣) والأمر هنا بمعنى الخبر (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ) بالتاء الياء (مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ) فاعل وأن تقبل مفعول (كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلون (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤) النفقة لأنهم يعدونها مغرما (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي لا تستحسن نعمنا عليهم فهي استدراج (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) أي أن يعذبهم (بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما يلقون في جمعها من المشقة وفيها من المصائب (وَتَزْهَقَ) تخرج (أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥) فيعذبهم في الآخرة أشد

____________________________________

الأمور ، وهو موالاة الكفار ، واعتزال المسلمين ، وغير ذلك من أنواع النفاق. قوله : (وَهُمْ فَرِحُونَ) الجملة حالية من فاعل (يَتَوَلَّوْا). قوله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) أي ردا لقولهم : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ). قوله : (الْحُسْنَيَيْنِ) صفة لموصوف محذوف ، قدره المفسر بقوله : (العاقبتين). قوله : (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) أي العاقبتين السيئتين. قوله : (بقارعة) أي صاعقة. قوله : (فَتَرَبَّصُوا) إلخ ، أي فإنا منتظرون ما يسرنا وأنتم منتظرون ما يسوؤكم.

قوله : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) إلخ ، نزلت في الجد بن قيس ، حيث قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن لي في القعود ، وأنا أعطيك مالي والمعنى قل لهم اتصافكم بصفات المؤمنين في الإنفاق والصلاة لا يفيدكم شيئا. قوله : (طَوْعاً) أي من غير إلزام. وقوله : (أَوْ كَرْهاً) أي بإلزام. قوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أي ولم تزالوا كذلك ، فالمراد فاسقون فيما مضى وفي المستقبل. قوله : (والأمر هنا بمعنى الخبر) أي فالمعنى نفقتكم طوعا أو كرها غير مقبولة. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) استثناء من عموم الأشياء ، كأنه قيل : ما منعهم قبول نفقتهم لشيء من الأشياء إلا لثلاثة أمور : كفرهم بالله ورسوله ، وإيتائهم الصلاة في حال كسلهم ، وإنفاقهم مع الكراهة. قوله : (لأنهم يعدونها مغرما) أي لأنهم لا يرجون عليها ثوابا ، ولا يخافون على تركها عقابا. قوله : (فهي استدارج) أي ظاهرها نعمة ، وباطنها نقمة. قوله : (بما يلقون في جمعها من المشقة) جواب عما يقال : إن المال والولد سرور في الدنيا ، فأجاب بأن المراد بكونهما عذابا ، باعتبار ما يترتب عليهما من المشقة. إن قلت : إن هذا ليس مختصا بالمنافق ، بل المؤمن كذلك بهذا الاعتبار. أجيب : بأن المؤمن يرجو الآخرة والراحة فيها والتنعم بسبب المشقات ، فكأنها ليست مشقة ، والمنافق ليس كذلك ، فهي حينئذ مشقة في الدنيا والآخرة. قوله : (أَنْفُسُهُمْ) أي أرواحهم. قوله : (يَفْرَقُونَ) الفرق بالتحريك الخوف.

٥١

العذاب (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي مؤمنون (وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٥٦) يخافون أن تفعلوا بهم كالمشركين فيحلفون تقية (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) يلجؤون إليه (أَوْ مَغاراتٍ) سراديب (أَوْ مُدَّخَلاً) موضعا يدخلونه (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧) يسرعون في دخوله والانصراف عنكم إسراعا لا يرده شيء كالفرس الجموح (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) يعيبك (فِي) قسم (الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٥٨) (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) من الغنائم ونحوها (وَقالُوا حَسْبُنَا) كافينا (اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) من غنيمة أخرى ما يكفينا (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) (٥٩) أن يغنينا وجواب لو : لكان خيرا لهم (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) الزكوات مصروفة (لِلْفُقَراءِ) الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم

____________________________________

قوله : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) إلخ ، أي لو قدروا على الهروب منكم ، ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم ، والمعنى أنهم وإن كانوا يحلفون لكم أنهم منكم ، فهم كاذبون في ذلك ، لأنهم لو وجدوا مكانا يلجؤون إليه ، من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أو مغارات ، وهي الأماكن المنخفضة في الأرض أو في الجبل أو سراديب ، أي أماكن ضيقة لفروا إليها. قوله : (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) في المصباح : جمع الفرس براكبه يجمح : استعصى حتى غلبه اه ، ففيه إشارة إلى أنهم كالدابة الجموح التي لا تقبل الإنقياد بوجه من الوجوه.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) هذا بيان لحال بعض المنافقين ، وقوله : (يَلْمِزُكَ) من باب ضرب واللمز الإشارة بعين ونحوها على سبيل التنقيص ، فهو أخص من الغمز ، إذ هو الإشارة بعين ونحوها مطلقا ، والمراد هنا الإعابة بالقول. قيل : نزلت في أبي الجواظ المنافق ، بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء ، ومعناه الضخم المتكبر الكثير الكلام ، حيث قال : ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم على رعاء الغنم ، ويزعم أنه يعدل. وقيل : نزلت في ذي الخويصرة التميمي ، وقيل اسمه حرقوص بن زهير ، وهو أصل الخوارج. قوله : (فِي الصَّدَقاتِ) المراد بها قيل الزكاة ، وقيل الغنائم ، وقيل ما هو أعم ، وهو الأولى بدليل ما يأتي للمفسر. قوله : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي ما يريدون. قوله : (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) إذا فجائية قامت مقام الفاء ، والأصل فهم. قوله : (ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) نسبة الإعطاء لله حقيقة ، وللرسول مجازية ، وفيه إشارة إلى أن ما فعله الرسول ، إنما هو على طبق ما أمر الله به.

قوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي (كافينا). قوله : (أن يغنينا) أي في أنه يغنينا ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بفي متعلقة بيغنينا ، ويؤخذ من الآية تعليم العباد التعفف ، والاعتماد على الله تعالى ، وتفويض الأمور إليه ، فإن الأرزاق بيده تعالى متكفل بها ، لا يقطعها عن عباده ولو خالفوه.

قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) رد على المنافقين الذين يزعمون أن رسول الله يأخذ الصدقات لنفسه ولأهل بيته ، فبين في هذه الآية المستحقة لها الأصناف الثمانية ، ورسول الله وأهل بيته محرمة عليهم ، تشريفا لهم وتطهيرا ، والآية من قصر الموصوف على الصفة ، أي الصدقات مقصورة على الإتصاف ، بصرفها لهؤلاء الثمانية. قوله : (مصروفة) قدره ليتعلق به الجار والمجرور. قوله : (الذي لا يجدون ما يقع

٥٢

(وَالْمَساكِينِ) الذين لا يجدون ما يكفيهم (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) أي الصدقات من جاب وقاسم وكاتب وعاشر (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ليسلموا أو يثبت إسلامهم أو يسلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقسام والأول والأخير لا يعطيان اليوم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه لعز الإسلام بخلاف الأخيرين فيعطيان على الأصح (وَفِي) فك (الرِّقابِ) أي المكاتبين (وَالْغارِمِينَ) أهل الدين إن استدانوا لغير معصية أو تابوا وليس لهم وفاء أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) أي القائمين بالجهاد ممن لا فيء لهم ولو أغنياء (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره

____________________________________

موقعا من كفايتهم) صادق بأن لا يجدون شيئا أصلا ، أو لا يجدون شيئا لا يقع الموقع من كفايتهم.

قوله : (وَالْمَساكِينِ) (الذين لا يجدون ما يكفيهم) صادق بأن لا يجدوا شيئا أصلا ، أو يجدوا شيئا لا يقع الموقع أو يقع ، ولكن لا يكفيهم ، فالفقير على هذا أسوأ حالا من المسكين ، وهذا مذهب الإمام الشافعي ، وعند مالك بالعكس ، فالمسكين من لا يملك شيئا أصلا ، والفقير من عنده شيء لا يكفيه ، والمراد بالكفاية عند مالك كفاية سنة ، وعند الشافعي كفاية العمر الغالب ، وهو ستون سنة. قوله : (من جاب إلخ) أي وهو الذي يجمع الزكوات من أربابها ، والقاسم الذي يقسمها على المستحقين ، والكاتب الذي يكتب ما أعطاه أرباب الأموال ، والعاشر الذي يجمع أرباب الأموال ليأخذ منهم الجابي الزكاة. قوله : (ليسلموا) أي يرجى بإعطائهم إسلامهم. بقوله : (أو يثبت إسلامهم) أي فهم حديثو عهد بالإسلام ، فنعطيهم ليتمكن الإسلام من قلوبهم. قوله : (أو يسلم نظراؤهم) أي فهم كبار قبيلة أسلموا ، فيعطون ليسلم نظراؤهم من الكفار. قوله : (أو يذبوا عن المسلمين) أي يدفعوا الكفار ويردوهم عن المسلمين ، والحال أنهم مسلمون. قوله : (والأول والأخير) أي الكافر ليسلم والذاب عن المسلمين. قوله : (لا يعطيان) هذا ضعيف عندهم ، والمعتمد عندهم إعطاء الأول. قوله : (بخلاف الأخيرين) أي الثاني والثالث ، وهذا مذهب الشافعي ، وعند مالك المؤلفة قلوبهم ، إما كفار يعطون ليسلموا ، أو مسلمون يعطون ليثبت إسلامهم. قوله : (وَفِي الرِّقابِ) إنما أضيفت الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأول باللام ، وإلى الأربعة الأخيرة بفي ، إشارة إلى أن الأربعة الأول يملكونها ويتصرفون فيها كيف شاؤوا ، بخلاف الأربعة الأخيرة فيقيد بما إذا صرفت مصارفها ، فإذا لم يحصل نزعت منهم. قوله : (أي المكاتبين) أي ليستعينوا بها على فك رقابهم ، وهذا التفسير على مذهب الإمام الشافعي ، وعند مالك وأحمد : أن معناه يشترى بها رقيق كامل الرق ، ويعتق ولاؤه للمسلمين ، وعند أبي حنيفة : يشترى بها بعض رقبة ، ويعان بها مكاتب ، لأن قوله : (فِي الرِّقابِ) يقتضي التبعيض. قوله : (لغير معصية) أي بأن استدانوا المباح ، ولو صرفوه في معصية ، وهذا مذهب الشافعي ، وعند مالك : إذا صرفوه في معصية ، لا يعطون منها إلا إذا تابوا. قوله : (أو تابوا) أي ظهرت توبتهم ، لا بمجرد قولهم تبنا مثلا. قوله : (أو لإصلاح ذات البين) أي كأن خيف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله ، فتحملوا الدية تسكينا للفتنة. قوله : (أي القائمين بالجهاد) إلخ ، أي ويشتري منها آلته من سلاح ودرع وفرس ، ومذهب مالك أن طلبة العلم المنهكين فيه ، لهم الأخذ من الزكاة ولو أغنياء ، إذا انقطع حقهم من بيت المال ، لأنهم مجاهدون.

قوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) الإضافة لأدنى ملابسة ، أي الملازم للطريق. قوله : (المنقطع في سفره) أي

٥٣

(فَرِيضَةً) نصب بفعله المقدر (مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه (حَكِيمٌ) (٦٠) في صنعه فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء ولا يمنع صنف منهم إذا وجد فيقسمها الإمام عليهم على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض وأفادت اللام وجوب استغراق أفراده لكن لا يجب على صاحب المال إذا قسم لعسره بل يكفي إعطاء ثلاثة من كل صنف ولا يكفي دونها كما أفادته صيغة الجمع وبينت السنة أن شرط المعطى منها الإسلام وأن لا يكون هاشميا ولا مطلبيا (وَمِنْهُمُ) أي المنافقين (الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) بعيبه وبنقل حديثه (وَيَقُولُونَ) إذ نهوا عن ذلك لئلا يبلغه (هُوَ أُذُنٌ) أي يسمع كل قيل ويقبله فإذا حلفنا له أنا لم نقل صدقنا (قُلْ) هو (أُذُنٌ) مستمع (خَيْرٍ لَكُمْ) لا مستمع شر (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ) يصدق (لِلْمُؤْمِنِينَ) فيما أخبروه به لا لغيرهم واللام زائدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره (وَرَحْمَةٌ) بالرفع عطفا على أذن والجر عطفا

____________________________________

إن كان سفره في غير معصية ، وإلا فلا يعطى ، ولو خيف عليه الموت ما لم يتب ، ويعطى بشرط أن لا يجد مسلفا ، وهو مليء ببلده. قوله : (فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء) أخذ ذلك من الحصر وهو محل وفاق. قوله : (ولا يمنع صنف منهم) هذا مذهب الشافعي ، وعند مالك : لا يلزم تعميم الأصناف ، فاللام في (للفقراء) إلخ ، لبيان المصرف لا للاستحقاق. قوله : (فيقسمها الإمام عليهم على السواء) هذا مذهب الشافعي ، وعند مالك : لا يلزم ذلك ، بل يندب إيثار المضطر. قوله : (لعسره) علة لعدم وجوب الاستغراق. قوله : (الإسلام) هذا في غير المؤلفة قلوبهم. قوله : (وأن لا يكون هاشميا ولا مطلبيا) هذا مذهب الشافعي ، وعند مالك : الذين تحرم عليهم الزكاة بنوا هاشم فقط ، وهذا إن كان حقهم من بيت المال جاريا ، وإلا فهم أولى من غيرهم ، فإعطاؤهم أسهل من تعاطيهم خدمة الذمي والفاجر.

قوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) سبب نزولها : أن جماعة من المنافقين تكلموا في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يليق ، فقال بعضهم لبعض : كفوا عن ذلك الكلام لئلا يبلغه ذلك ، فيقع لنا منه الضرر ، فقال الجلاس ، بضم الجيم وفتح اللام المخففة ، ابن سويد : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا فيما نقول ، فإنما محمد أذن. قوله : (أي يسمع كل ما قيل) أي من غير أن يتأمل فيه ، ويميزنا باطنه من ظاهره ، فقصدوا بذلك وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغفلة ، لأنه كان لا يقابلهم بسوء أبدا ، وتحمل أذاهم ويصفح عنهم ، فحملوه على عدم التنبه والغفلة ، وإنما كان يفعل ذلك رفقا بهم ، وتغافلا عن عيوبهم ، وفي تسميته إذنا مجاز مرسل ، من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة في استماعه ، حتى صار كأنه هو آلة السماع ، كما يسمى الجاسوس عينا.

قوله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي يسمع الخير ، ولا يسمع الشر. قوله : (يؤمن بالله) إلخ ، هذا إيضاح لكونه أذن خير. قوله : (واللام زائدة) جواب عما يقال : لم زيدت اللام مع أن الإيمان يتعدى بالباء. فأجاب : بأنها زيدت للفرق بين إيمان التسليم وهو قوله : (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أي يسلم لهم قولهم ويصدقهم فيما يقولونه ، وبين إيمان التصديق المقابل للكفر وهو قوله : (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) ، أي يصدق بالله ويوحده. قوله : (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي أظهروا الإيمان منكم ، وهذه الرحمة بمعنى الرفق بهم ،

٥٤

على خير (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١) (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) أيها المؤمنون فيما بلغكم عنهم من أذى الرسول أنهم ما أتوه (لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) بالطاعة (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٦٢) حقا ، وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين أو خبر الله ورسوله محذوف (أَلَمْ يَعْلَمُوا) ب (أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يُحادِدِ) يشاقق (اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) جزاء (خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣) (يَحْذَرُ) يخاف (الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي المؤمنين (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق وهم مع ذلك يستهزئون (قُلِ

____________________________________

وعدم كشف أسرارهم ، لا بمعنى التصديق لهم ، فإن رحمته في الدنيا عامة للبر والفاجر ، وفي الآخرة مختصة بالبر دون الفاجر ، إذ هي تابعة لرحمة الله تعالى وإحسانه.

قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) أي يحلف المنافقون للمؤمنين ، أنه ما وقع منهم الإيذاء للنبي ، وقصدهم بذلك إرضاء للمؤمنين ليذبوا عنهم ، إذا أراد رسول الله أن يفتك بهم ، وسبب نزولها : أنه اجتمع ناس من المنافقين ، منهم الجلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت ، فوقعوا في رسول الله قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير ، وكان عندهم غلام يقال له عامر بن قيس ، ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره ، فدعاهم وسألهم ، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب ، وحلف عامر أنهم كذبوا ، فصدقهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل عامر يدعو ويقول : اللهم صدق الصادق ، وكذب الكاذب. قوله : (ما أتوه) أي ما فعلوه ، وفي نسخة آذوه. قوله : (لِيُرْضُوكُمْ) علة لقوله : (يَحْلِفُونَ). قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) الجملة حالية من ضمير يحلفون ، والمعنى يحلفون لكم لإرضائكم ، والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء.

قوله : (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي فليرضوا الله ورسوله. قوله : (وتوحيد الضمير) إلخ ، أشار المفسر لثلاثة أجوبة عن سؤال وارد على الآية حاصله أن لفظ الجلالة مبتدأ ، و (رَسُولُهُ) مبتدأ ثان معطوف عليه ، وجملة (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) خبر ، والضمير مفرد ، وما قبله مثنى ، فلم أفرد الضمير؟ فأجاب المفسر : بأنه أفرده ، لأن الرضاءين واحد ، لأن رضا رسول الله تابع لرضا الله ولازم له ، فالكلام جملة واحدة ، أو الجملة خبر عن رسوله ، وحذف خبر لفظ الجلالة لدلالة ما بعده عليه ، أو خبر عن لفظ الجلالة ، وخبر رسوله محذوف ، لدلالة ما قبله عليه ، ففيه : إما الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه ، أو بالعكس.

قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) الإستفهام للتوبيخ. قوله : (مَنْ يُحادِدِ اللهَ) من : شرطية مبتدأ ، وقوله : (فَأَنَ) إلخ خبر لمحذوف أي فحق أن له الخ ، والجملة جواب الشرط ، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر (مَنْ) ، ومجموع اسم الشرط وفعله وجزائه خبر أن الأولى ، وجملة أن الأولى من اسمها وخبرها ، سدت مسد مفعولي يعلم. قوله : (جزاء) تمييز. قوله : (خالِداً فِيها) حال مقدرة. قوله : (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي المؤمنين ، وقوله : (تُنَبِّئُهُمْ) أي تخبر المؤمنين ، وقوله : (بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي المنافقين من الحقد والحسد للمؤمنين.

٥٥

اسْتَهْزِؤُا) أمر تهديد (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) مظهر (ما تَحْذَرُونَ) (٦٤) إخراجه من نفاقكم (وَلَئِنْ) لام قسم (سَأَلْتَهُمْ) عن استهزائهم بك والقرآن وهم سائرون معك إلى تبوك (لَيَقُولُنَ) معتذرين (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) في الحديث لنقطع به الطريق ولم نقصد ذلك (قُلْ) لهم (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٦٥) (لا تَعْتَذِرُوا) عنه (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي ظهر كفركم بعد إظهار الأيمان (إِنْ نَعْفُ) بالياء مبنيا للمفعول والنون مبنيا للفاعل (عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) باخلاصها وتوبتها كمخشي بن حمير (نُعَذِّبْ) بالتاء والنون (طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦) مصريين على النفاق والاستهزاء (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي متشابهون في الدين كأبعاض الشيء الواحد (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) المفر والمعاصي (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) الإيمان والطاعة (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)

____________________________________

قوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) إلخ ، نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا لرسول الله على العقبة ، لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ، وتنكروا عليه في ليلة مظلمة ، فأخبر جبريل رسول الله بما قد أضمروا ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ؛ وكان معه عمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله ، وسراقة يسوقها ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فضربها حذيفة حتى نحاها عن الطريق ، فلما نزل قال لحذيفة : هل عرفت من القوم أحدا؟ فقال : لم أعرف منهم أحدا يا رسول الله ، فقال رسول الله : إنهم فلان وفلان ، حتى عدهم كلهم ، فقال حذيفة : هلا بعثت إليهم من يقتلهم؟ فقال : أكره أن تقول العرب : لما ظفر بأصحابه أقبل بقتلهم ، بل يكفينا الله بالديلة ، وهي خراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم. قوله : (وهم سائرون معك) أي فكانوا يقولون : هيهات هيهات ، يريد هذا الرجل أن يفتح حصون الشام وقصورها ، فأطلع الله نبيه على ما قالوه ، فقال لهم : هل قلتم كذا وكذا؟ فقالوا : لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بنا السفر.

قوله : (أَبِاللهِ) أي بفرائضه وحقوقه. قوله : (وَآياتِهِ) أي كلماته القرآنية. قوله : (رَسُولِهِ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (عنه) أي الاستهزاء. قوله : (مبنيا للمفعول) إلخ ، أي ونائب الفاعل عن طائفة ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (كمخشي بن حمير) وفي بعض النسخ كجحش بن حمير ، أسلم وحسن إسلامه ، كان يضحك ولا يخوص ، وكان ينكر بعض ما يسمع ، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ تقشعر منها الجلود ، وتخفق منها القلوب ، اللهم اجل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ، فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه. قوله : (الْمُنافِقُونَ) أي وكانوا ثلثمائة. قوله : (وَالْمُنافِقاتُ) أي وكن مائة وسبعين. قوله : (أي متشابهون في الدين) أي الذي هو النفاق فهم على أمر واحد مجتمعون عليه.

قوله : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن عدم الإنفاق ، لأن شأن المعطي بسط اليد ، وشأن الممسك

٥٦

عن الإنفاق في الطاعة (نَسُوا اللهَ) تركوا طاعته (فَنَسِيَهُمْ) تركهم من لطفه (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧) (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) جزاء وعقابا (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨) دائم. أنتم أيها المنافقون (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا) تمتعوا (بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من الدنيا (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) أيها المنافقون (بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ) في الباطل والطعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَالَّذِي خاضُوا) أي كخوضهم (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩) (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ) خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ) قوم هود (وَثَمُودَ) قوم صالح (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) قوم شعيب (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قرى قوم لوط أي أهلها (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات فكذبوهم فأهلكوا (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بأن يعذبهم بغير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

____________________________________

قبضها. قوله : (تركوا) (اللهَ) جواب عما يقال : إن النسيان لا يؤاخذ به الإنسان. فأجاب : بأن المراد به الترك. قوله : (تركهم) جواب عما يقال : إن النسيان مستحيل على الله تعالى. فأجاب بأن المراد به الترك. قوله : (هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الكاملون في التمرد والفسق والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقريع.

قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) يستعمل وعد في الخير والشر ، وإنما يفترقان في المصدر ، فمصدر الأول وعد ، والثاني وعيد. قوله : (وَالْكُفَّارَ) أي المتجاهرين بالكفر ، فهو عطف مغاير. قوله : (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة. قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي غير النار كالزمهرير ، أو المراد عذاب في الدنيا. قوله : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور خبر لمحذوف ، قدره المفسر بقوله أنتم ، وهذا خطاب للمنافقين ، ففيه التفات من الغيبة للخطاب ، والمثلية في الأوصاف المتقدمة ، وهي الأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، وقبض اليد ، ونسيان حقوق الله الآتية بقوله : (فَاسْتَمْتَعُوا) إلخ. قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بحظوظهم الفانية ، والتشاغل بها عما يرضي الله تعالى. قوله : (أي كخوضهم) مشى المفسر على أن الذي حرف مصدري ، وهي طريقة ضعيفة لبعض النحاة ، وعليه فيقدر في الكلام مفعول مطلق ، ليكون مشبها بالمصدر المأخوذ من الذي ، والتقدير وخضتم خوضا كخوضهم ، والصحيح أن الذي اسم موصول صفة لموصوف محذوف ، والعائد محذوف تقديره كالخوض الذي خاضوه.

قوله : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) أي المنافقين والاستفهام للتقرير. قوله : (قَوْمِ نُوحٍ) إلخ ، أي وقد أهلكوا بالطوفان ، (وَعادٍ) أهلكوا بالريح العقيم. (وَثَمُودَ) أهلكوا بالرجفة ، (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) أهلكوا بسلب النعمة عنهم وبالبعوض ، (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) أهلكوا بالظلة. قوله : (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي المنقلبات التي جعل الله عليها سافلها. قوله : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) معطوف على مقدر قدره المفسر بقوله : (فكذبوهم فأهلكوا). قوله : (بأن يعذبهم بغير ذنب) تفسير للظلم المنفي أي الواقع أن الله لم يعذبهم بغير ذنب ، بل لو فرض أنه عذبهم بغير ذنب لم يكن ظلما ، لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير من غير إذنه ، ولا ملك لأحد معه سبحانه وتعالى ، ولكن تفضل الله بأنه لا يعذب بغير ذنب ، ولا يجوز عليه شرعا أن يعذب في الآخرة عبدا بغير ذنب ، وإن جاز عقلا.

٥٧

يَظْلِمُونَ) (٧٠) بارتكاب الذنب (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده (حَكِيمٌ) (٧١) لا يضع شيئا إلا في محله (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أعظم من ذلك كله (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) باللسان والحجة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) بالانتهار والمقت (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣) المرجع هي (يَحْلِفُونَ) أي المنافقون (بِاللهِ ما قالُوا) ما بلغك

____________________________________

قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) إلخ ، لما بين حال المنافقين والمنافقات عاجلا وآجلا ، ذكر حال المؤمنين والمؤمنات عاجلا وآجلا. قوله : (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي في الدين ، وعبر عنهم بذلك دون المنافقين ، فعبر في شأنهم بمن ، إشارة إلى أن نسبة المؤمنين في الدين كنسبة القرابة ، وأما المنافقون فنسبتهم طبيعية نفسانية ، فهم جنس واحد. قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي يحبونه لأنفسهم ولإخوانهم ، والمعروف كل ما عرف في الشرع وهو كل خير. قوله : (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي ينفرون منه ولا يرضون به ، والمراد بالمنكر كل ما خالف الشرع. قوله : (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي باللسان والجنان وسائر الأعضاء. قوله : (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي في الدنيا بالإيمان والمعرفة ، وفي الآخرة بالخلود في الجنة ونعيمها ، ورضا الله عنهم ، وهذه الأوصاف مقابلة لأوصاف المنافقين المتقدمة. قوله : (عن إنجاز وعده) أي للمؤمنين والمؤمنات. قوله : (ووعيده) أي للمنافقين والمنافقات ، فهو لف ونشر مشوش.

قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) هذا تفصيل لما أجمل في قوله : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ). قوله : (جَنَّاتٍ) أي بساتين ، لكل مؤمن ومؤمنة ليس فيها شركة لأحد. قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي بأرضها. قوله : (خالِدِينَ فِيها) حال من المؤمنين والمؤمنات. قوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي تستطيبها النفوس وتألفها فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. قوله : (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي في بساتين إقامة ، لا تحول ولا تزول ، روي أنه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) قال : قصر من لؤلؤة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش زوجة من الحور العين ، وفي رواية : في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام.

قوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) التنوين للتقليل ، أي أقل رضوان يأتيهم من الله ، أكبر من ذلك كله ، فضلا عن أكثره ، ورد أن الله تعالى يقول لأهل الجنة : رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا. قوله : (ذلِكَ) أي الرضوان. قوله : (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر بالمقصود الذي لا يضاهى. قوله : (بالسيف) المراد به جميع آلات الحرب. قوله : (باللسان والحجة) أي لا بالسيف لنطقهم بالشهادتين ، فالمراد بجهادهم بذل الجهد في نصيحتهم وتخويفهم. قوله : (بالانتهار والمقت) المراد به القتل بالنسبة للكفار ، والإهانة والزجر بالنسبة للمنافقين. قوله : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) جملة مستأنفة بيان لعاقبة أمرهم.

٥٨

عنهم من السب (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من الفتك بالنبي ليلة العقبة عند عوده من تبوك وهم بضعة عشر رجلا فضرب عمار بن ياسر وجوه الرواحل لما غشوه فردوا (وَما نَقَمُوا) أنكروا (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) بالغنائم بعد شدة حاجتهم. والمعنى لم ينلهم منه إلا هذا وليس مما ينقم (فَإِنْ يَتُوبُوا) عن النفاق ويؤمنوا بك (يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) عن الإيمان (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالقتل (وَالْآخِرَةِ) بالنار (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ) يحفظهم منه (وَلا نَصِيرٍ) (٧٤) يمنعهم (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) فيه إدغام التاء في الأصل

____________________________________

قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) هذا بيان لقبحهم وخيانة باطنهم. قوله : (كَلِمَةَ الْكُفْرِ) قيل هي كلمة الجلاس بن سويد حيث قال : إن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير ، وقيل : هي كلمة ابن أبي ابن سلول حيث قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قوله : (أظهروا الكفر) إلخ ، دفع بذلك ما يقال : إن ظاهر الآية يقتضي أنهم مسلمون ثم كفروا بعد ذلك مع أنهم لم يسلموا أصلا. فأجاب : بأن المراد أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام. قوله : (من الفتك) مثلث الفاء الأخذ على حين غفلة. قوله : (ليلة العقبة) أي التي بين تبوك والمدينة. قوله : (وهم بضعة عشر رجلا) قيل اثنا عشر ، وقيل أكثر من ذلك ، لكن لم يبلغوا العشرين ، وقد اجمع رأيهم على أن يفتكوا بالنبي في العقبة ليقع في الوادي فيموت ، فأخبره الله بما دبروه ، فلما وصل إلى العقبة ، نادى منادي رسول الله بأمره : إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة ، فلا يسلكها أحد غيره ، واسلكوا يا معشر الجيش بطن الوادي ، فإنه أسهل لكم وأوسع ، فسلك الناس بطن الوادي ، وسلك النبي العقبة ، وكان ذلك في ليلة مظلمة ، فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة ، فلما ازدحموا على رسول الله ، نفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه ، فصرخ بهم فولوا مدبرين ، وأمر عمار بن ياسر ، وقيل حذيفة ، بضرب وجوه رواحلهم ، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي واختلطوا بالناس ، فقال له النبي : هل عرفت أحدا منهم؟ قال : لا ، كانوا متلثمين والليلة مظلمة ، قال : هم فلان وفلان حتى عدهم ، قال : هل عرفت مرادهم؟ قال : لا ، قال : إنهم مكروا وأردوا الفتك بي ، وإن الله أخبرني بمكرهم ، فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا ، فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا ، فنزلت الآية ، ويؤخذ من ذلك أنهم سافروا مع رسول الله إلى تبوك ، وتقدم أنهم تخلفوا ، ويمكن الجمع بأن البعض سافر ، والبعض تخلف. قوله : (فضرب عمار بن ياسر) وقيل حذيفة.

قوله : (وَما نَقَمُوا) (أنكروا) أي ما كرهوا وما عابوا ، وفي الآية تأكيد المدح بما يشبه الذم كأنه قيل : ليس له صفة تكره وتعاب ، إلا إغناءهم من فضله بعد أن كانوا فقراء ، وهذه ليست صفة ذم ، فحينئذ ليس له صفة تذم أصلا. قوله : (وليس مما ينقم) أو يعاب ويكره. قوله : (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي داموا عليه. قوله : (وَمِنْهُمْ) أي المنافقين ، وظاهر الآية أنه حين المعاهدة كان منافقا ، وليس كذلك ، بل كان مسلما صحيحا ، وكان يلزم المسجد والجماعة ، حتى لقب بحمامة المسجد فجعله منها باعتبار ما آل إليه أمره ، ففيه مجاز الأول. قوله : (لَئِنْ آتانا) تفسير لقوله : عاهدوا ، واللام موطئة لقسم محذوف ، وإن شرطية ، و (آتانا) فعل الشرط ، وجملة (لَنَصَّدَّقَنَ) جواب القسم ، وحذف جواب الشرط ، لدلالته

٥٩

في الصاد (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥) وهو ثعلبة بن حاطب سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو له أن يرزقه الله مالا ويؤدي منه كل ذي حق حقه فدعا له فوسع عليه فانقطع عن الجمعة والجماعة ومنع الزكاة كما قال تعالى : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا) عن طاعة الله (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٧٦) (فَأَعْقَبَهُمْ) أي فصير عاقبتهم (نِفاقاً) ثابتا (فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) أي

____________________________________

عليه ولتأخره ، على حد قول ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

قوله : (فيه إدغام التاء) إلخ ، أي والأصل لنتصدقن ، قلبت التاء صادا ، ثم أدغمت في الصاد. قوله : (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في صرف المال ، بأن نصل به الأرحام ، وننفقه في وجوه البر والخير. قوله : (وهو ثعلبة بن حاطب) كان أولا صحابيا جليلا ملازما للجمعة والجماعة والمسجد ، ثم رآه النبي يسرع بالخروج إثر الصلاة ، فقال له رسول الله : لم تفعل فعل المنافقين؟ فقال : إني افتقرت ، ولي ولأمرأتي ثوب ، أجيء به للصلاة ، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به ، فادع الله أن يوسع في رزقي. وحاصل قصته أنه جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ادع الله يرزقني مالا ، فقال رسول الله : ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه. ثم أتاه بعد ذلك فقال له مثل ذلك فقال له رسول الله : أما لك فيّ أسوة حسنة ، والذي نفسي بيده ، لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ، ثم أتاه بعد ذلك فقال له : والذي بعثك بالحق ، لئن رزقني الله مالا ، لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، فكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر ، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة ، فصار لا يشهد إلا الجمعة ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد جمعة ولا جماعة ، فكان إذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره رسول الله ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبة؟ فقالوا له : يا رسول الله ، اتخذ ثعلبه غنما ما يسعها واد ، فقال رسول الله : يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، فلما نزلت آية الصدقة ، بعث رسول الله رجلا من بني سليم ، ورجلا من بني جهينة ، وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذانها وقال لهما : مرا على ثعلبة بن حاطب ، وعلى رجل من بني سليم ، فخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وقرآ عليه كتاب رسول الله ، فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ ، فانطلقا ، وسمع بهما السليمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلما رأياه قالا : ما هذا عليك؟ قال : خذاه ، فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرا على الناس وأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ، فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، اذهبا حتى أرى رأيي فانطلقا ، فلما رآهما رسول الله قال قبل أن يتكلما : يا ويح ثعلبة ، ثم دعا للسليمي بخير ، فأخبره بالذي صنع ثعلبة ، فنزلت الآية. قوله : (ويؤدي منه) الخ ، الجملة حالية من فاعل سأل. قوله : (فدعا له) أي في المرة الثالثة. قوله : (فوسع عليه) أي بأن رزق غنما ، فصارت تنمو كالدود.

قوله : (بَخِلُوا بِهِ) أي حيث منع الزكاة لما جاءه السعاة لأخذها وقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية. قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم. قوله : (إِلى يَوْمِ

٦٠